تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
نحن والسعادة
 قدمت السعادة كشعور ذاتي للفرد يعلو وينخفض بارتفاع وهبوط نسبة هرمون الأندروفين حسب أهل الاختصاص. ولكن هل يشفي هذا التعريف عطش ظمآن قضّى حياته من سراب لسراب يحسبه في كل مرة سعادته المنشودة حتى إذا ما أتاها لم يجد شيئا، ووجد عندها توصيفات جديدة أتته وَسْوَسَة فأقنعته أن السعادة في الدنيا ما هي إلا وهم وما السعادة إلا في الآخرة.
كنت أظن ومازلت لم أفقد الأمل في أن الدين شفاء ودواء لكل العلل، وما البؤس إلا شعور مخالف للسعادة التي عرّفها أبيقور أحسن تعريف بأنها ما يعود على الإنسان بالنفع، فلا يكون البؤس إذا إلا افتقارا للنفع بكل جوانبه. وقد لعبت الأديان دورا اتفقت عليه جميعها باختلاف عقائدها وهو البحث عن السعادة خارج إطار النفع الشخصي. وتطور هذا المفهوم إلى ما عرف لدى جميعها دون اختلاف بالتزهد والتعالي عن ملذات الحياة الدنيا والقناعة بالمستوى الأدنى للنفع الضروري لإسعاد الآخرين. رسالة سلام بعثت بها هذه الأديان وأخفق القائمون عليها مشايخ وكهنة وراهبون في تسويقها وعجز خاصة القائمون على السماوية منها في استثمار هذه الرسالة الانسانية لما يعود على الإنسان بالنفع وإسعاده سعادة أبيقور.
إما إذا ما تعلق الأمر بالسعادة الجماعية أو سعادة الشعوب كما يقع تداولها وقياسها ومقارنتها من بلد لآخر، فترتكز المقاييس المعتمدة في هذه الحالة على مؤشرات لا علاقة لها بالهرمون، بل تتعدى ذلك لتشمل الرفاهة والطمأنينة والأمل، كلها شهدت تدهورا ملحوظا ببلادنا وبلدان أخرى عربية مجاورة تدنى أداء الدولة فيها نتيجة هشاشة ركائزها وانهيار أركانها. فإذا ما كانت الدولة مسئولة عن سعادة شعبها فما هي مسئولية هذا الشعب ليسعد الفرد وما هو دور الفرد ليسعد الجميع؟ 
في غياب الدولة تزدهر الفوضى تحت تأثير تنامي حب الذات الكائن فينا إلى حد الإفراط فتنبت وتترعرع منظمات وجمعيات لتمتص من أديم الأرض ثروة شعب فقدَ فرحته وتزايد ضيق أفقه. فحتى الجمعيات التي كانت تشكلت بدوافع إنسانية وحقوقية وقيم عقائدية لتدير أعمالا تطوعية، سرعان ما تم إغراق العديد منها بالمال فانحرفت عن مساراتها الأولى ليصبح اهتمامها أساسا بالشأن السياسي وتصبح فاعلة فيه خدمة لعصابات وضعت يدها على خيرات البلاد وأرسلت عيونها تترصد التحركات على كل المسالك طمعا في مزيد الانتفاع وخوفا من فقدان ما تم تحصيله. 
إن جمع المال لتمويل مشاريع اجتماعية خارج الإطار الربحي أمر جيد ولكنه يدعو إلى الريبة ويتطلب آليات رقابة ذات كلفة عالية على الدولة وبالتالي على حساب المال العام قد تتجاوز الرأس المال المتداول نفسه. فما على الدولة إلا أن تتمركز وتأخذ بنواصي الأمور وتكسب ثقة مواطنيها ورؤوس أموالها وكذلك مؤسساتها الاجتماعية من رعاية الطفولة والعجّز وفاقدي السند وعليها تدعيم الصناديق الاجتماعية وتأهيلها إلى أن تتحقق السعادة التي يرنو إليها كل إنسان والمتمثلة في أن يعيش لحظته في رفاهة وطمأنينة ودون كوابيس وخوف من المستقبل. لا يمكن أن تتحقق مثل هذه السعادة دون تحمل الدولة مسؤولياتها كاملة وكذلك شركاءها من مؤسسات اقتصادية خاصة أو مكونات المجتمع المدني هياكل وأفراد لتتناغم مع مؤسسات الدولة. هنا تتجسم السعادة في مفهومها الشامل الذي قدمه الفيلسوف إيمانويل كانط صاحب نظرية الواجب والذي رأى أن الإنسان يصل إلى السعادة في حال أدى واجبه الإنساني كما يراه بحرية من خلال التزامه بمبدئه وعيشه وفقا له. وبالتالي، فحسب كانط، إنسان حر مسئول يمكنه أن يشعر بالسعادة إذا ما أمكنه عيش الحياة وفقا لحريته، أي إذا ما توفرت له الحرية وهي واجب الدولة والتصرف فيها بمسؤولية وهو واجبه الفردي.
شعاري اليوم قد يراه البعض صادما يفتقد للانسانية ويتعارض مع مقومات ديننا وقد يراه آخرون جريء باعتبار ما يتطلبه بلوغ الهدف من تضحيات. إن قلبي يرأف على كل متسوّل وعلى كل فاقد للسند وعلى من يبيت مفترشا الرصيف ومتدثرا بالعرى، ولكنني سأطوي أسفي وحزني وأئِدُهما بصبر أيوب وسأدبّر عقلي لأمنع انحرافا جديدا للتسوّل ومرشحا جديدا لفقدان الكرامة وأسهم في إنقاذ المجتمع من السقوط في الرذيلة. لا يتطلب ذلك مني إلا ما يفرضه علي القانون أي أن أدفع للدولة مستحقاتها كاملة دون زيادة وهذا أضعف الأيمان بالقضية التي بين أيدينا. وقد  أفلح إن  صدقت عن حديث الأعرابي. أما إذا ما لان قلبي وغلب عقلي فلن أمانع في بذل مزيد المال والجهد، ويحق لي حينها أن أطمع في مزيد الأجر، شرط أن تكون الدولة مسئولة دون سواها عن ما يتوفر من موارد. هكذا تتقدم الشعوب ويحس أفرادها بالسعادة.
لماذا يلهث المرء وراء مسكن غالبا ما يتركه قبل إتمامه؟ لماذا يسمح لنفسه ما يعيبه على غيره بدءا بالتمسّح على خط تماس الشبهة في عدم احترام الأولوية في الطابور أو بالتدخل لتشغيل أحد الأبناء ثم تجده أقرب للمحظور ولا يبالي طمعا في الحصول على موارد لتمويل مشروع ثم قد يذهب به الجشع بعيدا للتورط في الجنحة وحتى أبعد من ذلك في الجريمة؟ 
من بواعث السعادة أن لا ينشغل المرء بمستقبل الأبناء لأنه يرهق ويؤرّق، ولا يمكن ذلك إلا  إذا تبنّته فعلا الدولة تلك التي أحلم بها قوية لا تزيل الجمعيات، سرطان هذا الزمان بالجرّافات والآليات الثقيلة بل بتركها في التسلل عارية السوءة لا يسترها تمدّن مزيّف ولا تديّن زائف.