في الصميم

بقلم
بسّام العقربي
البطالة و الثورة: إنفراج أم تأزم؟
 عرفت البلاد التونسية بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 حراكا شعبيّا اختلف الباحثون حول تسميته، فمنهم من ذهب إلى تسميته «بالثّورة التّونسية» ومنهم من نعته «بثورة الياسمين» ومنهم من أسماه «الانتفاضة التونسية» وغيرها من التسميات. لكنّ الثّابت أنّ السّبب المباشر لهذا الحراك هي البطالة والفقر والتّهميش الذي نال من الشّباب خاصّة الشّريحة العمريّة 20-40 سنة في ظلّ عجز الدّولة عن إيجاد الحلول الكفيلة للخروج من الأزمة، فازداد الفساد الاقتصادي وظهرت الطّبقية والفوارق الاجتماعيــة وغلاء المعيشة وانتشر الفقر خاصّــة في دواخــل البــلاد أين وصلت معدّلات البطالــة إلى مستويات قياسيّة. ففي ولاية «الكاف» مثلا بلغت نسبة البطالــة 21.9 % وفي الحوض المنجمي 21.1 % و«جندوبة» 20.2 % سنة 2004.
هذه الأزمة الخانقة نتجت عنها سنة 2008 تحرّكات اجتماعية عنيفة في الحوض المنجمي وتحديدا في معتمدية «الرّديف» أدّت إلى هلاك عديد الشّبان المتظاهرين وجرح البعض واعتقال البعض الآخر في حين ظلّ الواقع الاجتماعي والاقتصادي على حاله ولم يتغيّر رغم الوعود التي قدّمتها الدّولة لولاية «قفصة» والتي ظلّت معلّقة حتّى بعد الثّورة. بقاء الوضـــع على حالـــه في كامل البـلاد ساهــم في اندلاع حراك آخر بالوسط التّونسي في أواخر 2010 وتحديدا بولاية «سيدي بوزيد» إحتجاجا على الوضع الاجتماعي والبطالة التي انتشرت كثيرا في صفوف الشّباب المتعلّم وغير المتعلّم. إذ وصلت معدّلات البطالة بحسب مصادر الدّولة (التي لا نثق في جدّيتها كثيرا آنذاك) إلى 15 % في كامل البلاد وبلغت 14 % في «سيدي بوزيد». ووصلت الاحتجاجات إلى ولاية «القصرين» التي بلغت فيها نسبة البطالة 19 % ومن ثم وصلت الإحتجاجات إلى كافة مناطق البلاد خاصّة بالوسط الغربي لتنتهي برحيل رأس النّظام الحاكم في البلاد وقتها.
لم ترحل البطالة عن الشّباب والمجتمع برحيل النّظام، إذ عجزت الحكومات المتعاقبة عن صياغة إستراتيجيّة جدّية للحدّ من البطالة التي ما انفكّت ترتفع خاصّة بالولايات الجنوبيّة والغربيّة للبلاد. فمثلا مرّت نسبة البطالة في «تطاوين» من 15.3 % سنة 2004 إلى 25.8 % سنة 2014 أي بزيادة 10 نقاط خلال عشر سنوات، وفي «قبلي» مرّت النسبة من 12 % إلى 21 % أي بزيادة 9 نقاط خلال نفس الفترة. أمّا في «سيدي بوزيد» أين انطلقت الثّورة، فقد ارتفعت نسبة البطالة بـ 3.8 نقاط وذلك من 13.9 % إلى 17.7 %. إذن، كانت نتائج الحراك الشعبي أو الثورة عكسية وخيبت آمال شريحة كبيرة من المجتمع التونسي. فعدد العاطلين مرّ من 438480 عاطل سنة 2004 إلى 576321 سنة 2014 محقّقا بذلك نسبة تطور سنوي تقدّر بـ 2.77 %.
