تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
الثورة والعمل
 أقلّ الثورات ضررا وأقلّها تكلفة ثورة تونس التي مازال شبابها وشيوخها ينتظرون مستحقّاتها الضائعة بين مفردات ضبابيّة المعاني تحلّلت وذابت في واقع طغى عليه غياب الوعي الاجتماعي واضطراب المفاهيم العقائديّة. 
حملت هذه الثّورة منذ أيّامها الأولى ألغازا حيّرت المحلّلين السّياسيين والمهتمين بالشّأن العام فسال حبر كثير ليلطخ عديد الصّحف بالتّقارير المبنيّة على الظّنون وسال حبر آخر لا يقلّ أهميّة للتّكذيب والسّب والتّقريع. لماذا تأخّرت كتابة أحداث هذه الثّورة التي لا تزال غامضة؟ أَلِجفاف الأقلام في عهد أصبحت الكتابة دون قلم ودون حبر؟ أم لغياب المنتصر الذي تعوّد كتابة التّاريخ وتوثيقه عاجلا دون تردّد. أين المنتصر في هذه الثّورة؟ وإن كان لابدّ من منتصر، فأين المنهزم؟
لمّا كانت تندلع الثّورات وتقوم على مبادئ إنسانيّة لتركيز نظم حياة جديدة ترتقي بالعنصر البشري وتتبنّاها شخصيّات ملهمة هم فلاسفة العصر فينظّرون لها ويدعمونها بدساتير جديدة تكرّس العدالة والتّنمية والكرامة، باغتت ثورتنا كلّ السياسيين والمهتمين بالشّأن العام وافتقدت للقائد الذي يسيّر الأحداث ويرسم الأهداف فاختلف المتنافسون على قيادة هذه الثورة بعد أن انطلقت شرارتها واندلع حريقها وبلغت نقطة اللاّعودة بفرار رأس السّلطة.
ماذا ننتظر من ثورة أبعدت عنها العقلاء والحكماء واستهزأت برموز الفكر والفلسفة واستصغرت شأنهم ليبقى الفضاء شاسعا ورحبا يصول فيه ويجول كل من رأى في غياب السّلطة فرصة للتموقع وتوسيع نطاق تجارته. تجار حرب لا يعنيهم ما يبيعون من أسلحة ومخدرات وما يبثون من وهْم وما يزرعون ويتبادلون من فتن مأربهم بلوغ يوما السّلطة المفقودة التي قد تمكّنهم من مزيد ازدهار ونماء ثرواتهم. سارع هؤلاء بالاحتماء برجال القانون ليوجهونهم على خطى سابقيهم عبر الطرق الملتوية لمعرفتهم للثغرات المدروسة. والنتيجة لما قامت ثورة على قوانين جائرة، وقُلِب الوضع مرتين، سنّت قوانين أكثر جورا. 
دور المحامي الصادق بيان الحقيقة لصالح من نوّبه وتوجيهه إلى الهدف المرسوم دون مخالفة النّص القانوني طالما يحرسه القاضي، وقيمته المضافة في مدى معرفته بإخلال النّص ونقائصه ومدى قدرته على تأويلها والاستفادة منها لصالح منوّبه. أما أصحاب الفكر ورجال الفلسفة فنظرتهم شاملة لتغيير أنظمة حكم وتركيز قيم اجتماعيّة فكريّة وعقائديّة دون اعتبارات شخصيّة ولا فئويّة.  
بالرّجوع إلى دليل توجيه الطّلبة كنت أتساءل دائما لماذا تم ربط العلوم السّياسية بمهنة المحاماة دون سواها؟ ألم نكن أفضل حالا ممّا نحن عليه لو ارتبطت العلوم السّياسية بالعلوم الاقتصاديّة أو بإحدى العلوم الاجتماعية الأخرى؟ ألم يتصدّر المشهد البرلماني محامون ومحامون دون صفة يفصّلون الأحكام على مقاسات سادتهم ونزواتهم. والشّكوك صارعْتُها فتشبّثت وأكدّت الأيام تخوّف بعض الحكماء من فخاخ نصبت في دستور الجمهوريّة الثّانية وهو انتصار هؤلاء المحامين لفائدة فئات حزبيّة وعقائديّة ممّا دفع المتابع للشّأن العام للتّساؤل فعلا عن مدى صلوحيّة هذا الدّستور. والجواب لم ينتظر كثيرا وبدأت الأفكار تتبلور وتسير نحو التّعديل.
