اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
مقتضيات مواجهة الفقر في تونس
 تُعتبر مواجهة الإقصاء المالي وتنمية المناطق الداخلية وتقوية النسيج الاقتصادي والاجتماعي في تونس المداخل الحقيقية لمواجهة كلّ من الفقر وسببه الرّئيسي، البطالة، وبالتّالي مُحاصرة التّفاوت الذي يحول دون ترجمة النّمو المَرجو تحقيقه إلى تنمية حقيقيّة.
ويُعتبر التّمويل الأصغر صنفا مُميّزا من التّمويل اهتدت إليه البشريّة في مواجهتها للفقر والحرمان عموما، واستطاع أن يُصبح قطاعا اقتصاديّا مُعتبرا مُعزّزا بفاعلين مهنيّين وتنظيمات حديثة تُرصد له أموال عامّة وخاصّة، ومَدعوما من دول ومنظمات غير حكوميّة، وحَضي مؤخّرا باهتمام عدد من المستثمرين والشّركاء الخواص.
وقد برز منذ أواسط القرن العشرين التّمويل التّقليدي الأصغر كآلية لقهر الفقر إلاّ أنّه وبعد تجربة عقود من الزمن ظهرت محدوديته نظرا لتعقيدات الآليات لديه ولمحدودية قُدرة مؤسساته على مواجهة الفقر أمام اتساع دائرته.
ومن الإشكاليات المالية المُتصاعدة التي يُواجهها التّمويل التّقليدي الأصغر تلك التي تتمحور حول قابليّة مؤسّساته للبقاء وذلك انطلاقا من محدوديّة مواردها الذّاتية وضعف قدرتها على تغطية حاجاتها التّمويلية ممّا طرح إشكاليّة اكتفائها المالي الذّاتي ومن ثمّة ضمانات استدامة تلك المؤسّسات.
وأمام عجز أداء التّمويل التّقليدي الأصغر في المهمّة الرّئيسية التي وُجد من أجلها، برز التّمويل الإسلامي الأصغر والزّكاة والوقف كآليات لكبح جِماح الفقر الذي أصبح يُشكّل أزمة أخلاقيّة تُلاحق كلّ المُتصدّرين لخدمة الشّأن العام وكحاجة للسّلم العالمي واستقرار المجتمعات.
 وقد تبوّأ التّمويل الإسلامي مكانة مهمّة في عدد من الدّول لما له من قُدرات تمويليّة تتجاوز حدود التّقليدي ولفتحه باب الخدمات الماليّة أمام كثير من الأُسَر والمؤسّسات الصّغرى المقصيّة من النّظام المالي التّقليدي نظرا للشّروط التي يفرضها هذا الأخير وغير المتوفّرة لديهم.
فخدمات التمويل الإسلامي تُمكن الأسر من موارد تؤَمِّنُ بها استهلاكها ومن أصول تحمي بها نفسها من الصّدمات الدّاخلية والخارجيّة. كما تُوفّر للمؤسّسات الصّغرى أدوات لاستمرارها وتنمية نشاطها وخلق مواطن شغل إضافية.
ويستوجب بقاء هذا التّمويل كوسيلة وَازِنَة لمُواجهة الفقر وأسبابه إنشاء بيئة حاملة لبذور النّجاح، ونرى أنّ تونس في أمسّ الحاجة إليها وعلى الجميع المُساهمة في إنشاء هاته البيئة حتّى تُؤتي نشاطا اقتصاديا واجتماعيا كفيلا بتوفير الكفاية للجميع.
وما يُسجّل على مستوى الواقع التّونسي من عدم وجود مُعطيات دقيقة على حجم الإقصاء المالي بتونس هو في حدّ ذاته مُعطى يعكس حقيقة الوضع وحجم الجهد الذي يجب القيام به.
كما يُلاحظ أيضا بُطء نسق تطوّر التّمويل الأصغر عموما ومحدوديّة أداء التّمويل الإسلامي خصوصا، ممّا يتطلب جُهدا مُضاعفا لإنشاء بيئة تجعل هذا النّسق مُتسارعا وذلك الأداء  مُقنعا وجذّابا، ونحسب أنّ ذلك يُمكن أن يتمّ من خلال ما لا يقلّ عن سبعة أفعال :
(1) نشر ثقافة الإنسان
يتمّ ذلك من خلال نشر ثقافة متميّزة تتمحور حول الإنسان كقيمة مهما كان جنسه أو الجهة التي ينتمي إليها أو العائلة التي ينتسب إليها وما يعنيه ذلك من تخليص المخزون النفسي والذهني لأفراد شعبنا من أثر ثقافة الأنانيّة والمحسوبيّة والشحّ والبُخل وكذلك الاستغلال والطّغيان التي اتخذت منها فئات وأفراد وسيلة لتنمية مصالحها على حساب مصلحة كلّ أفراد مجتمعنا وفئاته ويكون ذلك في تناغم مع النّهج الإسلامي الذي عبّر عنه صحابة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بقولهم عنه «كان يفرغنا ثم يملأُنا» بقيم العطاء والعدل والإحسان وبمحبّة كل مواطن لكلّ مواطن آخر ما يُحب لنفسه.
