تجليات

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
الحج المبرور ولادة ثانية
 الحج هو الفريضة التي تجمع طرفا من كل أركان الإسلام، فرحلة الحج أصلا رحلة التّوحيــد، تنفي كلّ أشكال الألوهيّات الباطلة وترسّخ ألوهيّة الله عز وجل فقط، وهي بذلك تجسّــد عمليّــا الرّكـــن الأول من أركـــان الإســلام، ويأخذ الحجّ من الصّلاة الإعراض عن الدّنيا «فالله أكبر» إحرامنـــا بالصّلاة و«لبيـــك اللّهم لبيـــك» إحرامنــا بالحــجّ وكليهما بمعان متقاربة تحرّم عليك أمــورا كثيــرة من الدّنيا تناديك من داخلـــك بأن تترفّـــع عن اللّغــو، ويشارك الصّيــام في الخشيــة والتّقــوى والمســاواة، ويشترك مع الزّكـــاة في البـــذل والتّضحيــــة والإنفـــاق. لذلك كان الحـــــجّ مؤتمرا عالميّا لإطـــــلاق الرّوح وتقييدهـــا بمنبعهـــا «وَيَسْأَلُونَــكَ عَنِ الرُّوحِ قُـــلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُــم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً»(1)  وتكبيل الجسد وتحريكه من خلال أوامر التّوحيد فمهمــا كنت متعبــا ستجد نفسك خفيفــا ساعيا لتنفيذ أوامر غيبيّة غير صادرة من بشــر، أرأيت قطرا بأكمله عدد سكّانه خمسة ملايين ينتقلــون في خفّة ويسر من مكان لآخر؟.
الحجّ يكبح الشّهوات وهو تدريب عملي على ترك ما كان حلالاً قبل الإحرام مثل الذي كان حلالا قبل الصّيام وقبل الصّلاة. ومن عايش تلك اللّحظات سيجد من العنت والإرهاق ما الله به عليم، حتّى يظنّ الظّان من يراهم على تلك الحال أنّهم لن يعودوا أبدا إلى الحجّ مرّة ثانية. لكن ما إن تعود أيام الحجّ بنفحاتها وخيراتها، حتّى تجد أشدّ النّاس تلهفاً على الحجّ هم حجّاج السّنوات الماضية. لقد نسوا كلّ هذه المشقّات، وأحسّوا أنّ شيئاً لطيفا بعيدا عن طينة الجسد يلحّ عليهم من داخلهم. تهون المشقّات كلّها في سبيل لحظة ينعم فيها الإنسان برحمة الله، فيشعر بنشوة القرب، ويحظى بلذّة الأنس.
ليس لك من الأمر شئ
ليس لك من الأمر شئ حتّى من أمر نفسك، فممنوع عليك أن تلبس ملابسك التي اعتدت عليها ومفروض عليك أن تلبس ملابس بأوصاف معينة، وممنوع عليك أن تقطع ظفرا أو شعرا أو تمسّ طيبا أو تقرب امرأتك. وصحراء الوقوف بها ركن وصحراء أخرى المبيت بها واجب، وحجر تطوف حوله، وحجر تقبّله وتستلمه إن استطعت فإن لم تستطع فلتشر إليه، وحجر آخر ممنوع عليك تقبيله وتستلمه فقط إن استطعت فإن لم تستطع فلا تشر إليه، وحجر ترجمه بحجر ... إلي آخر معني «ليس لك من الأمر شئ»(2). وكلّها أشياء في نفسها لا تضرّ ولا تنفع ولولا أنّ رسول الله فعلها بأوامر من ربّه ما فعلناها وهو الذي قال «لتأخذوا عنّي مناسككم»(3). وإذا فعل الإنسان هذه الأفعال نفسها تماما بتمام في غير أوقاتها وغير أماكنها المحدّدة لوقعت غير مقبولة منه بل مردودة عليه بل ربّما اتّهم في دينه أو بالجنون.