والسّؤال الأهم الذي يطرح اليوم كيف يمكن إصلاح الانحرافات التي حصلت وتأكّدت من يوم لآخر. هذه التّغيرات الاجتماعيّة كبيرة ومتعدّدة المظاهر وأهمّها طلب الكسب بأقلّ جهد والحصول على ما ليس لك عملا بشعار الغاية تبرّر الوسيلة، وما يمكن الحصول عليه اليوم قد يستحيل مطلع يوم غد. هل يجب أن نعيد التّفكير في مفهوم العمل والشّغل والتّشغيل أم أنّ هذه المفاهيم  لا تستوجب إلاّ التذكير ومزيد التّوضيح.
كل عمل يتطلّب مستخدِما ومستخدَما وعلاقة موثوقة بينهما تحدّد قيمة العمل ومجاله ومدى تحقيق الهدف منه وما النّفع الذي يعود من العلاقة التّشغيلية بين الأطراف المشاركة في العمليّة. 
المستخدِم هو من يحدّد ما يجب القيام به لبلوغ هدف أو منفعة والمستخدَم هو الذي ينجز المهمّة المتّفق عليها كما حدّدت مسبقا. وقد يكون الهدف المحدّد من العمل المطلوب جزئيّا يتشارك مع أهداف أخرى لتكوّن هدفا أكبر وأشمل قد لا تعني للمستخدَم شيئا دون أن تتجاوز العلاقة مجالها المحدّد. 
هكذا تقدّمت الصّناعات في أوروبا ولا تحقرنّ دور العامل البسيط في المجال المحدّد له بدونه لا يمكن إتمام المشروع وإنجاز المنتوج النّهائي بالمواصفات التي حدّدها الحريف. وقد جاءت قوانين الشّغل لتضبط هذه العلاقة التّشغيلية حتى تحمي حقّ العامل في الأجر والعمل في ظروف سليمة وتحقيق كرامته من جهة وتضمن من جهة أخرى حقّ المؤجِّر الذي يأمل بلوغ هدفه المنشود وهو الاستجابة لطلبات السّوق والتّأهل للتّصدي للمنافسة. وراء كل هذا تكون الدّولة المستفيدة الثالثة والأهم بتثبيت النّمو الاقتصادي وما ينجرّ عنه من تحسين الأوضاع الاجتماعيّة ومجابهة البطالة قاسمة ظهر المجتمع. إنّ تغليب أحد طرفي العلاقة التّشغيلية يبطل المعادلة ويصيب الخسران الدّولة أولا والطرف المغلوب ثانيا ثم لا مناص لمن ظنّ نفسه غالبا.
أصبح المُعاش اليومي معقّدا تحت كثرة التجاذب والصراعات بين فئات غير متجانسة لا تحكم تعاملاتها لا قوانين ولا ضوابط تحدد الأخلاق التي نشأ عليها كل فرد. عمل مُمنهج للتشكيك في المفاهيم الحاصلة والمعتمدة ولزعزعة الثوابت الثقافية وطمس تراثنا والهوية التي على قدر ما أسالت جبرا أذرفت لنا دمعا. هل يجرّنا هذا إلى إعادة النّظر في معاني المصطلحات المتعلّقة بالثّقافة وبالتّراث بما يتماشى والمفهوم العام لهذه الحقبة من الزّمن؟ دون أن ننسى هذه الهويّة التي تحصن بها البعض وتقوقع خلفها  واتّخذها البعض الآخر حصان طروادة لغاية لا تُدرك بدونه. إنّ ما يحدّد قيمة الأشياء في زمن ما، هو مدى تجاوب الجيل الذي يعيش ذلك الزّمن ومدى تفاعله وكيفية استخدامه لتلك الأشياء. ألا يصحّ القول أنّ رجل اليوم ليس رجل العهود القديمة؟ فكيف لا يمكن إذن أقلمة النّاس على أساليب وقوالب حديثة تتماشى وزمانهم؟ قد لا يتغير الإنسان في شكله ولكنّه يتغيّر كلّ يوم في فكره. إنّه في تطوّر مستمر. أنا اليوم لست كما البارحة ولن أكونني هذا المساء أنا نفسي على ما أنا عليه الآن. لا معنى للفظة أنا خارج الزّمن الذي نُطٍقت فيه. «أنا» تفيد الكيان والصّيرورة حاضرا في المكان والزّمان.
إذا ما رجعنا بالنّظر إلى التّاريخ يتّضح لنا أنّه من حقّ الشّعوب أن تتطوّر وأن تختلف وتتضارب أفكارها وتتصارع وما الشكّ إلاّ طريق لليقين، ولكن شعوبنا الضّعيفة التي مازالت تقودها المصلحة الخاصّة والفئوية بدعم من قوى  بالمرصاد تذكّي نيران الفتنة، كلما اشتدّ الصّراع فيها لا يسود إلاّ متسلّط. وعليه أصبح من اليوم ضروريا أن تُراجَع المفاهيم والقيم التي مازلنا نعتقد في أزليتها. كل شيء يتطوّر أو لا شيء يتطوّر.