اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
حقيقة الدينار التونسي وآفاق قيمته
 تتَوسَّط العُملة المُبادلات في الاقتصاد النقدي، وتتمثل وظيفتها الرّئيسية في استعمالها كأداة دَفع تُمَكِّنُ مِنَ الحُصُول على ما يُريده المُشتري من سِلعٍ أو خدمات.وككل العُملات، يُعتبر الدّينار التّونسي مِحرارَ النّشاط الاقتصادي بتونس سواء المُعَايَنُ منه حاضرا أو المُقَدَّر قادِمَ الأيّام.
 وترتبط قيمة الدّينار التّونسي مُقابل بقية العُمْلاَت بالسّياسة النقدية للبنك المركزي وبنوعية سياسات الحكومة وتَصَرُّفَهَا في الاقتصاد والمالية وبمناخ الأعمال والاستثمار والمناخ الاجتماعي وبدرجة الثّقة لدى المُستثمرين في الاقتصاد التونسي وبموقف القُوى العاملة  من العمل ذاته ومُستوى إنتاجيته وبقية عوامل الإنتاج وبقُدرتها على التأقلم مع التّطورات المُستجدة وعلى كسب معركة المُنافسة.
 فما هي حقيقة الدّينار التونسي؟ ولماذا هي كذلك؟ وما هي الآثار المُترتّبة عليها والْكيفيّة المُنتظر التّفاعل بها؟ أو بالتحديد ماهية السّياسات الناجعة لجعل اقتصادنا يقوم بدوره كاملا في إنتاج الثروة بالحجم الذي نُحافظ به على كرامة كلّ التُونسيين ونَسُدّ الشروخ التي ظهرت في مُجتمعنا ونُحصِّن بها شبابنا ووطننا؟
I- حقيقة الدّينار التُّونسي وأسبابها
في آخر تراجع للدّينار التونسي، بلغ سعر الدّولار الواحد 2.188 دينار وسعر الأورو الواحد 2.458 دينار. وبالعودة إلى الفترة ما بين سنتي 2008، سنة الأزمة المالية العالميّة، و2015 فقد خَسِرَ الدّينار التونسي 17 % من قيمته مُقابل الأورو و37 % مُقابل الدّولار الأمريكي أي بمعدل سنوي 3.1 % و5.8 % تِبَاعًا.
وقد تسارع نَسَقُ تراجع قيمة الدّينار وبقوة ما بين ماي 2011 وماي 2016 حيث سجّلت الأرقام تراجُعَا بـ 23 % مقابل الأورو وبـ 55 % مُقابل الدولار وبـ 36 % مُقابل الثّنائي الدولار والأورو العُملتين القويّتين للاستثمار والمُبادلات الخارجية والتّداين بالنسبة لتونس مِمّا يُؤشّر على استمرار تسجيل الدّينار لخسائر طيلة ما يُقارب العشرية من الزمن. وبعدم وُجود مُؤشّر في الأفق لتوقف كل من معدلات أسعار صرف الدولار ومعدلات أسعار صرف الأورو عن الارتفاع مُقابل الدينار واحتمال استمرار ارتفاعهما في حَالِ إِسْتِفَادَةِ كلٍّ منهما من تراجع الجنيه الاسترليني نتيجة خروج بريطانيا من مجموعة الاتحاد الأوروبي، فإن المسألة تزداد خطورة وتعقيدا.
فأين السّلطة النّقدية مُمثّلة بالبنك المركزي من هذه الحقيقة المُرّة وما أسباب هذا التراجع الخطير؟
I-1 علاقة البنك المركزي بالدينار 
تهدف السّياسة النّقدية التي يضطلع بوضعها البنك المركزي، كسُلطة نقدية، توفير السّيولة الضرورية ليتحقّقِ النّمو الاقتصادي في حالة من الاستقرار النقدي وذلك عبر ضمان زيادة مُتناغمة للكتلة النقدية (كمية العُملة المُتبادلة في الاقتصاد) مع الزيادة المُنتظرة لكل من الأَسْعَار والنّشاط وعبر الحفاظ على سعر تبادل العملة (PARITE).
وقد اتبع البنك المركزي التّونسي في السّنوات الأخيرة سياسة التّدخل، أكثر من مرّة، لتعديل سِعر صَرف الدّينار وذلك عبر عرض عُملة أجنبيّة إضافيّة ليُصبح السّعر أقلّ في السّوق وذلك بهدف كبح نسق تراجع قيمته.
وكان أول هذا التدخل خلال شهري أوت وسبتمبر 2011 ثم سنتي 2013-2014 وآخره في جوان 2016، كما سجّل هذا التّوجه تقلّصا بنسبة 37 % سنة 2014 و24 % سنة 2015 مُعللا البنك ذلك بأنَّ ترك أمر تحديد سعر صرف الدّينار للسّوق كفيل بتحسين القُدرة التّنافسية وبالحفاظ على احتياطيات الصّرف وكذلك لتسهيل التّعديل الخارجي.
 والحقيقة أنّ محدوديّة احتياطياتنا من العُملة الأجنبية لا تُمَكّن البنك من الاستمرار في التّدخل وإنْ فَعَلَ ذلك فإن التكلُفة ستكون باهظة، فضلا عن أن تلك السّياسة تُشجّع على الاستيراد وتُعيق التّصدير وبالتالي تُعمق عجز الميزان التجاري مما يفتح الباب أمام تزايد التّداين الخارجي.
