قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
معول الجماهير
 عمّت حالة من الاستبشار أصقاع العالم بعد اندلاع ثورات الرّبيع العربي وخاصّة ثورتي تونس ومصر، ولوحظت حالة من الارتياح فى أوساط المثقّفين والجماهير التّائقة للحرّية في غير مكان من العالم وعاد للنّاس الأمل فى التّغيير السّلمي بعد أن كان اليأس والإحباط يملآن وجدانهم. ولقد كان الإسلاميّون والمنتمون فعلا أو وجدانا للتّيار الإسلامي أكثر المستبشرين والمستفيديين، ولاح في الأفق للمرّة الأولى أنّ بإمكان النّاس استعادة أوطانهم وثرواتهم والعمل بجدّ وهدوء على تنميتها والرفع من مستواها الحضاري.
(2)
لم يستفد أحد من الثّورات قدر استفادة الإسلامييّن منها، فقد أتاحت لهم للمرّة الأولى فرصة العمل العلني مع الجماهير بعد أن رفعت عن كاهلهم ما كان يثقلها من أعباء المكابدة الأليمة للقمع والتّشريد والذّل وكل الحمم التى كانت أنظمة القمع والتّسلط تصبّها على رؤوسهم.
لم تكن تلك الحرّية منّة من أحد وإنّما كانت هديّة الشّعوب للذين كانوا ينتظرون منها هديّة غالية فى حجم ماعانوه من مآس. وهي هديّة لم تكن للإسلامييّن خاصّة وإنّما كانت للجماهير عامّة بكلّ أطيافها، ولقد ذهب فى ظنّ الجميع دون استثناء أنّ أيّام المعاناة قد ولّت وأنّ الأوطان فى طريقها لاستعادة مكانتها فى دورة حضاريّة جديدة لن تكون فيها أرقاما بين البلدان وإنّما بلادا يُحسب لها حساب، ولعلّ أكثر النّاس تشاؤما  كان يعتقد أنّنا سنواجه بعض المنغّصات لا غير كما هي آلام المخاض، وقد نكون مضطرّين لبعض التّضحية. ولم يتوقع أبدا أن نصل إلى ما وصلنا إليه من هوان . فلماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ هل العلّة فى الإسلامييّن الذين لم يستطيعوا احتضان أوطان عادت إليهم طيعة؟ أم العلّة فى الجماهير التى خانت ثورتها عند أوّل منعطف؟ أم العلّة فى الأوطان التى تركها المستبدّون وقد نخرتها الأمراض حتّى باتت مستعصية على العلاج؟ وهل حقّا كان الإسلاميّون أكثر المستفيدين من الثّورات؟.
(3)
كان مشهد الجماهير وهي تصطفّ داخل مراكز الاقتراع مشهدا غير مألوف عند شعوب لم تعرف من قبل معنى الانتخاب والمشاركة وإبداء الرّأي، ولم يكن الاسلاميّون أفضل من غيرهم في أطروحاتهم وإنّما كانوا فقط أكثر تنظيما وأقرب إلى وجدان الشّعوب، ولذلك كان الفوز حليفهم فى كلّ الاستحقاقات التى خاضتها الشّعوب بعد الثّورة. فازوا فى تونس وفى مصر وفي المغرب وفي ليبيا، وكان ظنّهم أنّ أبواب التّوفيق ستكون مشرّعة أمامهم كما قصور الحكم وقد وصل الأمر ببعضهم حدّ الظنّ أنّ الحكم لن يخرج من أيديهم أبدا، ولكن هيهات.
لم يكن النّجاح حليفا للإسلاميّين حين استلموا السّلطة فى البلدان التى ناضلوا من أجلها طويلا ودفعوا في سبيل ذلك ثمنا غاليا. وبعيدا عن جحود النّخب المتغرّبة التى لا ترى للدّين أيّ دور في الحياة أو تلك التى تعتبره أفيونَ الشّعوب، ورغم ما لهذه النّخب من دور وتأثير، فقد كان الاختيار على الاسلاميّين وحدهم أو مع غيرهم اختيارا شعبيّا لا تشوبه شائبة ولم يأت من فراغ وإن كان اختيارا عاطفيا، ظنيّا، لم تقدر الجماهير مآلاته لاحقا،  لم يتسنّ لها قطف ثماره إذ بدأ تخريب الحقل من أوّل يوم، بل إنّ البعض لم ينتظر حتى أفول شمس اليوم الأول.
