قراءة في كتاب

بقلم
صالح نائلي
في العودة إلى الأصول : قراءة في كتاب « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» للمؤلف عبد الرحمان الكواك
 التقديم
من الآثار الكارثية لسيادة الاستبداد في حياة الأمم والشّعوب والحضارات تدميرها والقضاء على وجودها وتعطيل سيرها نحو العزّة والكرامة. ولا خلاص من هذه الآفة إلاّ بالشّورى والمشاركة والإشراك، والنّقمة جميعها في الاستئثار والاستبداد والطّغيان، فالتّاريخ يحفل بالأحداث والوقائع التي تبرهن على مخاطر هذه الآفة القاتلة. 
كما ينبّئنا التّاريخ عن أمم اعتمدت الشّورى والمشورة والإشراك في الحكم بواسطة المؤسّسات ففي الحالة الأولى يبرز «فرعون» وجنده وفي الحالة الثّانية ملكة سبأ «بلقيس» وقومها.(1)
يعد كتاب «الكواكبي» من أفضل ما يمكن أن تستنير به العقول والقلوب  في فهم الاستبداد ومحاربته والنّجاة من عواقبه الكارثية (2) لذلك رأينا أنّه من المفيد الرّجوع إليه لنؤكّد أنّ أسلافنا قد اجتهدوا في ايقاضنا من غفلتنا منذ زمن بعيد ولكنّنا تجاهلناهم  ووضعنا عصارة أفكارهم في الرّفوف ورحنا نقلّب في صفحات الأمم الأخرى وكأنّنا لم ننتج معرفة وأنّ الحقيقة يملكها الآخر وما علينا إلاّ اتباع خطواته أينما سارت بنا.
(1) الحاجة إلى إعادة قراءة مفهوم الاستبداد
في ظلّ ما يجول في خاطر النّخبة من تساؤلات مشروعة حول مدى أهمّية استبيان وشرح العلاقة بين الاستبداد من جهة وفساد مجتمعاتنا ومجمل أحوالنا المتمثل في التّدهور الرّاهن لأحوال الأمّة وشعوبها من جهة مقابلة، ومع اعتراف الأغلبيّة السّاحقة بالأهمّية البالغة للموضوع. إلاّ أنّ التّسليم بهذه الأهمّية عند قسم كبير من النّخبة لا يتعدّى المجاملة اللّفظية أو مماشاة لروح العصر والأجندة الكونية المتعولمة لا بل هناك تملّل من تواتر طرحه لدرجة ترقيته منزلة شاغل الدّنيا أو العنوان الأكثر أهميّة.
هذا التردّد بين الأخذ بجدّية الموضوع فعلا وقولا أم وضعه على الرفّ-مؤقتا- على خلفيّة تسارع الأحداث غير المسبوق واتسامها بالسّخونة مقترنة بالمخاطر إقليميّا كتوابع لهزّة عالميّة تزامنت مع تفكّك إمبراطوريّة وتغير في النّظام العالمي السّابق الذي ساد لحوالي نصف قرن – والاهتمام بأولويّات- التّصدي لموجة التّكالب والتكبّر الغربيّين والمحافظة على البقيّة المتبقّية من الثّوابت... والاستعداد للانطلاق نحو قرن جديد.
يقول الكواكبي:« إن المستبدّ يتّخذ الممجّدين سماسرة لتغرير الأمّة باسم خدمة الدّين أو حبّ الوطن أو تحصيل منافع عامّة أو الدّفاع عن الاستقلال والحقيقة في بطلان كلّ هذه الدّواعي إلى ما هي إلاّ تخيل وإيهام يقصد بها رجال الحكم تهييج الأمّة وتضليلها حتى أنّه لا يستثنى منها الدّفاع عن الاستقلال لأنّه ما الفرق على أمّة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر. وما مثلها إلاّ الدّابة التي لا يرحمها راكب مطمئنّ مالكا كان أم غاصبا.(3)
للخروج بنتيجة خالية من التّشكيك، لا بدّ من طرح مجموعة من الأسئلة: هل الاستبداد حالة مرافقة لمراحل انحطاطنا المتّصلة طبعا بالفساد بالصدفة أم لعلّه المسبّب والمرسّخ والموطّد ؟ ومن جاء بالآخر، هل الاستبداد ولد الفساد أم الفساد استدعى الاستبداد؟ أليس الحلّ للتّفقيس السّرطاني للفساد مزيدا من الاستبداد؟ ثم من أين سنأتي بحكام غير مستبدّين وغير ناشرين للفساد الّم يخرجوا كلّهم وكلّ سابقيهم من رحم هذه الأمّة؟ هل نحن أمّة عبيد أم أمّة من ولدوا أحرارا واستعبدوا لاحقا؟ أيّ منهما العربة ومن هو الحصان؟  طبعا الاستبداد مؤسّسة حيّة متحركة فهو الحصان والانحطاط حالة أي حاوية لحالنا فهو العربة المركوبة.