(2) تطوير مناخ الحرّية
يكون تطوير مناخ الحرّية، الذي نعيش، في اتّجاه تحرير القُدرات الفرديّة والجماعيّة التي يَعُج بها مُجتمعنا لِتُصْبِحَ أدوات وأهداف تنمويّة في آن واحد.
ونحسب أنّنا من أجل أن نتخلّص كشعب من إرث دكتاتوريّة الأنــا وتوالــــد الفســاد ،المُخرّبيــن للعُقول والأوطان، والذي يعكســه فقـــر متزايد كرّس إقصــاء وتهميشا لمئات الآلاف من التّونسييـــن وكذلك تفـــاوت جهـــوي واجتماعـــي مركّــب أضعف الشّعـــور لدى كثيريـــن بالمواطنـــة وغَذّى عداوة مشحونــــة تجلّت بواقع الاستقطاب الحادّ الذي نعيشـــه اليوم وما خلّفه من تصدّعات في المجتمع، من أجل ذلك كان لا بدّ من حسن استثمار فرصة مناخ الحرّية التّاريخيـــة والتــي لا تزال محفوفة بالمخاطر ومن عدم إضاعتها بأيّ حال من الأحوال.
ونحسب أنّ ذلك يتطلّب التّخلص من أسر الحاضر دون أن نهمله للمتربّصين وتكون أعيننا في نفس الوقت على المستقبل مُحددّين قيما نعمل جميعا على نشرها كالأخوة بين أبناء الوطن الواحد وتقديس العمل وإعلاء قيمة الإيثار ونبعث رسالة يكون مضمونها أنّنا كشعب نتوق إلى العدل كأساس للعمران والمواطنة كقاعدة للعيش المشترك ونسلك طريق الأخلاق والعلم وإتقان العمل كسبيل للتنمية ولتحقيق وحدة حقيقية لمجتمعنا تمكّنه من مواجهة التّحديات والمخاطر الدّاخلية والخارجيّة.
(3) إرساء منظومة للتّمويل الأصغر الملتزم
يكون ذلك عبر إرساء نظام مؤسّسات للتّمويل الأصغر ملتزم بخدمة أهداف الإندماح المالي والمساهمة في المجهود التّنموي في مختلف الجهات و تقوية نسيج الاقتصاد الوطني ويكون نظاما مدعّما برصيد بشري تتحقّق فيه باستمرار تنمية بشريّة تطويريّة وتحكمه منظومة قانونيّة وتشريعيّة تحمي حقوق جميع الفاعلين على قاعدة «كلّ حسب بلاءه وكلّ حسب حاجته».
(4) توفير الموارد البشرية المؤهلة
توفير الموارد البشريّة المؤهلة لوظائف معينة في مجال التّمويل الأصغر وصناعة مفكّرين علميّين في المجال و ذلك عبر :
* إعداد أجيال عارفة بمبادئ الأعمال المصرفيّة المُتوافقة مع مقاصد الشّريعة الإسلاميّة من حفظ للدّين كمخزون للقيم وللإنسان، نفسا وعرضا وعقلا، كمحور اهتمام وللمال قُوام الأعمال ومُلِمّة بصيغ التمويل الإسلامي عموما والأصغر على وجه الخصوص ومُتمكنة من مختلف تطبيقاتها التمويلية وكذلك من معايير المحاسبة والمراجعة لأعمال المؤسسات المالية لتتلاءم مع متطلبات السوق و تكون قادرة على توفير حاجاته.
* تنمية المالية الإسلاميّة كتصور وآليات في عقول الطّلبة وتكريس الاعتقاد بالأدلّة العلميّة في أحقّية ذلك التّصور ونجاعة تلك الآليّات في المجال حتّى تكون ماليّة دائمة ومُصاحبة للعملية التّنموية.
* إعداد باحثين مختصين في الاقتصاد الإسلامي والمالية الإسلاميّة مواكبة لجاذبيّة هذا الاختصاص واستباقا لما يمكن أن تشهده السّاحة من استحداث لمركز إقليمي للماليّة الإسلاميّة وما لذلك من منافع اقتصاديّة وأخرى اجتماعيّة تشغيليّة. 
* المساهمة في تكوين بيئة مناسبة عبر إعداد أجيال من الطّلبة في مجالات الاقتصاد الإسلامي وآلياته التّمويلية وما يتطلّبه ذلك من تعاون بين الجامعة ومؤسّسات المجتمع من جهة وبينها وبين العديد من المؤسّسات الجامعيّة في العالم.
