قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
بين مثقف وآخر
 (1)
هل كان الانقلاب في تركيا متوقّعا ؟ وهل أصبحت تركيــا فـــي مأمـن من انقــلاب آخــر قد يكــون أشـدّ دمويّة؟
شخصيّا كنت أتوقّع أن تزداد محاولات تأزيم الأوضاع في تركيا بعد توالي التّفجيرات والأحداث الإرهابيّة المتكرّرة ولعلّني كنت على يقين بأنّ الخاتمة المرّة سوف تكون انقلابا يزلزل الأوضاع. وبالمثل فإنّ فشل المحاولة لا يعني عدم تكرارها في منطقة ملغومة يزداد فيها صراع الأضداد عنفا يوما بعد يوم، ويزداد فيها حجم العنف وهدر الأرواح بشكل لم يسبق له مثيل.
(2)
تجدر الاشارة هنا الى أن التحليل السياسي قد لا يكون مفيدا في مقاربة المحاولة الانقلابية الفاشلة بغض النظر عن كون البعد السياسي هو البعد الأبرز الذي جري التركيز عليه طيلة الأيام الأولي التي تلت الإنقلاب الفاشل.
قبل تركيا، حدث انقلاب آخر في مصر وكان ناجحا وأشدّ دمويّة، ولئن كانت المقارنة تبدو مجحفة بين نظامين أحدهما لم يعمّر أكثر من سنة في حين دخل الآخر عقده الثّاني، إلاّ أنّنا نستطيع أن نستخلص من الحدثين جملة من الاستنتاجــات التي تساعدنــا على فهم ما حـدث وما يمكن أن يحــدث لاحقــا سلبـا أو إيجابا حسب زاوية الرؤيا التي يتّخذها المحلّل منطلقا للتّحليل.
(3)
يبدو العامل الثّقافي هو العامل الأكثر أهمّية في تقديري ونحن نحاول قراءة حدث مزلزل سوف يكون له صدى بليغ في المدى القريب كما المدى البعيد. يخرج آلاف من النّاس وفيهم مثقّفون وكتاب وفنّانون وجامعيّون لا يؤلّف بينهم إلاّ العداء لخصم إيديولوجي، ولا هدف لهم سوى إلغاؤه من الوجود والتنكيل به رغم ما قد ينجر عن ذلك من خراب. لا يخرجون دفاعا عن الدّيمقراطية وقيم الحداثة وتأكيدا على مبدأي المشاركة والتّداول السّلمي على السّلطة. ولا تأكيدا على حقّ الشّعب فى تنمية عادلة وفي القضاء على تخلّف تنموي وحضاري استمرّ عقودا تحت وطأة حكم العسكر وإن بغلاف مدنيّ.
خرج هؤلاء في مشهد سينمائي يتقدّمون الصّفوف مطالبين الدّبابات باحتلال الشّوارع وقائد الجيش باحتلال مقعد الرّئيس الشّرعي وتعطيل الدّستور وإعلان الأحكام العرفيّة، ولم يألوا جهدا فى المطالبة بسحق خصومهم سحقا ونعتهم بأقذع النعوت.
خرج الآلاف في يوم واحد ليضعوا رقابهم ورقاب شعبهم تحت حذاء العسكر، ونتيجة لذلك دخلت البلاد في مأتم طويل بدأ بمجازر غير مسبوقة في تاريخ البلد ولعلّه لن ينتهي حتى يستجلب على البلد خرابا كاملا . لم يجن هؤلاء البلهاء الحاقدون شيئا، بل لم يستطيعوا حتى أن يكونوا خيطا أو مسمارا في حذاء العسكر، أمّا العامّة فلم يبق لها إلاّ التّراب لتأكله أو تهيله على الرّأس أو تُدفن تحته.
