في الصميم

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
الانقلابات سنة العسكر المؤكدة - تركيا كلاكيت 2016 م
 الانقلاب هو تحرك عسكري يستخدم القوّة أو يلوح باستخدامها، يتدثّر بغطاء شعبي أو مستقلّ عنه، يستهدف الإطاحة بالنّظام السّياسى القائم فى الدّولة لأغراض في نفس القائمين عليه وأغلبها السّيطرة على السّلطة. وقد تكون السّلطة المنقلب عليها شرعيّة أو غير شرعيّة، عادلة أو ظالمة، مدنيّة أو عسكريّة، لكنّ الأعراف استقرّت حديثا بأنّ استخدام القوّة في فرض الرّأي شيء مستهجن إلّا في الحالات المجمع على سرطنتها لجسد الوطن، حينئذ ينبغي استئصالها بكلّ سبيل. وعلى مرّ تاريخ الدّول الإمبراطوريّة منها أو القطريّة، كانت الجيوش تلعب دورا أساسيّا ومحوريّا في مرحلة التّكوين ومن ثمّ أصبح لزاما أن يستمرّ أساسيّة هذا الدّور في مرحلة الاستقرار.
وإذا راجعنا تاريخ تأسيس ومزاولة عمل الجيوش سوف نجد أنّها كانت تعكس دائما بل وبصورة واضحة جدّا أفكار «عقائد» من حكموا، لا يستثنى من هذا المبدأ على ما أزعم الإمبراطوريّات الإسلاميّة - بعد الخلافة الرّاشدة - أو الصّليبية أو اليهوديّة أو العلمانيّة. بل إنّ الجيش اليهودي للكيان الإسرائيلي هو الذي أنتج «الدّولة»، فهناك في إسرائيل المجتمع كلّه معسكر. على هذا المبدأ العقدي يجعل الجندي مستعدّا لقبول أيّ أمر في اتّجاه ما تربّى عليه عسكريًّا. وفى الدّول المستقرّة ذاتيّا التي تمّ صياغة عقيدة عامّة لشعبها، تجعل الجيش ينأى بنفسه ولو في الشّكل الظّاهر عن السّياسة وصراعات السّلطة التي هي بالأساس صراعات عقديّة «ليست بالضّرورة دينيّة» وينوب بلعب الدّور السّياسي للمؤسّسة العسكريّة بالوكالة عنها جماعات المصالح والنّخب المدجّنة. يعلن هذا المبدأ بشكل صريح في الجيوش القويّة المستمدّة قوتها من العدّة المادّية ومن وقوف شعبها ورائها في خندق واحد. 
أمّا في حال فقدان الجيش للعنصر الثّاني من القوّة ولو بشكل متوهّم يلجأ مصمّموا الشّعارات «أجهزة الشؤون المعنويّة» إلى الخداع في صياغة عقيدة الجيش للتّدجيل على شعوبها. وفي بعض الدّول التي لا يمكن إعلان عقيدة مصادمة لفريق كبير من الشعب - الذي يستشعر الجيش أنّه لو كان هناك خيار حرّ على من يحكم البلد لفاز ذاك الفريق- يتمّ اللّجوء إلى محاربة أفكاره بل ويتمّ اضطهاده حتى على مستوى الهويّة وليست مجزرتيّ رابعة والنّهضة ببعيد. 
وبعض هذه الجّيوش تكمن حقيقتها في كونها تأسّست كقوى أمن داخليّة واستمرّت على هذا النّسق، حوّلت سلاحها للدّاخل التي من المفروض حراسته، وهو متأهّب للقتل الدّاخلي وليس لقتال العدوّ الخارجي، عندما صار أعداء الدّاخل –الفرقاء السّياسيون- أشبه بأعداء الخارج لا بل أخطر منهم في عقائد من بيدهم السّلطة. وكما قال جمال حمدان وهو يشرح دور الجيش المصري «يمارس الحلّ السّياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج والحلّ العسكري مع الشّعب في الدّاخل، فكانت دولة الطّغيان عامّة، استسلاميّة أمام الغزاة، بوليسيّة على الشعب»[1]. وبمناسبة انقلاب تركيا الأخير سنأخذ بتوسّع الجيش التّركي نموذجا للصّراع السّياسي في أوضح صوره -  الذي هو بالأساس تدخّل عقائدي لحماية هيكل العلمانيّة.