قد يقول جاهل لاشكّ في جهله «إنّ الحج وثنيّة». والردّ على هؤلاء بسيط: أولا من جهة النّقل فقد ثبت الأمر بهذه الأفعال كلّها لله عن طريق نبيه صلي الله عليه وسلم في الأحاديث الصّحاح، وثانيا من طريق العقل، فلو كانت أفعال الحجّ  وثنيّة ما اتفق فيه خمسة ملايين على الأقل - ناهيك عن الملايين التي تتوق لهذه العبادة - يؤدّون مناسك واحدة وشعائر متّفقة، مسيرتهم وقبلتهم وكعبتهم وطوافهم وسعيهم ورميهم وتلبيتهم كلّها واحدة وهم من شتّى بقاع المعمورة ألوانهم متباينة وألسنتهم لا يحصيها محص وعاداتهم متباينة، ناهيك عن أنّ ظاهرة التوثّن «عبوديّة الأوثان» أشبه ما تكون بعبادة الشّخص لذاته، وقد كانت مكّة ولم يكن بها إلاّ أفراد قلائل وما اتّحدوا أبدا في شكل العبادة بل منهم من كان يصنع معبوده فإذا اضطر إلى بيعه باعه أو إلى أكله التهمه أو إلى رهنه في ضائقته رهنه أو إلى مبادلته، فالكلّ كان يعبد إلهه على هواه وشاكلته. تسعى الحضارة الحديثة جاهدة إلى تحويل الإنسان إلى المادّة وترد أصله إليها وتحاول جاهدة في تطبيق قوانين المادّة الجامدة عليه وكأنّه ليس له روح، بل تسعى بهذه المفاهيم إلى تسليع المجتمع ككل، تتّجه إلى الاستهلاكية والعدميّة(4). فيأتي الحجّ ليحرّر الإنسان من هذه الأوهام ويذكره أنّه مادّة وروح، يقوم الحجّ بصلة الفرد مع مجتمعه في منطقة تتماس فيها الرّوح والجسد، يتداخل الفرد بروحه قبل جسده مع مجتمعه العالمي الأوسع فيشعر الفرد بوجود الأمّة وبضروة وجود الدّين للدنيا والغيب للشّهادة، الحجّ هو الجسر الذي يربط بين العبادات في صورتها الفرديّة وبين الفرائض في صورتها المجتمعيّة وهو بلا ريب أكثر الفرائض تماساً مع فريضة الجهاد سواء جهاد النّفس أو الجهاد بمعنى القتال في سبيل الله، ولذا يمتلك الحجّ تأثيرا عميقا في نفس الحاجّ خصوصا من  حجّ مقتفيا آثار حجّة النّبي حتّى في المستحبّات، وإن لم تستطع في المستحبّات فلا أقل من التّفكر في الآثار التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، هذا التأثير يتجاوز لحظة أداء الفريضة إلى ما وراءها في حياة الحاج ومجتمعه كله.
الحج ولادة ثانية
والإحرام بملابسه البيضاء التي كأنّها لفات يلف بها الطفل حين ولادته وكأنّها تلقي التناظر بين الشكل وبين «رجع كيوم ولدته أمه» (5)، وهما الموقفين الذين يتساوى فيهما الجميع من حيث الشّكل، أمّا الولادة فمن حيث الجوهر أيضا فلم يفعل ذلك القلب شيئا بعد فالكل فيه سواسية أيضا، أو كأنّها الأكفان  ليس لها جيوب ولا أكمام، خالية من الزّينة التي تذكّرك بالدّنيا ومتاعها الزّائل، تذكّرك باليوم الذي ستلقى فيه ربّك حتما وتعيش هذا المعنى الكبير قبل أن يفاجؤك يوم القيامة، ولم ولن تحمل من الدنيا شيئا سوى عملك الصّالح، الحجّ إطلالة على الدّنيا من خارجها وأنت ما زلت فيها، خروج من سجن الدّنيا بكلّ معانيه إلى الحرّية الحقيقيّة، يحرّر في الحجّ الإنسان ذاته من كلّ أصناف العبوديّة غير الحقّة إلى العبوديّة الحقيقيّة لله الواحد القهّار. يتساوي النّاس عند الميلاد فلا حسنات ولا سيئات أمّا عند الموت فهيهات بعد أن اجترح القلب والأعضاء ما اجترحوا واحتملوا من الحسنات والسيئات ما احتملوا، فهيهات هيهات أن يتساوى الناس بعد ذلك، فيأتي الحجّ ويقول لك من الممكن أن تولد مرّة ثانية وتعود إنسانا جديدا إلى مجتمعك ترفض فيه أن تعيش مظلوما مثلما ترفض أن تعيش ظالما تسير بالنّفع والخير العام حين قدرتك عليه.