إنّ النسب الأعلى للتّطور السّنوي للبطالة في تونس مسّت ولايات الجنوب ذات الثّروة الطّاقية والمنجميّة «المنهوبة». تلك الثّروات التي لم تدر على أهلها سوى الفقر والتّهميش، خاصّة «تطاوين» بحوالي 9 % و«قبلي» بأكثر من 7 %، «قابس» و«مدنين» و«قفصة» بين 5 و6 % و«سيدي بوزيد» 3.7 %، ولم تسجل نسب البطالة بين 2004 و2014 انخفاضا إلاّ في 4 ولايات وهي «سليانة» و«زغوان» و«بنزرت» و«الكاف» حيث سجّلت نسب نمو بين -0.5 % و -1.4 %. ولا يعود هذا الإنخفاض إلى أهمّية المشاريع الاستثمارية المُنجزة في تلك المناطق من قبل الدّولة أو الخواص، بل إلى هجرة العديد من سكّان هذه الولايات إلى العاصمة ومدن السّاحل للبحث عن عمل، ثم الانتدابات التي حصلت في سلك الجيش التّونسي والحرس والشّرطة والدّيوانة في إطار إستراتيجيّة محاربة الإرهاب والتّهريب والتي بلغت حسب المصادر الرّسمية 20 ألف انتداب منذ 2011. زد على ذلك الإنتدابات التي حصلت للمتمتّعين بالعفو التّشريعي العام والتي بلغت حوالي 9 آلاف منتفع وقع إعادة إدماجهم في وظائفهم السّابقة والتي أخرجهم منها النّظام السّابق لأسباب سياسيّة. بالإضافة إلى 13 ألف من عمال الحضائر الذين وقع تشغيلهم منذ سنة 2011 في حكومة السيد الباجي قائد السّبسي الأولى في محاولة لإمتصاص الغضب الثّوري الصّاخب من ناحية، وطمأنة الشّارع التّونسي وخاصّة الشّريحة البسيطة منه من ناحية أخرى، حتّى يستتب الأمن وتستطيع تمرير أجنداتها التي سبقت انتخابات 23 أكتوبر 2011.
ترتفع نسب البطالة داخل الولاية الواحدة وذلك حسب المعتمديات أين يمكن أن نجد أرقاما مُفزعة تذكّرنا بنسب لبعض الدول المتخلّفة التي أنهكتها الحروب والنّزاعات العرقيّة والطائفية. ففي معتمدية «ذهيبة» من ولايــة «تطاوين» ارتفعت نسبــة البطالـة من 14 % إلى 42 % بين 2004 و2014، أمّا في «الرّديف» من ولاية «قفصة» فقد شهدت البطالة إرتفاعا من 26.7 % إلى 39.2 % خلال نفس الفترة. هذا الإرتفاع المُشطّ في المنطقتين المذكورتين يعود بالدّرجة الأولى إلى سوء تصرّف الدّولة في المواد الطّاقية والمعدنيّة في تلك المناطق أين كثر الفساد المالي والاداري والصّفقات المشبوهة قبل وبعد الثّورة وهو ما جعل أهالي تلك المناطق يحتجّون بطرق ووسائل مختلفة تعبيرا منهم على رفضهم لهذا الواقع عبر تعطيل الإنتاج وغلق الطرقات والسكك الحديديّة مطالبين بأحقّيتهم في التّنمية العادلة والتّشغيل. أمّا في معتمدية «الشراردة» من ولاية القيروان فقد ارتفعت البطالة من 6.5 % إلى 18 % خلال الفترة نفسها، وفي معتمدية «طبرقة» مرّت البطالة من 10.4 % إلى 28.9 % بزيادة 18.5 نقاط وهذا يعود إلى عدّة عوامل من أهمّها الاضرابات التي شنّها عمّال السّياحة منذ 2011 للمطالبة بحقوقهم من جهة، وإلى العمليّات الإرهابيّة التي وقعت في البلاد التّونسية والتي مسّت السّياح بصفة مباشرة من جهة أخرى والتي من أهمّها أحداث متحف باردو بالعاصمة وأحداث نزل الإمبريال بسوسة والتي ساهمت في إغلاق العديد من الوحدات الفندقيّة في البلاد ومنها بعض الوحدات بطبرقة.
يبقى لا بدّ أن ننبّه هنا إلى «فخّ» نصبته جميع الحكومات لعموم الشّعب التّونسي خاصّة في الفترات التي تسبق كلّ انتخابات وهي مسألة تشغيل المرأة، ذلك الخيط الرّفيع والحسّاس الذي من خلاله يقع إسكات وإلجام نصف المجتمع. إذ أنّ البطالة في صفوف الإناث ترتفع إلى مستويات قياسيّة جدّا، فالذّكور هم الأكثر حظّا في التّشغيل في جميع ولايات ومعتمديات البلاد. فمثلا بلغت بطالة الإناث في «تطاوين» 46 % في حين تصل نسبة بطالة الذّكور إلى 18.7 % أي بفارق 27.3 نقطة. أمّا في «قبلي» فبلغت نسبة البطالـــة عند الإناث 40.2 % وعند الذكور 13.8 % بفارق 26.4 نقطة، وفي قفصة 42.7 % للإناث مقابل 19 % للذكور.هذه الفوارق المُشطّة في نسب البطالة بين الذكور والإناث تُفنّد كلّ ما قيل حول المساواة بين المرأة والرّجل والمشاريع التي تهمّ المرأة الرّيفية وضرورة تشريك المرأة في العمل السّياسي وأخذ القرار...إلخ. 