الجيش التركي نموذجا - الجنرال مسيلمة
انتهت الإمبراطورية العثمانيّة بشكل نهائي عام 1925 م ومن المفارقات العجيبة أنّ جيش هذا الكيان الجبّار تمّ تحويله في لمح البصر ظاهريّا إلي جيش يحمي حمى العلمانيّة بشكل صريح بعد أن كان جيشا لخلافة إسلاميّة،  وإلاّ فالتّرتيب لذلك كان يتمّ من داخل الإمبراطوريّة العثمانيّة منذ أكثر من 200 سنة قبل سقوطها. حيث تمّ زرع حركة الاتّحاد والتّرقي من قبل الدّول الاستعماريّة الصّليبية الكبرى في صفوف الجيش العثماني بين صفوف الضّباط لتثبت مدى أهمّية العسكر في الحياة السّياسية، خاصّة بعد أن أطاح قادة الاتحاد وهم من العسكر بالسّلطان عبد الحميد في أفريل/ نيسان 1909م، وحيث وعى «يهود الدّونما» الذين لعبوا دورا أساسيّا في حركة الاتّحاد لأهمّية العسكر ودورهم في الحياة السّياسية، فسعوا دائما لإقامة علاقات سرّية وعلنيّة مع قيادات العسكر في جميع مراحل التّاريخ التركي العثماني منه والجمهوري، ولتتوّج باسم الجنرال «أتاتورك» الذي خاض حرب الاستقلال بشكل أساسي ضدّ بقايا الحكم العثماني وبشكل ظاهريّ فقط ضدّ قوات الاحتلال الفرنسي والبريطاني واليوناني والإيطالي التي احتلت أرض الأناضول بعد الحرب العالميّة الأولى التي هزمت فيها ألمانيا وحليفتها تركيا. وبرز «أتاتورك» كجنرال قويّ ومنتصر مع رفاقه العسكر الذين صاغوا إطار الحياة السّياسية للبلاد وفق «الايديولوجيّة الكماليّة».
وقد التزم جنرالات الجيش بعد وفاة أتاتورك (عام 1938م)  بنفس المبادئ، حيث كان لهم دور أساسي في مجمل المعادلات السّياسية خلال فترة حكم «عصمت أينونو» الذي خلف أتاتورك في رئاسة الجمهوريّة حتّى العام 1950 م عندما انتقلت البلاد إلى التّعدديّة الحزبيّة بإذن من جنرالات الجيش الذين كانوا يعرفون أنّهم يملكون القوّة الكافية للتّدخل حين اللّزوم.
 وقد أسهم ذلك مبكّرا في دعم دور العسكر في الحياة السّياسية، ونظرت واشنطن وعواصم (النّاتو) إلى تركيا كحليف إستراتيجيّ، ولم يتأخّروا في دعم الجيش التّركي حتّى أصبح أكبر جيش في المنطقة بعد أمريكا، كما أنّها دعّمت بشكل خاصّ القادة العسكريّين الأتراك الذين أثبتوا بدورهم وفي العديد من المناسبات وفاءهم لواشنطن سياسيّا أكثر من وفائهم لأنقرة. 
الانقلابات الخمسة للعسكرية
العلمانية التّركية
تدخل الجيش التركي الأتاتوركي بشكل مباشر من خلال خمسة انقلابات عسكريّة، لتغيير حكومات مدنيّة منتخبة لأسباب مختلفة في مقدّمتها الحفاظ على الهويّة «العلمانيّة» للدّولة، بعض هذه الانقلابات كان دمويّا والبعض الآخر كان بالتّلويح بالقوّة فقط ولكنّها تشترك كلّها في حماية العلمانيّة الأتاتوركيّة. في المقابل، كانت القوى المناهضة للعلمانيّة وتيّارها تسجّل فشلاً سياسياً تلو الآخر، لافتقادها هي الأخرى الى التّوازن بين معطيات التّاريخ ومتطلّبات الحاضر. وقد دأبت بعد كلّ فشل على تغيير اسم الحزب بدلاً من تطوير عقيدتها السّياسية، إلى أن ظهرت بنسختها المطوّرة ممثّلة بـ «العدالة والتّنمية» الذي بات قادراً على توظيف خبرته في التّعامل مع مقتضيات الحداثة.
