في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
الأيديولوجيا والسياسة انتحار أم ازدهار
 مقدمة
تعرف السياسة في لسان العرب [1] بأنها القيام على الشيء بما يصلحه. وفي الحديث: «كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهُمُ الأنبياء، كُلما هلك نبي خلفهُ نبيٌّ، وإنهُ لا نبيَّ بعدي، وسيكون بعدي خُلفاء فيكثُرون. قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهُم»[2]. وتعرف السّياسة في الاصطلاح بأنّها فنّ إدارة ورعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية عن طريق صنع قرارت ملزمة لكلّ المجتمع تتناول قيم ماديّة وربما معنويّة أيضا، وتعرف إجرائيّا عند عالم الاجتماع الأمريكي «هارولد لاسويل» بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا (المصادر المحدودة) متى وكيف، أي دراسة تقسيم الموارد - يشمل ذلك توزيع القوة والنفوذ- في المجتمع عن طريق السّلطة (ديفيد إيستون)، وعرفها الشّيوعيون بأنّها دراسة العلاقات بين الطبقات، وعرفها الواقعيون بأنّها فن الممكن  أي دراسة وتغيير الواقع السّّياسي موضوعيا وليس الخطأ الشائع وهو أن فنّ الممكن هو الخضوع للواقع السّياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوّة والمصلحة. 
أما الأيديولوجيا Ideology فهي كلمة منحوتة من الكلمتين اللاتينيتين idea   وology  وتعني علم الأفكار، وفي الاصطلاح مجموع القيم والأخلاق والأهداف التي تسوق صاحبها إلي الاختيار بين البدائل، وبناء نماذج ذهنية لتأويل الواقع بكيفية تظهره دائماً مطابق لما يعتقد أنّه الحق. بالرّغم من أنّه لا توجد مطابقة تلقائيّة بين الواقعة وبين صورتها في ذهننا كما يقرّر «ماكس فيبر». ويظهر التناقض بين الفكر والواقع عند التأويل وفق قواعد غير متّفق عليها أو عند النّظر في أوجه المصالح والمفاسد ومن ثمّ التعصب للأيديولوجيا. بشكل مختصر الأيديولوجيا هي مجمل التّصورات والأفكار والمعتقدات وطرق التفكير[3] التي تهدف إلى تفسير النّشاطات البشريّة داخل مجتمع ما. وفي عالم مركب ومعقّد تفي الأيديولوجيا بدور الطّبيب النفسي الذي يختزل تعقيدات المرض النّفسي في إيجاد حالة من الرّضا تقاوم الخوف والقلق من تتبّع الآراء المتباينة وصعوبة استنباط الحقيقة من العمليّات المركّبة والمرهقة للتفكير وبذلك تشعر الأيديولوجيا صاحبها بامتلاك نموذجا تفسيريا للحقيقة. 
