وجهة نظر

بقلم
عبدالنّبي العوني
هل توفّرت شروط و ظروف التغيير؟
 لنفترض غطاءً اسمنتيّا ثقيلا (له قوّة جاذبيّة مرتفعة) وُضع على فوهة مغارة بها عدد محدّد من النّاس (مثل مغارة أصحاب الكهف). لإزاحة هذا الغطاء المطلوب توفير قوّة مضادّة تفوق في قيمتها قيمة قوّة الغطاء الإسمنتي بمقياس عالم النّاسوت ( مقياس  لشّهادة الإنساني)عالم  ولأنّ قيمة قوّة هذا الغطاء أكبر من قيمة قوّة كلّ فرد داخل المغارة، فإنّ كلّ المحاولات الفرديّة سيكون لا محالة مآلها الفشل، وهي إضاعة للطّاقة والقدرة مع الزّمن، أمّا إذا اتّحد الجميع أسفل الغطاء، وتواصوا  بالمعروف والخير على تجميع الطّاقات على قلب رجل واحد... وإذا كان مجموع قيم الطّاقات الفرديّة في اللّحظة التي سيتمّ الدّفع بها لإزاحة الغطاء (لحظة تجانس وانصهار وتوكّل وتحديد الهدف المرحلي والأساسي) تساوي أو تزيد قيمة قوّة الغطاء، فسيحصل الرّفع وإزاحة الغمّة عنهم...أمّا إن كان مجموع قيم الطاقات أقل ممّا يتطلّبه الرّفع ورُغْمًا عن الإعداد الجيّد والاستعداد والتآخي والتوحّد والأخذ بالأسباب، فإنّ الغطاء في عالم الشّهادة والناسوت لن يُرفع. أمّا إذا حضر التوكّل والإخلاص والخلوص، عندها يأتي المدد من عالم الغيب من عالم الملكوت، من عند الله وهو الواحد الأحد الذي يقدّر نسبة الرّفع والإزاحة أم لا. أمّا كيف ومتى يتمّ، فهو ليس من باب علم الإنسان بل من علم الله الخالص الذي لا يستطيع علم الناسوت أن يحيط به ( مثل ما حصل مع أصحاب الكهف)...إذا لرفع أي غطاء لا بدّ لعلم الناسوت الواعي والمؤمن أن يوفّر الأسباب والشّروط والظّروف التي تتطلّبها حالة الرّفع وإلى أقصى حدّ يستطيع إلى ذلك سبيلا... ويبقى التّوفيق والنجاح من عند الله ....أمّا إذا قصّر عالم الشهادة في توفير العدّة ( بأنواعها ماديّة وروحيّة وتقنيّة ومعرفيّة وذهنيّة نفسية..) ولم يتوفّر الصّدق فإنّ عدم التّجانس والخُلفة وعدم القدرة على التّعبئة وتهيئة الطّاقات للإنبثاق في اللّحظة المناسبة والمكان المناسب والرقيّ المناسب، سيكون فاعلاً عكسيّا لقيمة قوّة الرّفع وسيبقى الغطاء إلى أجل لا يعلمه إلاّ الله ريثما تتوفّر شروط وظروف الرفع.. وستبقى كثافة وثقالة الغمّة تحجز الجميع (البرّ والفاجر) وتمنع عنهم الإحساس الفريد بتلمّس مسارب النّصر والتّغيير.
