الكلمة الحرّة

بقلم
محمد الهميلي
العدالة الانتقالية آخر قلاع الثورة التونسية
 لم يبق من أحلامنا الثورية غير تمنّي نجاح مسار العدالة الانتقالية ولم يبق من قلاعنا الصّامدة غير «هيئة الحقيقة والكرامة» تلك القلعة الفريدة اليتيمة التي تصارع أمواج الرّدة وبارونات الفساد وأرطوبونات الدسائس والمكائد وأذرعة الشرّ الطويلة التي تمتد من خارج الوطن الى داخله ومواقع النفوذ والقرار اللّاوطني الذي ينبع من مصالح الثّورة المضادّة وإنتهازييّ العصر.
كلّ تلك الجهات النّاقمة على المسار الثّوري للشّباب التّونسي تصرّ على إفشال أهداف الهيئة لأنّ فيها الخلاص الوطني من تبعيّة الماضي الأليم الذي يحمل الهمّ والغمّ والظّلم وتاريخ «الهولوكوست النوفمبري» تحت قيادة «فرعون تونس» وفاسدها الأكبر ومليشياته التي ما تزال مصرّة على تحدّي إرادة التّحرر والانعتاق لدى الشّعب ومنعه من أن يحلم بالحرّية والكرامة والعدالة ومحاسبة طغات الأمس وجلاديه لما اقترفوه من استبداد واستعباد وجرائم ضدّ البلاد والعباد.
إنّ أكثر من 65 ألف ملفّ تقدّمت به مجموعة الضّحايا له دليل على أنّ تونس كانت تئنّ تحت نير منظومة قمعيّة وحشيّة فاسدة لا تراعي في المواطن حقّا ولا إنسانية ، وها هي  تلك المجموعات المتظلّمـة والمتقدّمة بملفات الانتهاكات لهيئـة الحقيقـة والكرامة تضع على ذمّتها عشرات الآلاف من الإفادات والشّهادات والتّظلمات ليساهموا في دعم مسار العدالة الإنتقالية وليشاركوا في كتابة تاريخ وطنيّ صحيح وسليم وحقيقي يحفظ الذّاكرة الوطنيّة بعيدا عن كلّ «روتوشات» المنافقين من مزوّري التّاريخ من أصحاب صالونات التّجميل السّياسي من أشباه السّياسيين والإعلاميبن والمختصّين في تضليل الشّعوب، مطالبين بمصراحة وطنيّة شاملة يعترف فيها الظّالم للمظلومين من الذين عانوا شدّة البأس البورقيبي والنّوفمبري ومنظومتهما الأمنية الغاشمة.
 إن الذين عُذّبوا وسُجنوا وجاعوا وحُرموا  ومُنعوا من أبسط الحقوق الكونيّة المعترف بها كالصّحة والتّعليم والشّغل والحياة الكريمة، يقفون اليوم صفّا واحدا مع «هيئة الحقيقة والكرامة» لاسترجاع  كرامتهم المهدورة والتعويض عن سنوات السّحق والمحق والعذاب والفقر. إنّ كلّ الذين آمنوا بأهمّية مسار العدالة الانتقاليّة من الضّحايا والمتابعين لها إنّما يعدّون الصّف الأول المقاوم لكلّ أشكال الثّورة المضادّة ليشكّلوا الحصن الحصين لآخر قلاع الثّورة التّونسية  للتّصدي لكلّ جرائم وحبائل ماكينات التّضليل، ممّا جعل العالم بأكمله يعترف بأنّ هذا المسار هو السّبيل الوحيد لإنقاذ تونس من الفوضى والعنف والمصير المجهول. 