هل الرّفع من شأن الحرّية الفرديّة ومقارعة الاستبداد من أصول تراثنا الدّيني أو الثّقافي الحضاري أم بدعة غربيّة وتقليد للغرب؟ ولماذا الآن تحديدا وحرّية الأوطان مسلوبة أو مهدّدة أو مؤجّرة؟ فهل نهتمّ بالواجهة والخلفيّة والتّزويق ونبعد عن دائرة الاهتمام دقّ المداميك ونصب الأعمدة وربط العضاضات؟
هل الاستبداد خصوصيّة إسلاميّة أو عربيّة أو قطريّة -لا فرق-  بالرّغم من تلازمه الطّويل بتاريخنا ؟ ولكن أليست الحرّية والإصلاح والتّحديث حديثي العهد عند الغرب وبنات السّاعة الأخيرة من يوم الحضارة الإنسانيّة ؟ عصر التّنوير ابتدأ بالبزوغ في القرن الخامس عشر. هل الحرّية وتداول السّلطة وفصل السّلطات وصيانة حرّية الفكر حكر على الغرب المتقدّم أم نتيجة لاحتكاك الغرب مع فكر «ابن رشد» و«ابن خلدون» وخروجه من قمقم الاستبداد الديني وجحر الاستبداد السياسي ؟.
هل الخوض في غمار هذا الإشكال ترف فكري واصطدام مع الموروث الدّيني والحضاري وإبحار في المجهول في لحظات حاسمة فلنؤجله ؟
أنبتدئ بإصلاح أنفسنا أم ندع الأخر يتنطّع لهذه المهمّة متدخّلا أو محتلاّ ؟. أنصلح أنفسنا أم نطلب من حكّامنا أن يصلحونا؟ وهم أنفسهم من يصلحهم أم تراهم معصومين؟. وإذا كانت الأولويّة لإصلاح الفكر أنبتدئ بإصلاح ديني أوّلا أم إصلاح سياسي ومن أين نبدأ وكيف؟ أنبتدئ بنقد هادئ للفكر الدّيني التّكفيري السّائد والسّياسي الإقصائي المخيّم لاستيلاد  فكر جديد مؤمن بالتّعددية ( أليست أرضنا أرض تمازج الحضارات منذ الأزل كممرّ ومعبر أو محطّ لقوافل متاجرة أو مهاجرة أو محاربة ومروجنا تتفتّح كلّ ربيع بآلاف الورود والأزاهير مختلفة الألوان لا بل أنّ مشهد الطّبيعة يتغيّر كلّ يوم في ربيع بلادنا)  فلماذا تمسّكنا بثبات وسبات الشّتاء الموحش أم بنزق وعنف انقلابي - ثوري -  لم يجلب لنا الخير في العقود الأخيرة الخالية ؟.
تساؤلات اليوم والغد أجاب عليها «عبد الرحمان الكواكبي» منذ مائة وعشر سنوات  دون الخوف من اتّهامه بالكفر أو العمالة والخيانة أو بتثبيط همّة الأمّة وتغريبها موجّها اللّوم والاتّهام إلينا قبل أن يوجّهها إلى أسلافه بالتّقصير.