المساواة في موقف الحشر المصغر
موقف الحجّ موقف رهيب، جموع من شتّى أرجاء الدّنيا من كلّ الألسنة والألوان بهيئة واحدة، يذكّرك بأنّه مشهد مصغّر لموقف الحشر لا محالة. وفي هذه الثّياب البسيطة الخالية من الزّينة يتجلّى معنى المساواة بين أبناء الأمّة، رمزيّة تحرّر الإنسان من القيود والأنماط التي تفرضها عليه طبقته الاجتماعيّة ووظيفته العامّة وثقافته. يحرّر ذلك الرّمز الإنسان من غناه ومن وجاهته واهتماماته بملبسه وزيّه ومأكله ومشربه، فالزيّ والسّيارة والمنزل وأشباه ذلك عناوين الثّقل ورموز القوّة الاجتماعيّة، لكن في موسم الحجّ الكلّ يرتدي نفس الملبس – كأنّها أكفان كما أسلفنا – تجرّد من أي تمييز أو علوّ كان يميّزالناس بين أقوامهم، تقارب حتّى في المطعم والمشرب والمسكن، فلا يوجد سادة وعبيد أو حكام ومحكومون، بل الجميع سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي ولا عجمي أو بين أحمر أو أسود أو أبيض إلا بالتّقوى، فالنّاس جميعا من أصل واحد «النّاس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب»(6) وهو أعظم تعبير عن المساواة بين أبناء الأمّة المسلمة المتجلّية في قول الله عز وجل لأشراف قريش وحكامها وقتئذ «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (7) . 
حلاوة الانتصار في رمي الجمار
ورمي الجمرات بمشعر منى يذكر الإنسان بعداوة الشّيطان المستمرّة، ورمزيّة الرّمي يشعرك بعد الاتباع بأنّه إعلان حرب على الشّر، وقول «الله أكبر» لحظة الرمي يشعرك بحلاوة انتصار الخير على الشّر. ومن ثمّ فلابدّ من استمراريّة مجاهدة النّفس لشياطينها بعد العودة، وينبغي عدم تفريغ العبادة بأنّنا نرجم الشّيطان «إبليس حقيقة» فليس الشّاهد إبليسا وليست الحجارة هي من ينصرك عليه بل معيتك مع الله باستمرار هي التي تخلق فيك حالة الشّعور بالنّصر. فالشّياطين كثيرة وهم يحاولون فرض قيمهم بالقوّة الظّالمة على العالم وعلينا أن نجاهدها بالعلم. وعليك استحضار العداوة مع الظّلم والظّالم وتجهيز نفسك بالعدّة اللاّزمة لمحاربته. وهي تماما بتمام مثل امتثال أبينا إبراهيم عليه السّلام لأمر الله عز وجل «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (8) فلأي مدى يصل صوته عليه السّلام، لكنّك لابدّ أن تؤدّي ما عليك، تمتثل وتؤدّي ما في وسعك.
وفي ذبح الهدي حلاوة أخرى للانتصار، لكن هذه المرّة انتصار على أعتى شياطين النّفس الدّاخلية، انتصار على شيطان الشحّ، وتدريب على الهروب من البخل، ولقد صدق الأديب الكبير مصطفي صادق الرافعي حين قال « وإنّ البخل وحده لفي حاجة إلى نبي يصلحه!»، وقال «وكم لأموال البخيل من قتيل»(9) وإعلان للطّاعة المطلقة في امتثال قول الله عز وجل « لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين» (10).
والمبيت بمنى في خيام وعلى الأرض إعلان لانتصارك على شهوات كثيرة من مثل الأنس في المبيت وسط أهلك وأولادك على الفرش الوثيرة والمنزل المجهّز بأدوات العصر ومن ثمّ فلا بدّ من تهيئة النّفس لمثل ذلك اليوم إذا اقتضت الضّرورة.
 يأتي الحجّ ليحرّك في الأمّة إحساسها العميق بوحدتها العقدية، بوحدة تصوّراتها الإيمانيّة، بل وبوحدة الشّعائر التي تتعلق بالجسد لتحاول بعد هذا الاجتماع العالمي نفي فرقتها السّياسية وبعث حضارة تنبع من قيم هذا الدين.
 الهوامش
[1] القرآن الكريم، سورة الإسراء، آية 85.
[2] القرآن الكريم، سورة آل عمران، آية 128.
[3] حديث جابر في صحيح مسلم. وبرقم 5061 في صحيح الجامع.
[4] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حَجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» متفق عليه . (البخاري 1521، مسلم 1350) . 
[5] العلامة ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع 5483 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة  - رضي الله عنه.
[6] القرآن الكريم، سورة البقرة، آية 199.
[7] القرآن الكريم، سورة الحج، آية 27.
[8] كتاب المساكين، مصطفي صادق الرافعي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر.
[9] (راجع كتابات أنطوني جيدنز ويورغن هابرماس وآلان تورين) 
[10] القرآن الكريم، سورة الحج، آية 37.