القرآن والسماء

بقلم
نبيل غربال
السماوات والأرض (2)
 يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (*) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ (*) ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (*) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (1)
يعتمد العلماء على نظرية تكتونية الصفائح لفهم وتفسير الأرض ماضيا وحاضرا ومستقبلا من خلال رصد ما يعتمل بداخلها من تيّارات حراريّة صاعدة ونازلة وما يظهره وجهها من تضاريس. وقد توصلوا إلى أن تلك الديناميكية الباطنية تفسر الأحداث الجيولوجية التي تظهر على السطح مثل الزلازل وحركة الكتل القارية والبراكين والجبال وغيرها.  
عندما نقرأ الآيات الأربعة موضوع المقال نلاحظ أنّ في الآية العاشرة إشارة إلى الجبال وهي إشارة تجعل في اعتقادي من المقاربة العلميّة لأيّام الخلق السّت ممكنة إضافة إلى إشارات أخرى سنذكرها في وقتها. ففي اليومين الثالث والرّابع خلقت الجبال وبارك فيها الله وعطف سبحانه على كلّ ذلك تقدير الأرزاق لأنّ العلاقة بين الجبال وأرزاق الكائنات التي ستوجد لاحقا حسب تقديره جلّ شأنه علاقة مباشرة كما سنرى لاحقا. لن نقف عند آليّة انتصاب الجبال حسب نظريّة تكتونيّة الصّفائح بل ما يهمّنا في أهمّ تضاريس الأرض أي الجبال هو مساهمتها الفعّالة في تولّد المعادن وتنوّعها. 
فعندما ترتفع الجبال تعمل عوامل التحات والتّعرية وخاصّة الماء بالإضافة إلى عامليّ الحرارة والرّيح على تفتيت الصّخور النّارية بالنّسبة للجبال البركانيّة الأولى التي تشكّلت ثمّ تتكفّل مياه الأنهار والوديان إلى إيصال المواد المفتّتة إلى أحواض البحار والمحيطات أين تترسب وتصبح صخورا رسوبيّة بعد ملايين السّنين. ومع الزّمن تصبح الصّخور الرّسوبية نفسها مادّة السّلاسل الجبليّة التي ستتكون باصطدام الكتل القارّية وستكون عرضة لنفس الآليّة ممّا يؤدّي إلى بروز معادن جديدة وهكذا إلى أن تظهر الحياة التي ستقوم بدورها في تنوع المعادن الأرضية. ولا يمكن ألاّ نسجل معطى هاما يتعلق بالمنظومة «أرض-جبال» إذ يقول تعالى «وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ»(2) و«وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ»(3) ممّا يعني أنّه لم يكن فيها من قبل جبالا. فمادّة جعل في اللّغة تشير إلى الصّنع والصّيرورة ولكنّها أعمّ فنقول مثلا جعل الطّين خزفا أي صيّره. 
يصرح القرآن إذا بأنّ الجبال رواسي وهذا موضوع سنعود إليه في مناسبة أخرى إن شاء الله ويصرّح أيضا وهذا الذي يعنينا في هذا المقال بأنّها لم تكن موجودة ثمّ جعلت لاحقا وهي حقائق علميّة ثابتة في يومنا هذا. ويمثّل وجودها تدشينا لمرحلة أرضيّة جديدة ستكثر فيها المعادن بأعداد كبيرة وهو ما يلقي مزيدا من الضّوء على ربط الجبال بالبركة والأرزاق في الآية العاشرة.  
التّنوع المعدني يتدعّم
أدّى تعاقب الانصهار الجزئي والتّصلب لقشرة الأرض وبتفاعل مع عوامل التّجوية مع المحيطات والغلاف الجوّي إلى ازدياد التّنوع المعدني. بدا ذلك قبل 4.4 مليار سنة أي بعد حدث الاصطدام الكوني الرّهيب بين الأرض البدائيّة وكوكب «ثيا» الذي جرى قبل 4.5 مليار سنة حيث قذف الاصطدام كمّية كافية من المواد المتبحّرة في مدار حول الأرض لتتجمّع بفعل الثّقالة وتعطي القمر. 
كانت الأرض بلا حياة، وتواصل خلال الملياري سنة التي تلت نشأة القمر تعاقب الانصهار والتصلب مولدا ما يقارب 1500 معدن. بدأت قبل ملياري سنة من الآن نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض تكبر بفضل الكائنات الحيّة القادرة على التّركيب الضّوئي أي تحويل طاقة الشّمس إلى طاقة كيميائيّة. نتج عن ارتفاع الأكسجين في الجو تغيّر دوره الكيميائي وشهدت الأرض نتيجة لذلك ظاهرة ما يسمى بـ «الأكسدة العظيمة» التي مكّنت من ظهور حوالي 2500 معدن جديد.