لنأخذ مثالا آخر...نفترض أنّ فردا واحدا في فلاة أو صعيد صاح بأعلى صوته لإسماع احتجاجه ضدّ الفساد والاستبداد والظلم في بلده وبعد استجماع لكلّ قواه (الادراكيّة والنفسيّة والصوتيّة ....مع حسن التوكّل) فهل يمكّنه ذلك وبمقياس عالم الناسوت أو عالم الشّهادة أن يزيح ويحلحل هذا الفساد من مكانه؟..لا أظنّ ذلك...أمّا إذا اجتمع أغلب الموضوعين تحت غطاء الإستبداد في مكان وصعيد واحد ولو كانت في فلاة واستجمعوا القوى وانصهرت الإرادات وتجانست وصاحوا على قلب رجل واحد...فهل يمكن ازاحة الإستبداد وإخافة الفساد؟...هناك فرضيتين: الأولى أن تكون مجموع قيم قوّات الصّيحات أكبر أو تساوي قيمة قوّة الفساد... النتيجة الانسانيّة المشاهدة تؤدّي لا محالة لانزياح غمّة الفساد والاستبداد عن الفتحات التي تمدّ النّاس بهواء الحريّة ولو مؤقّتا (ليست دائمة وخصوصا وأنّ الإنسان مجبول على الغفلة والنّسيان لهذا تُسَنُّ القوانين الصّارمة وتبنى المؤسّسات المراقبة..) وعالم الغيب هنا يبارك ويرعى ويقدّر ويقضي (في الزمن الأرضي يتداخل الإيمان والوعي والاستمراريّة على الإخلاص والأخذ بالأسباب الأرضيّة بما فيها الانسانيّة دون نفي للتّدخّل الغيبي الذي يقدّره ويقضيه عالِم الغيب والشهادة)..أمّا الفرضيّة الثانيّة والمتمثّلة في كون مجموع قيم قوّات الصّيحات أصغر ممّا يتطلّبه إزاحة بعبع الفساد والاستبداد والظلم الغشوم، وبالرغم من توفر عوامل التجانس والحضور والإعداد، فإنّ الإخلاص هنا هو المحدّد لرفع الغطاء والإخلاص لا يعلم قيمته في النّفوس إلاّ عالِمُ الغيب والشهادة وبالتالي فإن حدث الرّفع والإزاحة فهي بتقدير وعون قدّره الله لإعانة عباده بعد توفّر شروطها،أمّا إن حدث العكس فإنّه لا محالة نتيجة وجود نقص أو إخلال ما في حالة ما أو وضع ما أو في توحّد ما، جعل من القوى غير متكافئة ممّا يؤجّل الرّفع والإزاحة حتى يوفّر عالم الناسوت شروط الإعداد والاستعداد والتعبئة للإستطاعة على الرفع...أمّا إن توفّرت الطّاقات وهي كافية للرّفع وحدث الإختلاف والنّزاع والخُلْفة، فإنّ ريح التّنازع تذهب بالنّجاح وريح التربّص تذهب بالطّاقة ولا يُستطاع تجميع قيم الطّاقات وعالم الغيب يترك لعالم الشّهادة مجاله للتّنازع في عالمه وتشتيت طاقته بنفسه لأنّه ليس أهلا وقتها لرفع الغمّة وتأجيلا آخر لميلاد النّموذج النّاجح الذي سيكون حتما لجيل آخر غير ذلك الجيل...
والمشهد الأخير هو ما أراه يحدث في أوطاننا التي تسعى لإزاحة الاستبداد والفساد وإحلال الحريّة وبناء مؤسّسات مستدامة تعاين تطوّر متطلّبات المجتمع. مثلا في تونس استطاعت مجموع قيم الأصوات التي تجمّعت في السّاحات أن تفزع الفساد والاستبداد وتجعل رأسه يهرب في يوم مشهود، لكن بخلفتها وتنازعها وتفنّنها في استحضار الصّراعات القديمة عوض وأدها وبعد علمها أذهبت ريح الثّورة وأهدت فجوات وفتحات عاد منها الفساد متدثّرا عذرّية مقاومة الفوضى والكسل الاجتماعي والاضرابات وهيبة الدّولة وأدخلته عنوة من جديد لمربّع السّيادة... وبالأخص أنّنا حايثنا وعايشنا النواتات الصّلبة التي قدّمت نفسها لإدارة الشّأن العام، وحمّلت ذاتها همّ التّغيير وهَمَّ نقلة المجتمع من حال إلى حال ومن ضفّة إلى ضفّة، أمّا انشغالها الباطني والظاهري فتمحور عصبه حول الانتفاع بالمنافع الماديّة التي في نظرهم هي رافعة التّغيير... فعوض بذر المنافع ليكون عائدها مفيدا للوطن وللمجتمع وبصفة أقلّ للحلقات التي تدور حولها والمرتبطة بها عضويّا (مثل الأبناء أو الأحفاد أو أحفاد الأبناء..الخ) أو المرتبطين والدائرين بها معنويّا حسب درجات القرب في الزمن وفي الفكرة (مثل ما يشاهد كيمائيا عند الذرّة بين نواتها وسحاباتها الالكترونيّة: Noyau et Nuage électronique) فهي بذلت ومازالت كي يكون حصاد هذه المنافع ومُبكِّرا من نصيب النواتات الأولى أو ريعه يعود أوّلا على الحلقات العضويّة والمعنويّة من الدّرجة الأولى المرتبطة بها( منافع عائليّة وجهويّة وحزبيّة وقطاعيّة وهذا تمّ حتى داخل الأحزاب...) وهذا مؤشِّر على بروز التآكل المعنوي والرمزي لعالم الأفكار (وخاصّة الفكرة الجوهريّة) ومُؤذِن بخراب الخلايا والأنسجة والأعضاء والأجهزة (الرسميّة والأهليّة الجمعياتيّة) والمحمولة كلّها على أسنّة معاول الهدم المرفوعة بنواجذ هذه النّواتات..