كان أول إنقلاب في 27 ماي/ أيار1960 م عندما أطاح الجنرال «جمال جورسيل» بحكومة «عدنان مندريس» والذي خرج من تحت عباءة «أتاتورك» متحدّيا تشريعاته العلمانيّة، بعدما وجّهت له اتّهامات بالسّماح للقوى الدّينية بالعمل بحرّية، كانت الحكومات العلمانيّة السّابقة قد منعتها تماما، ورغم أن «مندريس» لم يكن بالأصل محسوبا على تيار الإسلام السّياسي فإنّ مجرّد محاولته تخطّي شكل العلمانيّة الذي شرّعه أتاتورك كان كفيلا بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه بتهم غير جدّية مثل الزّنا وقتل طفله غير الشّرعي .. إلخ. ولم تتدخّل واشنطن لإنقاذ «مندريس» رغم أنّه كان قريبا منها وقدّم لها وللغرب خدمات جليلة، حيث تحوّلت تركيا في عهده إلى مخفر متقدّم وإستراتيجي للحلف الأطلسي ضدّ معسكرالاتحاد السوفياتي.
وجاء الانقلاب الثّاني في 12 مارس/ آذار 1971، حيث قام رئيس هيئة الأركان العامّة التّركية، «ممدوح تاجماك» بتسليم رئيس الوزراء مذكّرة تصل لحدّ إنذار أخير من القوّات المسلّحة، وطالب فيها بتشكيل حكومة قويّة ذات مصداقيّة في إطار المبادئ الدّيمقراطية، تضع حدًا للوضع الفوضوي السائد آنذاك وتطبّق من خلال وجهات نظر أتاتورك. وهذه المرّة بالذّات جاء الانقلاب لحماية الحسابات الأميركيّة، حيث كانت البلاد تشهد صراعات دمويّة بين القوى اليساريّة التي تصدّت لها القوى اليمينيّة (الإسلاميّة والقوميّة) بدعم من الدّولة المدعومة من واشنطن التي كانت تتخوّف أن يتحول التيار اليساري إلى قوّة جدّية في الشّارع التركي، خاصّة بعد أن قام اليساريّون الذين تدرّبوا في مخيمات المنظمات الفلسطينيّة في لبنان بعمليّات مسلّحة استهدفت القواعد الأميركيّة والعاملين فيها وقتلوا القنصل الإسرائيلي في إسطنبول.
وحدث الانقلاب الثالث في 12 سبتمبر/أيلول 1980م بقيادة الجنرال «كنعان ايفرين» مع مجموعة من الضّباط نشؤوا على فكرة حماية المبادئ الأساسيّة للجمهوريّة التّركية كما وضعها أتاتورك، وكان في اعتقادهم بأنّ سبب تدهور الإمبراطوريّة العثمانيّة واندحارها عسكرياً كان لارتباطها بالأقطار العربيّة والإسلاميّة، وكان تخوّفهم من الصعود الملحوظ للتّيار الإسلامي في الانتخابات التّركية، وكان الانقلاب مدعوما من الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت عنه قبل السّماع به في أنقرة. وحكم قائد الانقلاب «كنعان أيفرين» البلاد لمدّة سبع سنوات كرئيس للجمهوريّة بعد أن صاغ دستورا غريبا وعجيبا مازال الأتراك يعانون منه رغم تغيير العديد من بنوده وموادّه باستثناء تلك التي تعترف لقادة الانقلاب بحصانة دستوريّة إلى الأبد. وقد فشل جميع رؤساء الوزراء الذين حكموا تركيا بعد ذلك العام بمن فيهم الذين استهدفهم الانقلاب العسكري المذكور ومنهم «سليمان ديميريل» و«بولنت أجاويد» و«نجم الدين أربكان» من تغيير هذه المواد والمواد الأخرى المناقضة للدّيمقراطية وهو ما يؤكّد «حالة الخوف النّفسي» التي يعاني منها السّياسيون الأتراك من جنرالات الجيش.