إنّ هذه الشّعارات المغلوطة لا تهمّ المرأة التّونسية بشكل عام وإنّما تشمل بعض النّساء من بعض العائلات المتنفذة في البلاد والتي لها توجّهات سياسيّة وإيديولوجيّة معيّنة. ففي بلديّة «المنزه» بتونس العاصمة مثلا أين تنعدم الثّروات، بلغت نسبة البطالة عند النّساء 7.5 % فقط، في حين بلغت بطالة الإناث في «أم العرايس» المنطقة المنجميّة الغنيّة 40 % أي بفارق 32.5 من النّقاط وهو فارق ضخم يبيّن مدى هول الهوّة التّنموية بين أبناء الشّعب الواحد وهو ما يؤكّد أنّ تلك الشّعارات المُمجّدة للمرأة ماهي إلى شعارات عائليّة موسميّة سياسيّة.
إنّ ظاهرة البطالة بما هي معظلة إجتماعيّة تفاقمت خاصّة لدى أصحاب الشّهائد العليا منذ أوّل الثمانينات حيث وصلت المؤسّسات التّونسية العامّة والخاصّة مرحلة التّشبع أمام ارتفاع نسب المتعلّمين وتفاقم عدد الخرّيجين في ظلّ غياب السّياسات الاقتصاديّة الناجعة وضعف النّمو الاقتصادي ممّا أجبر السّلطة على وضع شروط تعتبر مُجحفة للإنتداب في الوظيفة العموميّة خاصّة بما يعرف «بالكاباس» لدخول المؤسّسات التّعليمية الإعداديّة والثّانوية. فبحسب المصادر الرّسمية بلغ عدد العاطلين من أصحاب الشّهائد العليا 39828 عاطل سنة 2004، هذا الرّقم يجعلنا نشكّ في صحّة الأرقام التي كان يقدّمها النّظام قبل الثّورة خاصّة إذا علمنا أنّ نفس عدد العاطلين سنة 2014 بلغ 236800 عاطل أي بزيادة 196972 عاطل خلال 10 سنوات أي بنسبة تطوّر سنوي تقدّر بـ 19.51 % وهي نسبة تدعو إلى الرّيبة خاصّة وأنّ البلاد لم تعش أزمة إقتصاديّة حادّة ينهار فيها الاقتصاد ويُسرح فيها العمّال من وظائفهم بل العكس من ذلك، إذ وقع إنتداب العديد في سلك الأمن والجيش والطلبة المفروزين أمنيّا كما أسلفنا. إنّ إعتمادنا لهذا الرقم (39828) رغم شكوكنا حوله لا يعدو أن يكون سوى معطى من مؤسّسة رسميّة (المعهد الوطني للإحصاء) ليس لنا غيره في تلك الفترة.
إنّ معدّلات البطالة في صفوف أصحاب الشّهائد الجامعيّة تُعتبر عالية جدّا في جميع الإختصاصات، إذ تمثّل 41 % من مجموع العاطلين. حيث يمثّل الحاصلون على الإجازة في العلوم الصّحيحة العدد الأكبر من العاطلين بـ 75200 عاطل وهو ما يعادل 24.1 % من مجموع أصحاب الشّهائد العاطلين. يأتي بعد ذلك التّقنيّيون السّاميون وأغلبهم من خريجي المعاهد العليا للدّراسات التكنولوجيّة ويعدّون 50600 أي ما يمثل 21.4 % من العاطلين، فيما مثّل أصحاب الشّهائد الحاصلين على إجازات الحقوق والاقتصاد ثمّ شهادات الطّب والصّيدلة والهندسة ثم العلوم الإنسانيّة على التوالي 16.1 % و15.4 % و15.3 % من مجموع العاطلين. لكن بالرّغم من تشكيكنا في معطى 2004، إلاّ أنّه أقلّ في نظرنا من معطى 2014، فالثّابت أنّ عدد العاطلين من أصحاب الشّهائد العليا قد ارتفع منذ الثّورة لعدّة إعتبارات منها: إزدياد عدد الخرّيجين من التّعليم العالي وغياب الاستثمار وتأرجح مستوى النمو بين -2 و3.5 % منذ 2011، إضافة إلى غلق عديد المؤسّسات الاقتصادية ذات الأهمّية التّشغيلية نتيجة الإضرابات العشوائيّة. 
إذن، ومن خلال ما سبق نستنتج أنّ البطالة - السبب المباشر لإندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011 - قد تفاقمت في المجتمع التونسي برمته لكن بنسب مختلفة بين المناطق الدّاخلية ذات الثّروات والتي ترتفع فيها نسب البطالة وبين مناطق ساحليّة شرقيّة عديمة الثّروات تنخفض فيها نسب البطالة، وهو ما يحيلنا إلى بشاعة منوال التّنمية المعتمد في تونس منذ دولة الإستقلال. هذا المنوال الذي يقوم على التّرضيات الجهويّة والمحاصصة العائليّة. هذا المفهوم الذي خلناه ولّى ولم يعقب مع الثّورة إلاّ أنّه أنبت جذورا جديدة مع عائلات جديدة بعد انتخابات 2014 التي قيل أنّها ديمقراطيّة.