وظهر هذا جليّا وواضحا من خلال معاينتي البسيطة والانسانيّة وهي نسبيّة بامتياز، قبل 1990 أو ما بين 1990 و1996 سنة سجني أو طوال فترة السّجن في السّجون الصغرى بتونس وبعد 2000 مع المراقبة الإداريّة إلى حدود 2011، ثمّ ما بعد الثورة في مرحلة إعادة البناء الوطني إلى الآن، تقريبا لدى أغلب الشّخوص (يمينا و يسارا ووسطا) الحاملة لهمّ التغيير والرّافعة لراية الانتقال من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة الاستقرار في ميادين الفعل والحرّية وفي مدى تجانس رؤاها وفي مدى إخلاصها وخلوصها ومدى رقيّها الدّاخلي وترفّعها على كلّ مدنّس يحطّ و ينقص من قيمة أدائها في المجتمع في القيادات والزعماء أو في المريدين أو في النّاس العاديين فإن نظرنا إليهم فرديّا ففي المسألة أخذ ورد (بالنسبة للقيم على المستوى الفردي ومنها نفسي الأمّارة بالسّوء) وتتطلب إعادة تطوير وتهذيب من نواحي عديدة منها المزيد من الرقي والإخلاص والخلوص مع تحسين قيم الصّبر والأناة واليقين والعمل الدؤوب والنافع والإلمام بالأسباب وفهم و دراية بالواقع والرّاهن وتقدير الحاجات والاعداد الجيّد. أمّا على المستوى الجماعي فكما يقال «على عينك يا تاجر» فباستثناء بعض اللّحظات الفارقة والقصيرة وخاصّة من بداية 14 جانفي 2014 إلى حدود الانتخابات الأولى سنة 2011 التي توفّرت فيها بعض الشّروط (لكن اعترتها بعض بوادر الخلفة والتّنازع مع بداية استحضار الواعز الايديولوجي والمصالح الفئويّة القطاعيّة والحزبيّة..) فإنّ بقيّة المسار يؤشّر بكوننا مازلنا على تواصل مع عدم القدرة على توفير شروط وظروف وأدبيات التّغيير من أجل بناء وطن حرٍّ، عزيز وعادل بين أبنائه وفئاته وقطاعاته وجهاته... ودرب الحريّة ما زال طويلا وشاقا ... أمّا الشخوص الموجودة الآن فلا أراها قادرة إلاّ على توفير لبنة للبناء وخميرة ففيها الغثّ والسّمين، والعصارات التي تقدّمها فيها دخن وليس صافيا للحدّ الذي يمكّن من البناء السّليم وبالتالي على ما أرى لا يمكن التّعويل على مجهودها وانتاجها ولا ربط الآمال بها لتنجز على الأقل ما وعدت به...لأنّها وببساطة فاقدة لرمزيّة القدوة الحسنة وفاقدة لروح العطاء من أجل الكلّ....
 وعلى المؤمنين بعدالة دولة الحريّة العمل أكثر والحفاظ على المكتسبات المتوفّرة ولو في حدّها الأدنى والإعداد الجيّد والاستعداد والعمل حتّى تتوفّر شروط وظروف أفضل كي يعبر وطننا بنا ومعنا لضفّة الحريّة والمسؤوليّة والعمل الجاد والتي لا تراجع ولا محيد عنها لكلّ الأوطان التي تصنع حدثها وهامشها ومستقبلها حتى لو تطلّب ذلك انتظار عقودا أخرى... مع ترك المجال                 والفضاء والتربة الخصبة لمن سيولد من أصلابنا...
وللنجاح في ذلك علينا تجنيب أبنائنا المنازعات والخلافات وأن لا نورثّهم مسبّبات إخفاقاتنا الأوّليّة، وأن نغرس في مهجهم التعلّق بالعمل والكدّ وفهم السنن والعلم وفق قاعدة الإفراغ والملْء..... 
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(الأنفال:46)
«وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ»(البقرة:213)
«وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.» (الشورى: 14)
«وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (آل عمران: 9)
«وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (الجاثية: 17)  .