 أما الانقلاب الرّابع فجرى في فيفري/ شباط 1997 وكان انقلابا«نظريّا» ووصف بأنّه «انقلاب ما بعد الحداثة» من قبل الأميرال «سالم درفيسوجلو» ونظّمته «باتي كاليسما جروبو» (جماعة دراسة الغرب)، وهي جماعة سرّية داخل الجيش، حيث اكتفى فيه العسكر بإخراج الدّبابات إلى الشّوارع في أنقرة ليضطرّ رئيس الوزراء «نجم الدين أربكان» إلى الاستقالة، قبل أن يصل الجيش إلى مقرّ رئاسة الحكومة. وكانت أبرز أسباب هذا الانقلاب ما اتخذه «أربكان» خلال العام الذي تولّى فيه رئاسة الحكومة من إجراءات لم يخف فيها رغبته بتغيير معالم أساسيّة في النّظام العلماني التّركي.
استنساخ النعجة دوللي
أمّا الانقلاب الخامس فكان في  15 جويلية/ تموز 2016  فكان الأخطر على الإطلاق حيث أراد القطب الأمريكي والنّادي المسيحي المغلق «الاتحاد الأوروبي» بمساهمة بعض المموّلين من الدّول العربيّة والإقليميّة الإسلاميّة وتنفيذ الجيش التركي والكيان الموازي [2]  استنساخ ما حدث في مصر مع الدّكتور«مرسي» لتفكيك الدّولة التّركيّة وإغراقها في «حرب أهليّة» طويلة المدى تحرق كلّ إنجازاتها منذ عام 2002 م. إذ خرج الجيش بدبّاباته وطائراته وحاولوا خلالها إغلاق جسرالبسفور الذي يربط الشّطرين الأوروبي والآسيوي من مدينة إسطنبول (شمال غرب البلاد)، والسّيطرة على مديرية الأمن فيها وبعض المؤسّسات الإعلاميّة الرّسمية والخاصّة. وربما يقول قائل «ليس كلّ الجيش مشارك في الانقلاب». لكن من تابع الأحداث سيرى أن تحرّك مثل هذا وبالحجم هذا ودعمه من قاعدة تتمركز فيها قوات أمريكيّة يوضّح حجم المؤامرة وأنّها كانت على مستوى الجيش كلّه وأنّ ما يقوله السّياسيون الأتراك هو من أجل عدم خلق حالة مواجهة والسّماح لبعض القادة بالتّراجع عن دعم التّحرك وهذا ما حدث بالفعل بعد فشل اغتيال «أردوغان» ونجاته. يؤيّد هذا الرّأي ما أعلنته وسائل الإعلام الأوروبيّة بأن ما حدث «تحرّك كبير» بالرّغم من إعلان الحكومة التّركية أكثر من مرّة بأنّه تحرّك صغير من قبل بعض الضباط المنشقّين. 