 * إعداد طلبة يحضون بالقبول في المنشئات الاقتصاديّة والمالية الإسلاميّة وطنيّا ومغربيّا وكذلك إقليميّا وعالميّا وبذلك نضمن استيعابهم في الدّورة الاقتصاديّة داخليّا وخارجيّا دون أن يكونوا عُرضة لنوع جديد من البطالة.
(5) القيام بإصلاحات تنظيمية وإدارية
القيام بإصلاحات تنظيمية وإدارية لمؤسّسات التّمويل الإسلامي القائمة بهدف سيادة الشّفافية واتباع منهج الحوكمة وذلك  للحيلولة دون :
* تجميع السّلطة لدى جهة واحدة لنتجاوز مركزيّة القرار قطعا مع ضعف أداء الإدارة.
* عدم التّوازن  بين مختلف آليات التّمويل الأصغر وذلك لتجاوز هيمنة عقود  المرابحة عليها حفاظا على تنوّع المنتجات الماليّة وإثراء للمشهد التّنافسي المالي.
* إثقال كاهل حُرفاء مؤسّسات التّمويل الأصغر الذين يتحمّلون أرباح المُزود والوسيط المالي في آن واحد. 
(6) إجراءات ضرورية
• إعادة النّظر في الخلفيّة والدّوافع التي كانت وراء إنشاء مصرف الزّيتونة بما يُساعده على كسب مصداقية التوجه الإسلامي الذي يستظلّ بظله.
• تعميق الوعي بجوهر الإسلام «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»(1) وبالمنحى الإنساني للمالية الإسلاميّة ولعقودها وكل أدواتها بما فيها المرابحة، ممّا يدفع إلى إعادة التّفكير في مضمون الرّبحية وفقا للرّؤية الإسلاميّة.
• تنويع مؤسّسات التّمويل الإسلامي الأصغر و تجاوز حالة التّنافس الضّعيفة وسيطرة مؤسّسة أو مؤسّستين على السّوق.
• الضغط على تكاليف الخدمات الماليّة الإسلامية واستحضار البعد الإنساني والاجتماعي عند إسدائها فمن غير المعقول ولا المقبول أن تكون تكلفة الخدمات المسداة من جهات تمويليّة ذات خلفيّة إسلاميّة أعلى من تلك المقدّمة من طرف مؤسّسات تقليديّة والحال أنّ إرادة الله من خلال كلامه هي إرادة التيسير «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»(2) وإرادة التخفيف «يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا»(3).
• تجاوز حالة الهشاشة التي يعاني منها القطاع وذلك عبر إجراءات نذكر من بينها :
* تقوية الموارد وما يتطلبه ذلك من تفعيل لدور الزكاة وهيكلتها وحسن تدبر مصارفها وإتباع الشّفافية والشّورى على مستوى المعاملات والعلاقات بين مختلف المتدخّلين والفاعلين في القطاع.
* حسن التّصرف في المخاطر، فأمام المخاطر المعهودة وتلك المرتبطة بالبنوك الإسلاميّة مثل مخاطر التكرار «réputation» والمطابقة والتّباعد فيما يخصّ معرفة السّياق وفقه القضاء الإسلامي أو المخاطر الماليّة الصّرفة كالسّيولة مثلا، تمتلك البنوك الإسلاميّة وتستعمل أدوات تصرّف في مخاطر القروض مماثلــة لتلك المستخدمة في البنوك التّقليدية مثل استعمال نماذج الترقيم الداخلي( modèles de notation interne) بالنسبة للمخاطــــر المرتبطة بالمؤسســات ونمــــاذج المجمــوع (modèles de scoring) بالنسبة للمخاطر المرتبطة بالأشخاص وكذلك وضع حدود حسب المقابل وحسب القطاع الاقتصــــادي أو عبر احتــــرام قواعد الاحتياط الحذرة (des règles prudentielles de provisionnement..)
* توفير الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية والخبرة اللاّزمة بالطريقة التي بيّناها سابقا.
* إعداد إطار تشريعي مشجّع وعادل وإقامة بنية تحتيّة ملائمة.
(7) اعتماد مقاربة جديدة
توخّي مقاربة مُندمجة قائمة على التعاون «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»(4) والشّراكة بين القطاعين العام والخاصّ والقطاع الاجتماعي التّضامني بعد تركيزه من ناحية وعلى التكوين والتأطير ومرافقة المنتفعين والمنتفعات من ناحية أخرى نظرا لأنها تساعد على بعث مشاريع اقتصادية صغرى في المناطق النائية وتُساهم بذلك في تحقيق الاندماج الاقتصادي  والاستقلالية المالية للمنتفعين وفي انفتاحهم على المحيط الخارجي مما يقلّص ظاهرة النزوح من المناطق الدّاخلية.
الهوامش
(1)  سورة الأنبياء - الآية 107
(2)  سورة البقرة - الآية 185
(3)  سورة النساء - الآية 82
(4)  سورة المائدة - الآية 20