ممارسة الأيديولوجي للسّياسة
يندر أن تجد سياسيّا - وخصوصا إذا كان حزبيا- أن يكون غير متّبع لأيديولوجية معينة، سواء أكان هذا الحزب شيوعيّا، أم إسلاميّا، أم ليبراليّا أو أي شئ آخر. وبالتالي فعند دخول الأيديولوجي إلى عالم الممارسة السياسيّة فإنّه حتما سيصطدم بسياسيين آخرين لهم أيديولوجيّات مختلفة، وقد يكون الاختلاف كبيرا وحادّا وساخنا مثل الذي نراه ونحياه في منطقتنا العربية الإسلامية وخصوصا عند العلم بأنّ الإسلام دين له منظومة تشريعيّة تشمل كافّة مناحي الحياة، بخلاف ما نراه في الغرب من أحزاب شتّى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار إلاّ إنّ قواعد السّلوك والممارسة السّياسية هي العلمانية بالأساس التي تصهر المختلفين في بوتقة واحدة. ولتخفيف حدّة الصّدام بما يضمن بقاء الوطن وازدهاره، فلابد من الوصول إلي صيغ توافقية متوازنة بين المختلفين توفق بين المشاركة البراغماتية في عالم السياسة وبين المعتقدات الإيديولوجية، ولا تصاغ  هذه المواثيق على عجل في يوم أو يومين بين ثلاثة أو أربعة من القادة من هذا الحزب وذاك وإنّما يجب أن تعقد ورش عمل تتضمّن فرقا موسعة من القواعد الشعبية للجانبين، ليس لإقناعهم بقيمة وأهميّة صياغة ميثاق توافقيّ فحسب وإنّما المشاركة في إيجاده أيضا وربّما يمتدّ بعمر جيل بأكمله. ويصعب جدّا - لكنه غير مستحيل - على أيّ حزب تشكّلت قوته المجتمعيّة من أيديولوجيا تمّ التّصريح بها في أدبيات كثيرة ومنشورة أن يصل إلى هذه الصّيغة. ومن ثمّ على الأحزاب الأيديولوجية أن تأخذ وقتا كافيا لصياغة ميثاق عمل سياسي منفصل عن أيديولوجية رافعته المجتمعية وألا يصرح قادته بل وأفراده بتمام أيديولوجيتهم في وسائل الإعلام في سيل جارف من التصريحات غير المحسوبة حسابا دقيقا تؤمن معه العواقب الوخيمة، لأنّه لو صرّح أي فرد أيديولوجي بتمام أيديولوجيته وهو يريد الدّخول إلي معترك الحياة السياسية بكل تعقيداتها فلن يكون هذا إلا بمثابة إعلان وثيقة الانتحار السّياسي. والمثال الحيّ على ذلك السّياسي الأمريكي عند مخاطبته للنّاخبين الأمريكان في الولايات الجنوبية والغالب عليها حتي الآن سيطرة الرّجل الأبيض وعدم أخذ الأمريكان السّود لكافة حقوقهم، لا يتكلم في برنامجه الانتخابي عن حقوق السّود والأقليّات إلا شذرا ودون تفاصيل ويكون الكلام بالعموميات هو المخرج. أيضا عند الخطبة في وسط جمهور من المتدينين فلن يكون الحديث عن قضايا بعينها مثل الإجهاض والمثلية الجنسيّة والحرّية غير المقيّدة من أيّ وجه حديثا مجديا بل يكون ناسفا للبرنامج وسط هؤلاء. المصلح الاجتماعي وحده هو الذي يناضل من أجل هذه القضايا وليس السّياسي وهذا من اختلاط الأدوار في مجتمعاتنا إذ يعدّ السّياسي نفسه مصلحا اجتماعيّا وليس مديرا فحسب للشّأن العام، ومن ثمّ يصدره الإعلام على أنه القائد الأعلى لكافة المجالس المتخصصة ويكون المعلم الأول والطبيب الأول والإعلامي الأول والمفكر الأوحد وفيلسوف الفلاسفة إلي آخرالأوصاف التي ربما لا يطلقونها على نبي مرسل.