«المعدن» كمفهوم مرشد
بعد عرض أهم الأحداث التي مرّت بها الأرض وليس كلّها سنطرح سؤالا منهجيّا وسنعتمد الإجابة عليه لمقاربة تفسيرية علمية للآيات الأربعة من سورة فصلت وهو التالي: هل هناك في تلك الآيات مفهوما يمكن أن يرشدنا إلى المراحل الستّ التي تشير إليها؟ أي هل يمكن أن نستنتج من الآيات مفهوما نلتزم به كموجّه في محاولة تفاعلنا العلمي معها بعلاقة بمراحل الخلق؟ إنّي اعتقد أنّ الإجابة بنعم وأنّ المفهوم المرشد والذي من المحتمل أن يوجّهنا لتحديد تلك المراحل هو مفهوم «المعدن» أي الوحدة الأساسيّة التي تتكون منها صخور الأرض. لماذا؟ 
لقد خلق الله الأرض لاستقبال آدم وذرّيته لتعميرها من ناحية وجعلها منصّة للانطلاق إلى السماء من ناحية ثانية بحكم أنها مسخّرة له مثل الأرض كما تقول صراحة العديد من الآيات مثل «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(4). تتميز الأرض الحاضنة للبشر عن بقية الكواكب التي تنتمي للمجموعة الشّمسية (أجرام تدور حول الشّمس) بأنّها الوحيدة التي يوجد فيها الماء في حالاته الفيزيائيّة الثلاثة أي صلبا وسائلا وغازا بفضل موقعها من الشّمس أولا وهو ما يمكّنها من استقبال كمّية محدّدة من الطّاقة ملائمة لكلّ مظاهر الحياة وأشكالها وبفضل كتلتها ثانيا والتي تجعلها قادرة على الاحتفاظ بغلاف غازي حولها يوفّر الضّغط الملائم لتواجد الماء  في الحالات التي ذكرنا أنفا. يقول الله في الآية العاشرة أنّه بارك في الأرض أي جعل فيها الخير والبركة والنّماء وقدّر أقواتها أي حدّد كمّا وكيفا أرزاق الكائنات التي ستستقبلها من نبات وحيوان وبشر.  فما علاقة ذلك بالمعادن أي بمكونات الصّخور وما علاقة الصّخور بالماء؟  الإجابة عن السّؤال أصبحت بديهية في زمننا الحاضر. 
تمثل الصخور الأرضية عنصرا أساسيّا لما اصطلح على تسميته بـ«السّلسلة الغذائيّة». تغذّت الكائنات البدائيّة وحيدة الخلايا بالطّاقة الكيميائيّة من الصّخور وذلك قبل ما يقارب الأربعة مليار سنة. والآن يعيش النبات على معادن الصّخور أيضا وتتغذّى الحيوانات من النّبات ويحتلّ الإنسان موقعا متميّزا في السّلسلة حيث يمتّعه الله بها جميعا. فالإنسان مثله مثل الكائنات الأخرى يعتمد في غذائه على مواد تعود كلّها إلى معادن الأرض بتدخّل عنصريّ الماء والطّاقة الشّمسية. ليس الهدف من المقال التّعمق في استكشاف التّكامل والتّوازن بين مكونات السّلسلة الغذائيّة والعوامل الفيزيائيّة والمناخيّة التي قدّر تفاصيلها الخالق جلّ شأنه لإنجاز ما تعلّقت به إرادته تعالى، بل استكشاف العلاقة بين البركة التي فسّرت من قبل باعتبارها الخير المرتبط بما خلق في الأرض من المنافع للعباد وبقية الكائنات و«البركة» التي سنربطها في المقال بالتنوع المعدني في الأرض وهو ربط تسمع به اللّغة طبعا باعتبار أنّ من معاني البركة الكثرة. سنعتمد إذن المفهوم العلمي للمعدن كموجّه لتحديد أيّام الخلق الستّ وهو اجتهاد نسبيّ من طرفنا لا يلزم غيرنا يربط المفتوح على ما شاء الله من الحقائق أي القرآن الحكيم وما يتوصّل إليه العقل البشري من حقائق.
«البركة»
يفسّر الكمّ الكبير من المعادن على الأرض بوجود الماء. لذلك ونظرا لانعدامه في عطارد وقمر الأرض فإنّ عدد المعادن المكوّن لصخورهما محدود، إذ يقدّر المختصون أنّ عددها لا يزيد عن 300.  لقد تجمّد الماء فيهما في المراحل المبكّرة لنشأتهما ولم يحدث انصهار مهمّ فيهما حتّى يعطي معادن جديدة من ناحية ولم تتوفر العوامل اللازمة لتكون الأحجار الرّسوبية من ناحية أخرى. كذلك الشّأن بالنّسبة لكوكب المرّيخ إلاّ أنّ هذا الأخير يظهر أنواعا من المعادن مثل الطّين والتّبخريات ممّا يشيء بوجود كمّيات مهمّة من الماء السّائل في الماضي. ويقدّر العلماء أنّ هناك حوالي 500 معدن مختلف. تبيّن المعطيات المتوفّرة عن الأجرام السّماوية المرتبطة جذبويّا بنجم الشّمس فقرا معدنيّا واضحا قياسا بآلاف المعادن المعروفة في الأرض ممّا يعطي لمفهوم «البركة» بعدا مادّيا ملموسا. إنّ وجود حوالي 4400 معدن في الأرض وبضعة مئات أو أقل من ذلك في الكواكب الأخرى أليس مباركة في الأرض خاصّة إذا علمنا بأنّ قاعدة السّلسلة الغذائيّة للكائنات وعلى رأسها البشر هي معادن الصّخور؟ ألا يدعو ذلك إلى التّدبر ومزيدا من التّدبر؟ 
الهوامش
(1) سورة فصّلت - من الآية 9 إلى الآية 12
(2) سورة المرسلات - الآية 27
(3) سورة الأنبياء - الآية 31
(4) سورة الجاثية - الآية 13
(يتبع)