(2) مقدمة الكتاب:
يقول في مقدمة الكتاب إنّ كلاّ يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدّواء « وحيث أنّي قد تمحّص عندي أنّ أصل هذا الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية. وقد استقر فكري على ذلك -كما أنّ لكل نبإ مستقرّ- بعد بحث ثلاثين عاما... بحث أظنّه كاد يشمل كلّ ما يخطر على البال من سبب يتوهّم الباحث عند النّظرة الأولى أنّه ظفر بأصل الدّاء أو بأهمّ أصوله ولكن لا يلبث أن يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشيء  وأنّ ذلك فرع الأصل أو هو نتيجة لا وسيلة.
فالقائل مثلا أن أصل الدّاء هو التّهاون في الدّين لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا يتهاون النّاس في الدّين. والقائل أنّ الدّاء اختلاف الآراء يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف بين العلماء بصورة أشّد وأقوى... وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول هذا ما يريده الله بخلقه غير مكترث بمنازعة عقله و دينه له بأنّ الله حكيم عادل رحيم.
(3) تعريف الاستبداد
يقول في هذا الفصل معرّفا الاستبداد لغة، هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النّصيحة أو الاستقلال في الرّأي والحقوق المشتركة. وفي اصطلاح السّياسيين هو تصرّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة. وقد تطرأ مزايدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة استبداد كلمات استعباد وتسلّط وتحكّم وفي مقابلتها كلمات مساواة وحسّ مشترك وسلطة عامّة ويستعملون في مقام صفة (مستبد) جبّار طاغية حاكم بأمره وحاكم مطلق وفي مقابلة حكومة مستبدّة كلمات عادلة ومسؤولة ومقيّدة ودستورية. ويستعملون في مقام وصف الرّعية (المستبدّ عليهم) كلمات أسرى ومستصغرين وبؤساء ومستلبين وفي مقابلتها أحرار وأباة وأسياد وأعزّاء.
أمّا تعريف الاستبداد بالوصف بالمترادفات والمتقابلات، فهو أنّ الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقّقين. 
وأشدّ أنواع الاستبداد الذي يتعوذ به من الشيطان هو حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش القائد للجيش الحائز على سلطة دينيّة. ولنا أن نقول كلّما قلّ وصف من هذه الأوصاف خفّ الاستبداد إلى أن ينتهي بالحكم المنتخب المؤقّت المسؤول فعلا.
وأورد الكواكبي شذرات ممّا تكلم به الحكماء لا سيّما  المتأخّرون منهم في وصف الاستبداد، ومن هذه الجمل: « المستبدّ يتحكّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإراداتهم ويحكم بهواه لا بتشريعهم ويعلم من نفسه أنّه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النّاس يسدّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته». ومنها: « المستبدّ عدوّ الحقّ عدوّ الحرّية وقاتلها والحق أبو البشر والحرّية أمهم والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا والعلماء هم إخوتهم الرّاشدون إن أيقظوهم هبّوا وإن دعوهم لبّوا وإلاّ يتّصل نومهم بالموت.»(4)
بعد المقدمة وفصل «ماهو الاستبداد»، يعرض «الكواكبي» في كتابه العلاقة بين الاستبداد وكلّ من الدّين، العلم، المجد، المال، الأخلاق، التّربية، والتّرقّي لينتهي كتابه القيّم بباب «الاستبداد والتخلص منه». يسهب المؤلّف ويشدّد تركيزه على أبواب الاستبداد والدّين والاستبداد والأخلاق ومجهوده القيّم في المبحثين على درجة فائقة من الإدراك العميق والجرأة النّادرة (حتى بين معاصرينا). ومن الغيرة على مستقبل الأمّة التي لا يجد لها مكانا تحت الشّمس إلاّ بزوال الاستبداد السّياسي وتفرعاته.
وبعد أن بحث في مختلف أوجه الاستبداد وعلاقته بجملة المتغيّرات يفرد المؤلّف بابا تحت عنوان «الاستبداد والتخلص منه» ويعرض إلى بعض المحاولات للتخلّص من الاستبداد ويخلص إلى نتيجة أنّها قاصرة عن بلوغ الهدف المنشود ويقدّم جملة من الشّروط التي بتوفّرها وتحقّقها يمكن القضاء على الاستبداد نهائيا. من هذه الشروط الحرّية حيث يقول بأنّ الحكماء قرّروا أنّ الحرّية التي تنفع الأمّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، أمّا التي تحلّ على إثر ثورة حمقاء قلّما تفيد شيئا لأنّ الثّورة غالبا ما تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى ممّا كانت عليه(5).