فصل الأيديولوجي عن السياسي
قبل الخوض في هذه الجزئيّة يتعيّن الحديث مختصرا عن فصل الدّعوي الذي يختلط كثيرا بالأيديولوجيا عن الحزبي وعن السّياسي،  ففارق كبير جدّا مثلا بين رواية أحداث التاريخ وبين تفسيرها، فالأولى تجيب عن تساؤل «ما الذي حدث»؟ أما الثانية فتجيب عن تساؤل «لماذا أو كيف حدث»؟ 
ربما أكون مع فصل الأيديولوجيا عن السّياسي وبالتالي عن الدّين أصلا، فالأيديولوجيا من وجهة نظري تعبد الطريق أمام معتنقيها للعلمانيّة، ولا شكّ أن كثيرا من المنتمين انتماء تنظيميّا حركيّا للتّيارات الإسلاميّة قد أصابهم نصيب - حتى ولو كان صغيرا - ممّا أصاب الأمم السّابقة من قول الله عز وجل « إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مهتدون» [4] من اتباع التنظيم والمشايخ والدّعاة والمنظرين في كل تيار اتباع الأعمى وتغليب آراؤهم على القواعد الشّرعية ممّا جعل عمليّة المراجعات عسيرة جدّا عندهم بل وضئيلة المحتوي. لكنّي لست أبدا مع فصل الدعوي عن السّياسي بدعوى التّخصص الذي لا ينكره عاقل، فهل يعني فصل الدعوي عن السّياسي أن تتّجه فئات إلى التّخصص في العمل الدعوي بعيدا عن التّحدث في الشؤون العامّة دعما أو نقدا؟، ثم تعزل مجموعة أخرى للتّخصص في السّياسية بحيث يكونون أحراراً في اختياراتهم وقرارهم السّياسي بعيدا عن إطار جماعتهم وفكرتهم الأمّ. فليس للدعوي ولا للسّياسي حريّة التّحدث عن الرّبا مثلا فهذا من الشّأن الاقتصادي إذا كان الدّاعية هو المتحدث ومن الشّأن الدّعوي إذا كان السّياسي هو المتحدث. إذا كان التخصّص سيفصل المتخصّصين إلى جزر معزولة بعضها عن بعض فهذه هي المصيبة الكبرى، خصوصا وإنّ جزءا كبيرا من العلوم الإنسانيّة مثل العلوم الشّرعية كلها وعلوم السياسة وعلم الاجتماع والتاريخ وغيرها كثير يعتبر أرضيّة مشتركة يقف عليها الجميع حتى المتخصّصين في حقل العلوم الطبيعيّة بل إنّي أقول أنّه في حال انعدام حظّ الإنسان من هذه العلوم ينعدم إبداعه في تخصّصه هو. 
هل إذا عرض حزب ما برنامجا لحلّ مشكلة البطالة ببناء مصانع للخمور ومن ثم تشغيل الشباب العاطل أو برنامجا لمجابهة التّضخم عن طريق الصّناديق الرّبوية، إذا كان الدّستور لا يمنع ذلك حتى ولو تمّ النّص في بدايته أنّنا دولة عربيّة ودينها الإسلام، فهل نمنع أنفسنا من معارضته لكي لا يقال عنّا أنّنا ندخل الدّيني أو الدّعوي في السّياسي ولاحترامنا الدستور الذي لا يمنع ذلك بشكل صريح. ورغم أنّ هذه مسألة حدّية فليس هناك اختلاف في تحريم وتجريم إنتاج وتوزيع وبيع وشرب الخمر فقد حرمت في الخمر عشرا، لكن في زمن العزّة والقوة نجد الشّعب لا يتردّد لحظة في تقويم حاكمه في مسألة ربما كانت من المتشابهات بل ودعوته إلى الرّجوع للحقّ فما كانوا يفرّقون بين السّياسي والدّعوي. هل إذا صدر عن المجلس التّشريعي قانون يقضي بأنّه إذا تراضى الزّانيان على الزنا فلا عقوبة إذ لا يوجد حقّ للمجتمع عندئذ فلن يصدر تعليق من السّياسي ولا من الدّاعية لأنّه من الحرّيات الشّخصية، برغم أنّ هذا أصلا يعدّ عمليّة قتل حقيقي لحرّية التفكير والنّقد. 