(4)
أليس حريّا بنا أن نتساءل عن الفرق بين ثقافتي شعبين أحدهما يخرج ليضع رقبته تحت حذاء الضّابط والآخر يخرج ليمنع الضّباط من العبث بالبلاد والعباد؟. هل العلّة في السّياسة والسّياسيات أم العلّة في المثقّف الذي انحدر إلى درجة الحيوان ونسي كل ما تعلّمه وما بشر به من قيم عليّة سامية؟ أم أنّ العلّة فيما استطاع الاستبداد أن ينجزه على مدى عقود من ربط بين المثقف ودوره وحركة المجتمع في ما يشبه التّماهي بين إرادة الاستبداد من خلال أجهزته وبين مثقّف لا يخرج عن دائرة المستبدّ خوفا أو طمعا؟ هل يتحدّد دور المثقّف بما للسّلطة من إرادة أم بما للمثقف من قدرة على التّغيير و من إرادة للدّفع بمجتمعه نحو الرّقي ؟
المفترض في المثقف أن يكون الأحرص على إشاعة قيم العدل والحرّية فى المجتمع وأن يكون بمثابة القاطرة التى تجرّ هموم الأمة وأزماتها نحو آفاق الحلّ بما يخدم قضايا الوطن والشّعب والمثقفين على حد السواء. 
لا يكون المثقف الحقيقي إلاّ مصلحا حاملا لهموم شعبه مدافعا عنه ضدّ المستبدّ والمستعمر والغازي. فكيف يصبح هذا المثقف رافعة للظّلم والاستبداد والعمالة ومنظّرا للمستبدّين وأجهزة النّفوذ والتسلط؟
لقد تخلّى المثقّف عن دوره الحقيقي سعيا منه للتقرّب من السّلطة أو لهثا وراء مصالح مادّية ذاتيّة ونسي أنّه متى ما فقد استقلاله فقد كرامته وقدرته على التّأثير الحرّ. وليست المشكلة فى فقدان الاستقلاليّة فقط وإنّما المشكلة الأعمق هى فى هذا الاغتراب الذى يعانيه المثقّف تجاه قضايا شعبه وتماهيه مع قوى الاستعمار والاستبداد والرّدة. إنّه لطالما رفع شعارات برّاقة من قبيل الحداثة والتّنوير والدفاع عن القيم الكونيّة ولكنّه كان دائما مثقّفا انتهازيّا شوفينيّا متعاليا لا يرى شعبه إلاّ ما يرى ولا يرى في شعبه إلا جمعا من البلهاء الذين عليهم أن يتّبعوه دون نقاش وإلا انبري ينعتهم بأقذع النّعوت ويعاديهم أشدّ العداء.
(5)
ليست العلّة فى المثقفين وحدهم ولا فى النّمط الثّقافي الذي أشاعوه بين النّاس فقط، بل العلّة الكبرى لما يجري من إعادة انتاج للاستبداد والتبعيّة يتحمّل القسط الأكبر في تكريسها شعب لا إرادة له فى حماية ثورته ووطنه، شعب مطواع سهل الركوب، يميل مع من يميل به ولا يمتلك ما يفترض في الشّعوب الحرّة من إرادة وطول نفس. ولا نعني هنا التعميم، وإنّما نقصد بالشّعب غالبيته التى سارت وراء هؤلاء المثقّفين من دون أن تدرك حجم الكارثة التى ستحلّ بها.
تركيا جزء من عالمنا الاسلامي وقد ساد الأتراك عالمنا زهاء الخمسة قرون ثم جاءتهم العلمانيّة بديلا عن الخلافة والعسكر بديلا عن الخليفة، وكان حكم العسكر شديدا عليهم من كل النّواحي وخاصّة من النّاحية الثّقافية أمّا سياسيّا فقد كان الاستبداد سيّدا عليهم وهم القريبون من أوروبا ومن الحداثة ومن حلف «الناتو» حامل لواء الدّيموقراطية. جاءت الديموقراطية بحزب من لون آخر وإن كان يتّخذ من العلمانيّة سقفا واستطاع أن يحدث طفرة اقتصاديّة  واستقرارا سياسيّا والأهم أنّه استطاع القطع مع حقبة طويلة من الاستبداد فهل كان هذا القطع ثقافيّا بالأساس؟ وهل استطاع هو ومن معه أن يعيد تشكيل وعي النّاس ليهبوا عامّة ومثقفين ليدافعوا عن قيم لطالما دافع عنها الغرب مدعيا أحقيته فى الدفاع عنها؟ ولماذا ينبري الآن مثقفونا للدّفاع عن الانقلاب رغم ما كان سيحدثه من قطيعة مع التّنمية والديموقراطية وحقوق الانسان وكلّ القيم ؟ وهل يستطيع هؤلاء أن يدافعوا عن هذه القيم مرّة أخرى بعد أن أدرك النّاس زيفهم؟.