 للتّخلص من الاستبداد يجب أوّلا تنبيه حسّ الأمّة بآلام الاستبداد ثمّ حثّها على البحث في القواعد الأساسيّة السّياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كلّ طبقاتها ويحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نيل الحرّية. إنّ السّعي في رفع الاستبداد يجب أن يكون همّ ووظيفة عقلاء الأمّة وسراتها. يعدّد «الكواكبي» مجموعة من المباحث ( 25 مبحثا ) يجب أن تتحقّق للتّخلص من الاستبداد ومن بين هذه المباحث :
- ماهي الأمّة أي الشّعب ؟ هل هي ركام مخلوقات أو جمعيّة عبيد لملك متغلّب وظيفتهم الطّاعة والانقياد ولو كرها؟ أم هي جمع بينهم روابط دين أو جنس أو لغة ووطن وحقوق مشتركة وجامعة سياسيّة اختياريّة لكلّ فرد حقّ إشهار رأيه فيها ؟.
- ماهي الحكومة؟ هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع يتصرّف في رقابهم ويتمتّع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء؟ أم هي وكالة تقام بإرادة الأمّة لأجل إدارة شؤونها العموميّة المشتركة ؟.
- ماهي الحقوق العمومية؟ هل هي حقوق آحاد الملوك ولكنّها تضاف للأمم مجازا؟ أم بالعكس هي حقوق جموع الأمم وتضاف للملوك مجازا؟ ولهم عليها الأمانة والنّظارة على مثل الأراضي والمعادن والأنهر والسّواحل... والحراسة على مثل الأمن العام والعدل والنّظام... إلى غير ذلك ممّا يحقّ لكلّ فرد من الأمّة أن يتمتّع به وأن يطمئن عليه.
- مبحث التّساوي في الحقوق : هل للحكومة التّصرف في الحقوق العامّة المادّية والأدبيّة كما تشاء، بذلا وحرمانا؟ أم تكون الحقوق محفوظة للجميع على التّساوي والشّيوع ؟.
- مبحث الحقوق الشّخصية: هل الحكومة تمتلك السّيطرة على الأعمال والأفكار أم أفراد الأمّة أحرار في الفكر مطلقا وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي؟.
- مبحث نوعيّة الحكومة : هل الأصلح هي الملكيّة المطلقة من كلّ زمام؟ أم الملكيّة المقيّدة؟ وماهي القيود؟ أم الرئاسة الانتخابية الدائمة مع الحياة أو المؤقتة إلى أجل؟ وهل تنال الحاكميّة بالوراثة أو العهد أو الغلبة؟ وهل يكون ذلك كما تكون المصادفة؟ أم مع وجود شرائط الكفاءة وماهي تلك الشّرائط؟ وكيف يصير تحقيق وجودها وكيف يراقب استمرارها وكيف تستمرّ المراقبة عليها ؟؟.(6) 
الإجابة عن هذه الأسئلة والتّمعن في ما تطرحه من عمل شاق وجادّ على مستوى النّخب والأفراد هي وحدها الكفيلة باقتلاع الاستبداد من طبائع النّفوس وعقولها. إنّ قراءتنا لكتاب «الكواكبي» تبقى محدودة وتحتاج إلى مزيد من التّحليل والتّعمق في ما يطرحه من قضايا تشغل الأمّة وتبدّد حيرتها أمام أسباب تخلّفها وتراجعها في الوقت الذي تتسابق فيه الأمم نحو أرقى درجات التّحضر والفكر البنّاء.
الهوامش
(1) عبد الرحمان الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ،تحقيق وتقييم د.محمد عمارة، دار الشروق،ط2 القاهرة ص9.
(2) المرجع السابق ص12.
(3) الكواكبي  مرجع سابق ص  23،28. 
(4) نفس المصر ص 128.
(5) نفس المصدر ص134. 
(6) نفس المصدر ص129.