المجهول الذي يعلمه الجميع
والعجيب أنّ جميع من يساند «أردغان» أو من يكرهه مجمعون على أنّ أمريكا وراء الانقلاب الأخير ولكن لكلّ حججه التي يسوقها ليدعّم رأيه. وهناك رأي سائد يقول بأنّ أمريكا خططت للانقلاب لصالح أردوغان حتّى يجد حجّة لتصفية خصومه في الجيش ولكن إن كانت أمريكا تخطّط لصالح «أردوغان» فلماذا تركت الجيش المصري يفتك بمرسي وبكلّ مسانديه، بينما تعاونت مع أردوغان والحال أن مرسي وأردوغان يصنّفا أنّهما ينتميان لفكر الإسلام السّياسي؟. وماذا عن زيارة كيري للافروف عشية الإنقلاب؟، فالأمريكي لا يجالس الرّوسي إلاّ للتّنسيق في أمر متّفق عليه مسبّقا، وماذا عن قول «ديفد هيرست» الصّحفي البريطاني: «من اللاّفت أيضًا أن القنصليّة الفرنسيّة أعلنت إغلاق أبوابها قبل الانقلاب بيومين، فهل كانت القنصليّة تعلم شيئًا لم تعلمه تركيا «الجيش» بينما يعلمه الرّئيس أردوغان؟». فهل كان الانقلاب أمريكيّا - روسيّا - فرنسيّا – أردوغانيّا ضدّ الجيش التّركي العظيم ربيب النّاتو والمدرسة العسكريّة الأمريكيّة، والحامي والمدافع عن القيم العلمانيّة الكماليّة المستمدّة من الثّقافة الغربيّة؟. هل يعقل أن تخطط أمريكا مع صاحب التّوجه الإسلامي[3] وتترك أبناءها المخلصين من الجيش في كمّاشة «أردوغان» وتفقد بذلك مصالحها الهائلة مع الجيش التركي وهي تعلم جيّدا أنّ حرب «أردوغان» هي محاولة تقليص دور المؤسّسة العسكريّة في السّياسة أكثر وأكثر وتعظيم دور المؤسّسات المدنيّة وعلى رأسهما الرّئاسة والبرلمان؟.  
وبغض النظر عن الموقف من «أردوغان» واختياراته السّياسية أو كيفيّة إدارته لبلده، فإنّ كلّ المؤشرات تدلّ أنّه رجل قويّ ومتمرّس. فلا شكّ أنّ من يمسك بالحكم لسّنوات في بلد تعصف به التّقلبات من الشّرق ومن الغرب ولا يخفي توجّهاته الإسلاميّة في وجود جيش يعلن أنّه حامي حمى هيكل العلمانيّة بالبلاد ومختصّ في الانقلابات بمعدل إنقلاب عسكري كلّ عشر سنوات تقريبا، لا شكّ أنّه رئيس قويّ علاوة على أنّه ناجح يؤيد ذلك ظهور المعطيات التالية في الأدبيات الاقتصاديّة: 
- انخفضت نسبه التّضخم من 55 % سنة  2002 إلى 10 %  في عام 2016م وتحوّل النمو الاقتصادي خلال عشر سنوات من(9.5 - %) ليصبح ايجابيا بزيادة  18 %  تقريبا. وارتفع دخل الفرد من 3.5 ألف دولار سنويا إلى 10.5 ألف دولار سنويا
-ارتفعت الصادرات التركية إلى 135 مليار دولار بعد ما كانت سنة 2002 حوالي 32 مليار. وبعد أن كان عجز الميزانية 12 % سنة 2002 أصبح في مستوى «الصفر» سنة 2011.
- استطاعت تركيا تسديد ديونها لصندوق النّقد الدولي بالكامل بعد أن بلغت 32 مليار دولار وصعدت تركيا من المركز 111 عالميّا إلى 16 ودخلت نادي العشرين الكبار لأقوى اقتصاد في العالم «G20».
- سجّل أعلى إنفاق في الموازنة العامة للدولة التركية، على «التعليم» ثم «الصحّة» ثم «الاستثمار» حيث تمّ بناء أكثر من 125 جامعة، 189 مدرسة، 510 مستشفى، 169000 فصل دراسي وإنشاء 35000 قاعة مختبر لتكنولوجيا المعلومات في آخر 15 سنة. وأصبح للأتراك نظاما صحيا مميّزا حيث العلاج مدعّم ومجاني بالكامل لكلّ تركي تحت 18 سنة ويحوز رضا 74 % من الشعب.
- من النّاحية التكنولوجيّة صنعت تركيا دبّابات مصفّحة وطائرات بدون طيّار، وأقمار صناعيّة عسكريّة متعدّدة المهام، ناهيك عن صناعة السّيارات والقطارات وعربات المترو. ومن ناحية إحياء الثّقافة الدّينية، أعادت الحكومات تدريس القرآن والسّنة وتعليم اللّغة العربيّة بعد تسعة عقود من الحكم العلماني. 