عود لفصل الأيديولوجي عن السّياسي
الأفكار لا تموت وإنّما يعاد تشكيلها وتلاقحها مع أفكار أخرى للمختلفين، وذلك من أجل الملاءمة السّياسية، وأسوأ حال يدخل الإنسان فيها معاركه الأيديولوجيّة هي إحساسه بأن نشر أفكاره وتحقيقها رهينة بتدويرها في منظومة خصمه بحيث يعمد إلى إعادة صياغة أفكاره لتتوافق ومقاسات أفكار خصمه، وليس التّوافق معه على شكل سلمي متوازن لإدارة الشأن العام. من هذا المنطلق تكون صياغة ميثاق عمل سياسي منفصل عن الأيديولوجيات أمرا ممكنا، لكني أظنّه لا يأتي إلا بعد وجود عاملين هامّين جدّا أولهما وضع برنامج للحزب تخفف فيه الحمولة الأيديولوجيّة بحيث يصبح تنازل المختلفين عن رأي هنا أو عن رأي هناك بعيدا عن القواعد المؤسّسة للحزب أمرا سهلا وميسورا لأجل المحافظة على الوحدة، ثانيا نضج النّخب السياسية الفاعلة بالمجتمع بحيث يتكون لديها معرفة رصينة بالثوابت والتي لا يمكن النّقاش حولها وبالمتغيرات والتي من الممكن التّفاوض في ظروف تنفيذها. فالشيوعيون مثلا تتصدر الملكية العامة لوسائل الإنتاج قائمة أيديولوجيتهم، والإسلاميون يؤمنون بتحكيم شرع الله، والليبراليّون يؤمنون بمذهب الحرّية المطلقة فهل إذا وصل أحدهم لهرم السّلطة السّياسية، هل سيتعامل مع دستور ينصّ فيه على أمور تخالف أيديولوجيته. أم أنّه سيسعي لتغيير هذا الدّستور وهذه الأخيرة ستجرّه حتما لاضطرابات تعمّ البلاد خصوصا إذا كانت نسبة التوافق ضعيفة أو كان توافقا شكليّا. المخرج من هذه الأزمة هو الصيغة المتوازنة التي يتوافق حولها أطراف اللّعبة السياسية والتي في نفس الوقت تضمن بقاء متوازن لهؤلاء الأطراف وعدم تشظيهم إلى كيانات مجهريّة تعصف بالبلد بكامله.
 لابدّ من تربية جيل من السّياسيين قادرين على إدارة الخلاف الفعال في كلّ القضايا، خصوصا أنّ ممارسة السّياسة في ظلّ وجود أيديولوجيّات مختلفة هي حالة صراعيّة بامتياز وهي ليست انتصارات على طول الطريق بل يجب على السّياسي، إن بدت الخسارة أمامه، أن يتعلّم كيف يخسر الجولة دون خسارة المبدأ، خسارة مؤقتة وتكتيكيّة تجنّباً للانكسار، مثلما سلم المارشال الروسي موسكو محروقة لغريمه نابليون، هُزمت موسكو في البداية، وانكسر نابليون في النّهاية لأنّه لم يستطع أن يطعم جيشه في المدينة المحترقة. السّياسي يعلم متى يصرح ومتى يلمح، على أنّ جلّ تصريحات السّياسيين تكون عادة بالعموميات ومن هنا قيل: السّياسي إذا قال «نعم» فإنّه يقصد ربّما وإذا قال«ربما» فإنّه يقصد «لا» وإذا وقال «لا» فإنّه ليس بسياسي. ولذا فلا بدّ من إدارة الصّراع داخل الإطار الفكري فقط بعيدا عن العنف ما أمكن، فلا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما كما جاء في الحديث[5] ، وينبغي تغليب مصلحة الوطن على المصالح الحزبيّة الضّيقة. ولا أدلّ على ذلك من الذي حدث في صلح الحديبية عندما قال سهيل بن عمرو «لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك»، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد الله، أتأنف من نسبك يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله وإن لم تقروا، ثم قال: امح يا علي! واكتب: محمد بن عبد الله. بل ومحا بسم الله الرحمن الرحيم وكتب بدلا منها بالاتفاق باسمك اللّهم. وهنا ظهر حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تعظيم حرمات الله، وترك القتال في الحرم، وحقن الدّماء أن تسفك في الشّهر الحرام، فأعلن استعداده للتّفاوض مع قريش، والموافقة في سبيل ذلك إلى أبعد الحدود، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها» [6].
الهوامش
[1] أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ( ابن منظور) «لسان العرب» دار صادر، 2003م.
[2] حديث أبي هُريرة رضي الله عنهُ عند البخاري ومسلم.
[3] معجم العلوم الاجتماعية والفلسفية، نيويورك 1944م، ص 149 
[4] القرآن الكريم – سورة الزخرف – الآية 22.
[5] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ.
[6] كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط 3/178.