التدوينة

بقلم
محمد الصالح ضاوي
بدعة استعراض القرآن من قبل الأطفال
 يظنّ القائمون على أنشطة الدّعوة الإسلاميّة، أنّ حفظ القرآن الكريم واستعراضه من قبل الأطفال عمل إبداعي ومأجور عليه. وأنّ فوائده كثيرة، علاوة على أنّه من دعائم الإسلام في زمن الحرب على الله...لذلك تقام المسابقات الوطنيّة والعالميّة لحفظ القرآن الكريم، ويتمّ وضع ذلك في خانة الاعتناء بكلام الله تعالى...
أولا: لم ينزل كلام الله تعالى على محمد الرّسول صلى الله عليه وسلّم إلاّ ليُحدث التّغيير ويُلهم القلوب بعلاّم الغيوب... فليس الحفظ والتّكرار إلاّ فلكلورا وجانبا ظاهريّا من المسألة وليس جوهر المسألة.
روى الإمام مالك في «موطئه» عن يحيى بن سعيد، أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان: «إِنَّكَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ ، وَيُضَيَّعُ حُرُوفُهُ ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ , كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي ، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةَ ، وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ ، يُبْدُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ , قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي ، يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلاةَ ، وَيُبْدُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ»(1).
ثانيا: إن استمرار سياسة تحفيظ القرآن للنّاشئة واستعراضه كاملا، يقتل فيهم قدرات دماغيّة كثيرة ويكرّس لديهم ثقافة التّلقين والتّقليد والجمود عوض ثقافة الإبداع والتّحدي والاجتهاد. ولو كان الحفظ والتّلقين والاستعراض لسور القرآن كاملة مفيدا، لأمر به الرّسول ولكرّسه في حياته...فالإقراء وظيفة ناشئة بعد عصر الرّسول صلى الله عليه وسلم، تعرّضت للنّقد من قبل الصّحابة... وتورّطت في حروب كثيرة وثورات ضدّ الحجاج بن يوسف... ولم تكن منصورة من قبل الصّحابة والتّابعين آنذاك....
ثالثا: كانت سياسة النّبي في إقراء القرآن تتمثّل في تعليم الأطفال الإيمان، ثمّ الانتقال بهم إلى القرآن... وهو ما رواه جندب بن عبد الله... «كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِتْيَانًا حَزَاوِرَةَ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَنَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ» (2) ويُفهم من هذا الكلام أنّ الإيمان ثمرة، لا تغرس بالحفظ والتّلقين والإقراء والاستعراض، وإنّما بوضعيّات سلوكيّة وتربويّة حياتيّة، تكون روحها: توحيديّة.. ثمّ تتعزّز بالقرآن، شيئا فشيئا....خلافا لما يقع اليوم في التّنشئة الطفوليّة...
رابعا: لم يكن على عهد رسول الله من يستعرض كامل سور القرآن الاّ خمسة أو سبعة أنفار، واختلف في إثنين منهم، على رأي «الغزالي» في الإحياء... وفي هذا يقول «الحسن البصري» رضي الله عنه:« إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله عليهم إلاّ النّفر القليل، استعظامًا له، ومتابعة لأنفسهم بحفظ تأويله والعمل بمحكمه ومتشابهه»(3). فقد كان تعلّم القرآن يتمّ بتدبّر، وبعمل وتطبيق، كما قال عبد الله بن مسعود: «كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ» (4). 
وعن ابن عمر: «كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به» (5).
خامسا: إن ديمقراطية الإقراء وانتشار القرآن على ألسنة كلّ النّاس، كان على حساب التّدبر والعمل به، ممّا أضرّ بقدسيته وفقد روحه ونورانيته... فهذا «الحسن البصري» ينقد سياسة الإقراء العمومي المتّبعة في وقته من قبل القرّاء، على حساب التّدبر والفهم، حتى أنّه يعيب على العبيد والصّبيان والنّساء حفظ القرآن واستعراض سوره بلا تأويل: «إنَّ هذا القرآنَ قَرَأَه عبيدٌ وصبيانٌ لم يأخذوه مِن أوَّله، ولا عِلْمَ لهم بتأويلِه، إنَّ أَحقَّ الناسِ بهذا القرآنِ مَن رُئِي في عملِه، قال اللهُ  في كتابه: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب[ص: 29] وإنَّما تَدبُّرُ آياتِه اتّباعُه بعملِه، أَمَا واللهِ ما هو بحفظِ حروفِهِ وإِضاعةِ حدودِهِ! حتى إنَّ أحدهم لَيقول: قد قَرَأْتُ القرآنَ كلَّه فما أَسْقَطتُ منه حرفاً؛ وقد واللهِ أَسقَطَه كلَّه! ما يُرَى له القرآنُ في خُلُقٍ ولا عمل! حتى إنَّ أحدَهم لَيقول: إني لأقرأُ السورةَ في نَفَسٍ واحدٍ، واللهِ ما هؤلاءِ بالقُرَّاءِ ولا العلماءِ ولا الحكماءِ ولا الوَرَعةِ! متى كانت القُرّاءُ تقولُ مثل هذا؟ لا أَكْثَرَ اللهُ في الناسِ مثلَ هؤلاء» (6).
سادسا: يستفاد من قولة البصري رحمه الله، أنّ فئة القرّاء أصبحت حجابا بيننا وبين تلقّي النّور الذي أنزل مع محمد، وأنهم بطريقة التّلقين والحفظ والاستعراض الكامل للقرآن، يعتدون من حيث شعروا ومن حيث لا يشعرون، على أهمّ صلة لنا مع القرآن، وهي: التدبّر. 
إنّ تحفيظ النّاشئة للقرآن قبل تعليمهم الإيمان...وإن إغفال التدبّر والفهم والتّأويل للقرآن.... وإنّ وضع حجاب بيننا وبين العرفان القرآني... لهو سبب مباشر في خنق أجيالنا وجهل ديننا...
القرآن يُتعلم بالسّلوك والتّدبر والعمل والتّفكر...بعد ترسيخ الايمان وروحه....
الهوامش
(1) موطأ الإمام مالك 
(2) رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في «السنن الكبرى» و»شعب الإيمان». ورواه مختصرا ابن ماجة في «السنة»، وعبد الله بن أحمد في «السنة»، والبخاري في « التاريخ الكبير»، والخلال في في «السّنة»، والمستغفري في «فضائل القرآن»، وابن بطة في «الإبانة الكبرى»، وابن منده في «الإيمان»، والالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»، وصححه البوصيري والألباني
(3) الحسن البصري لابن الجوزي ص 98 
(4) رواه الطبري في تفسيره ، 1/80 وفي جامع البيان، 1/35.
(5) الجامع لأحكام القرآن 1/ 30
(6) الزهد والرقائق لابن المبارك ت أحمد فريد ج6/ 610 رقم 742 ط دار المعراج