العسكر ومعادلة الوعي
إنّ من يمتلك جزءا من السّلطة المادّية يتّجه أوتوماتيكيّا باتجاه سرقة باقي أجزائها. لهذا سعى العسكر في تركيا  أن يظلّ الشّعب جاهلا بجغرافيّة مكانه وتاريخ إنسانه بل بكلّ العلوم النّافعة لتحصيل وممارسة سلطته. لكن عندما خرجت معادلة الوعي عن سيطرته عمل العسكر على تجريد الجموع المعارضة عند تحركها من أي قوّة مادّية تحميها حتى ولو كانت حجارة لأنه يعلم أنّ الوعي وحده –وإن كان مهمّا جدّا- غير كاف في حماية الأنظمة المنتخبة من تحركات العسكر العكسيّة باتّجاه السّلطة. 
لكنّ أردوغان كان واعيا بأهداف وتطلعات الجيش التركي وأن الانقلاب ممكن جدّا حدوثه بل وتكراره، لم يغره جلسات الودّ والسّمر مع العسكر، ولا ضرب التّحية العسكريّة، ولا الحديث الدّائم عن احترام الدّيمقراطية... إلخ، فهو مقتنع بأنّ غالبية الجيوش تنظر إلى المدنيين بعين الخصومة[4]. لهذا سعى أردوغان إلى بناء جدار صدّ كفيل بمساعدته عند الحاجة فقام بتكوين أجهزة داخل المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة والمخابراتيّة تعي معني أن ينتخب الشّعب حاكمه لتقف هذه المؤسّسات المسلّحة خلف الشّعب تدعّم اختياره ويدعّمها الشّعب ضد الجنرال «مسيلمة». ومن يقول إن «ميزانية التّعليم هي من أنقذ أردوغان وليست ميزانية التّسليح» في إشارة إلى وعي الشّعب التّركي الذي واجه الانقلاب بسلميّة، فهو غافل عن أبعاد أخرى كان لها دور هامّ في فشل الانقلاب.
فبالإضافة إلى يقظة أردوغان وجماعته، فقد ساهمت طبيعة التخطيط للانقلاب في فشله حيث تمّ استخدام  دليل تكتيكات يعود للسبعينيات كما قال «جاريث جينكينز»، باحث وكاتب في الشؤون العسكرية في إسطنبول. فالأمر كان أشبه بما حدث في تشيلي عام 1973 م أو أنقرة عام 1980 م علاوة على تصرف الإنقلابيين خارج تسلسل القيادة العسكريّة، وبالتالي افتقروا للموارد الكافية للسّيطرة على مواقع السّلطة الرئيسيّة. ولعلّ صمود جهاز الشرطة والمخابرات في المواجهة المسلحة مع الجيش وتسريب  خطة الانقلاب التي أعطت «أردوغان» الفرصة للنجاة والتوجه إلى اسطنبول لمواجهة ما يحدث واستخدام أردوغان ويلدريم وباقي المسؤولون الأتراك تقنيات الاتّصال الحديثة كانت عوامل رئيسيّة في فشل الانقلاب. فكانت أولى علامات الفشل هي ظهور «أردوغان» حياً ليتوعد الانقلابيين بدفع ثمن أفعالهم الحمقاء مطالباً النّاس بالنّزول إلى الشّوارع. 
الهوامش
[1] توماس فريدمان-  سيارة الليكسس وشجرة الزيتون - محاولة لفهم العولمة - ترجمة ليلي زيدان - مراجعة فايزة حكيم - الدار الدولية للنشر والتوزيع - القاهرة - مصر (1999).
[2] هو في حقيقة الأمر دولة داخل الدّولة والمتغلغل في الشّرطة والقضاء والجيش والمؤسّسات التّعليمية والمسمى قديما من بعض الدّعاة بالإسلام الاجتماعي
[3] راجعوا منتدى دافوس وكلمة أردغان اللاّذعة لرئيس وزراء الكيان الصّهيوني.
[4] بخلاف سلوك القيادة المصرية أيام الدكتور «مرسي» حيث الطمأنينة شبه الكاملة من ناحية الجيش متناسين العلاقات الاقتصادية للجيش المصري مع المحتل الأجنبي (لمزيد من المعلومات راجع مذكرات محمد نجيب - كنت رئيسا لمصر- المكتب المصري الحديث (1984)