(4)
لم تكتمل تجربة الاسلاميّين فى الحكم وإنّما أجهضت بسرعة وبطرق شتّى كان بعضها غاية فى العنف والتشفّي كما هو الحال فى مصر وبعضها بطريقة ناعمة لا تقلّ إيلاما. ولن يكون بوسع أيّ باحث أن يكون موضوعيّا متى ما أغفل متعمّدا أن يكون الاسلاميّون قد أفشلوا بسلاحيّ التّآمر والإرباك ولم يكن فشلهم من صنع أيديهم فقط.
وليس المقصود بمصطلح الاسلاميّين التّعميم بحيث يشمل كلّ مدّع انتساب للتّيار الاسلامي وإنّما المقصود به تحديدا تيار الإخوان فى مصر وحركة النّهضة فى تونس وحزب العدالة والتّنمية فى المغرب مع إدراكنا لخصوصيّة التّجربة المغربيّة كون الملكيّة ما تزال ترعى هذه التّجربة ولم تصطدم بها بعد وقد لا تفعل. ونحن اذ نؤكّد على هذا التّخصيص، فإنّنا لا نغفل المنتمين لتيار الإسلام السّياسي من المفكّرين والعلماء وعموم النّاس اللّذين آمنوا بقيم الإسلام ودورها فى نحت تجربة حضاريّة جديدة على أساس مقاصد الشّريعة وتفاعلها مع تجربة الإنسان فى الزّمان والمكان . ولا نغفل أيضا مقدار الخلط فى أذهان النّخب المترصّدة بين هولاء  وبين المدّعين للإسلاميّة والإرهابيين والحاملين لمعاول الهدم من العملاء اللّذين لم يكونوا إسلاميّين و لن يكونوا  جراء ما اقترفت أيديهم وما تقترفه من فضاعات أساءت للتّجربة الحقيقيّة وساهت فى إسقاطها عن عمد.
(5)
هرعت الجماهير إلى مراكز الاقتراع كما لم تفعل من قبل واختارت من تشاء، ولكن هذه الجماهير لم تمهل من اختارتهم وقتا كافيا لصنع ما كانت تنتظره من معجزة فكان الفشل سريعا. ولقد ذهب الكثير من الحريصين على التّجربة ومن غيرهم إلى تحميل الإسلاميّين وزر الإخفاق والردّة التى حلّت بالثّورات كونهم لم يكونوا مهيئين أصلا للحكم، أو كون أطروحاتهم كانت مشبّعة بالعاطفة، خالية أو تكاد من البرامج والحلول. كما ذهب البعض في نقد التّجربة حدّ إعلان موت الإسلام السّياسي أو احتضاره إلى حين ، بعد أن خذلته الجماهير وانصرفت عنه أو تكاد.
ليس الفشل في السّياسة ما يدعو إلى القلق، فقد يكون هذا الفشل مقدورا عليه فى قادم التّجارب، بل إنّ ما أعقب إسقاط الإسلامييّن فى مصر مثلا قد يكون أدعى لعودتهم من جديد، ولكن الذي يدعو حقيقة إلى الحيرة والقلق هو الفشل فى توسيع القاعدة الجماهريّة وفي تحقيق مصالحة ملموسة بين المثقّف الإسلامي والجماهير العريضة حتّى يتسنّى له الخروج من بوتقة العلويّة والعزلة إلى الأرض الرّحبة حيث عموم النّاس المسكونين بقلق المصير.
(6)
كان الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلم لا يخشى الاختلاف ولا يفرّ من النّاس أو يتّهمهم بقلّة الإدراك وإنّما كان يأخذهم إلى مربّع الحقّ بعد أن يصبحوا مشبّعين بطاقة التّغيير مؤمنين بأنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 
إنّ الشّعوب لا تستكين للباطل ولكنّها لا تسلّم قيادها إلاّ للقادرين على إقناعها بأنّهم سيقودونها إلى الأفضل وهو ما لا يتأتّى عبر المناكفات ولا عبر المغامرة وإنّما يأتي من خلال خلق واقع جديد لا يكون فيه الإسلاميون غرباء عنه وعن النّاس وأطروحاتهم كذلك.