إنّ العدالة الانتقاليّة هي ضرورة ملحّة لإنجاح الفترة   التي تلت الثّورة ولن يكون ذلك مجديا إلاّ إذا تأكّد الضّحية أنّ حقّه مضمون وأنّ محاسبة منظومة الظّلم والفساد هي حقيقة لا وهم وأنّ الوطن سيكلّل نجاح مساره الانتقالي بمصالحة وطنيّة مبنيّة على المصارحة والمكاشفة والمحاسبة حتّى لا يبقى في ركن من أركان تونس أو بيت من بيوتها حقد أو ثأر نائم كالبركان وأن أصحاب الحقّ من الذين تعرّضوا الى مختلف الانتهاكات قد أمضوا وصادقوا على عقد مصالحة وتسامح ما أحوج البلاد إلى مثلها في ظلّ ما تعانيه من هجمات إرهابيّة وتغوّل لبارونات التّهريب والفساد الذين يهدّدون الاستقرار الاقتصادي والسياسي و الأمني للوطن ولعلّ أرقى أهداف العدالة الانتقالية هي إصلاح المؤسّسات الوطنيّة ممّا لحقها من خراب ودمار وفساد وفرض الحوكمة الرّشيدة والانصياع الطّوعي لناموس حقوق الإنسان لبناء وطن يستطاب فيه العيش وتترعرع فيه كلّ أشكال التّعايش والتّسامح وكلّ إرادة للحياة والتّقدم وتنبذ فيه كلّ أشكال الرّدة إلى جحيم الكراهية والتفرقة والإستئصال والنظرة الدّونية لبعض أبناء الشّعب لاعتبارات إيديولوجيّة أو سياسيّة أو جهويّة.  
إنّ قانون العدالة الانتقاليّة يُعدّ مطلبا شعبيّا لا تنازل عنه لأنّه صِيغ بعقليّة مدنيّة راقية كلّها استشعار للمبادىء الإنسانيّة السّامية والدّينية السّمحة من تسامح وحلم ومصالحة وجبر للأضرار. ولعلّ هذا القانون يرتقي ليكون من أحسن قوانين العدالة الانتقالية التي صيغت في العالم لمعالجة مظالم العصر في الفترات الانتقاليّة، حيث أنّ قانون تونس قد استمد كلّ فصوله من حوار وطنيّ عبّرت فيه كلّ فئات الشّعب وضحاياه ونخبه وممثّليه من المجتمع المدني عن رغبتهم في معالجة انتهاكات تونس بعقليّة المتسامح والنّاظر للمستقبل نظرة المصالح والباحث عن الاستقرار والنابذ لكلّ أشكال التّشفي والمحاسبة القاسية والتي ستجعل مستقبل البلاد غامضا لا سمح الله بسبب معالجة الانتهاكات بانتهاكات تقابلها لن نستطيع بعدها نزع فتيل الثّأر والثّأر المقابل. فقد خيّر التّونسيون أن تكون عقليّة « الميمات الثّلاث « م 3 = ( مصارحة + محاسبة + مصالحة ) هي جوهر العدالة الانتقاليّة  بما يتبعها من جبر لأضرار الضّحايا وحفظ للذّاكرة حتّى تشفى جراح الأمس وتُنسى كلّ الآلام وترمّم كرامة الجميع بما يخدم الوحدة الوطنيّة والتّعايش السّلمي تحت راية «دستور الثورة» الذي يكفل حياة كريمة لكلّ أطياف الشّعب .
ختاما نقول بأنّ العدالة الانتقاليّة هي آخر قلاع الثّورة التّونسية، فعضّوا عليها بالنّواذج وأنتصروا لهيئتها الدستورية بالدّعم والمساندة والضّغط الشّعبي والحراك المدني والحملات التّحسيسيّة حتّى يعلم كلّ من بنفسه شىء من رفض أو تفكير لإفشال هذا المسار الثوري الدّستوري أنّ تونس لن تتقدّم شبرا واحدا إلاّ إذا سارت على هدي معالجة إرث الإنتهاكات في إطار قانون يعطي الأمان للجميع ويُشعر الكلّ بأنّ الزّمن هو زمن بناء وطن التّسامح والعيش المشترك فيصبح بذلك هذا البلد واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة التي تضمن العيش والحياة الكريمة للجميع.