ولم تمنع هذه السياسة من استمرار تراجع قيمة الدّينار مُقابل كل من الدولار والأورو فما هي الأسباب الحقيقية وراء ذلك التراجع؟ 
I-2 أسباب تراجع قيمة الدينار
شَكّل كلٌّ من تدخّل صُندوق النّقد الدّولي سنة 1985 وضغطه نحو اتخاذ إجراء خفض قيمة الدينار التونسي(Dévaluation) ضمن « برنامج الإصلاح الهيكلي» الذي فرضه وقبلته حكومة رشيد صفر آنذاك وإمضاء تونس اتفاقية تتعلق بالتّعريفات الدّيوانية مع الإتحاد الأوروبي سنة 1995 حدثين مؤثّرين على تطور قيمة الدّينار التّونسي.
من جهة أخرى، تخضع تَسْعيرة الدّينار التّونسي إلى قانون العرض والطّلب، وقد سُجّل ضغط قويٌّ على طلب العملات الأجنبية وتراجع حادّ على مستوى عرضها في السّوق نتيجة عوامل عديدة أهمّها:
-  تراجع النشاط الاقتصادي التّونسي(نسب النّمو في تراجع مستمر منذ ثلاث سنوات وصلت سنة 2015 إلى 0.8 %).
- تنامي عجز الميزان التجاري(9.5 % من إجمالي الناتج المحلي).
- ازدياد حجم تحويلات الشّركات الأجنبية لِمَنَابَاتِهَـــــــــا(Dividendes) بالعملــــــة الأجنبيـــة [من 29 % (2001-2010) إلى 38 % (2011-2014)]على حساب إعادة استثمار جزء منها في الدورة الاقتصادية التونسية [من 41 %(2001-2010) الى 24 % (2011-2014)].
- محدودية تحويلات عُمّالَنا بالخارج.
أمام كل هذه التراجعات فَقَدَ الدّينار التّونسي قُدرته على الصّمُود أمام قُوّة كلّ من العملة الأوروبية الموحدة الأورو والدّولار الأمريكي.
I-3 أسباب تراجع النشاط الاقتصادي 
وقد تراجع النشاط الاقتصادي في تونس لأسباب عديدة منها الهيكلي ومنها الظرفي سواء السِّياسي أو الأمني أو الإداري أوالتشريعي أو الاقتصادي أوالاجتماعي:
I-3-1 الأسباب الهيكلية
• برنامج الإصلاح الهيكلي المفروض من صندوق النقد الدولي سنة 1986.
• غياب نموذج اقتصادي تُونسي مُتكامل الأركان ومُتحرر من النماذج المُستوردة.
• غياب وزارة اقتصاد تضع حدّا لتفتت المسؤوليات وتضع السياسات وتُنسّق فيما بينها وتكون مُرتبطة بطبيعة المُشكلات والعوائق أو مُسبباتها وخادمة لأهداف مُحدّدة وواضحة لتحقيق التوازن الاقتصادي في اتجاه الإقلاع الاقتصادي.
• خلل هيكلة التّمويل، فالتمويل البنكي والإيجار يُمثلان لوحدهما 90 % من التمويل الجملي للاقتصاد التونسي.
• هشاشة هيكلة المؤسسات العمومية وعجزها الذي تجاوز 3 مليار دينار وجرّها النظام البنكي إلى التأزم.
• الافتقار لمجلس اقتصادي مالي نقدي للتّنسيق بين مختلف السّياسات في المجالات الثّلاث حتّى تقوم كلّ الجهات بدورها على الوجه الأكمل وبتكامل.
• غياب مجلس اقتصادي اجتماعي بيئي يهدف للتّوفيق بين المُستحقات الرّبحية للاقتصاد والمقاصد التّنموية للمُجتمع.
• غياب وكالة للتّداين ولحُسن التّصرف في المالية العموميّة حتى ننأى بهما عن النزوات الفردية أو التوظيف الفئوي.
I-3-2 الأسباب السّياسية والتّشريعية
• سياسات الانفتاح على الاقتصاد العالمي غير المؤطرة منذ عُقود بالشّكل الذي لم نحمي به النشاطات الاقتصادية ولم نستفد، بالقدر الكافي، من النشاطات ذات المزايا التفاضلية.
• السّياسات الخادمة للفساد لعقدين من الزمن والتي أنشأت بيئة خصبة لمنظومة موازية للتجارة ولتداول العُملة والاستثمار فشلت الحكومات المتعاقبة منذ 2011 في تفكيك شفراتها. 
• غياب سياسات الدّولة التّعديلية ظرفيا والإستراتيجية على المدى البعيد.
• مجلة الاستثمار غير المشجّعة على الاستثمار والإبتكار...
• مجلة الصّرف نظرا لما تحتويه من إجراءات غير واقعيّة ولعدم قُدرة فصولها على التأقلم مع التّطورات المُستجدة وعلى المُساهمة الفعّالة في كسب معركة المُنافسة.
• تعثر آلة التشريع الاقتصادي على مستوى القوانين المُجسمة لفصول الدستور الجديد والمُلغية للقوانين غير الدستورية وتلك المُعيقة، منها التي تمنع الخواص من الاستثمار في 26 قطاعا من قطاعات الاقتصاد التونسي ومنها القوانين غير المُشجّعة بالقدر الكافي على حُرّية خلق المؤسسات وعلى المُبادرة الاقتصادية كما هو الحال بالنسبة لقانون رقم 69-2007 بتاريخ 27 ديسمبر 2007
I-3-3 الأسباب الاقتصادية 
• تدنى مُستوى الإنتاجية في كثير من القطاعات منها قطاعات الشركات غير المالية وقطاع المُنتجات غير الفلاحية حيث أن تكلفة عمل الأجراء تزداد أسرع من الأسعار كما يعكسه الفرق بين نمو الأجور الحقيقية ونمو إنتاجية العمل الذي سجّل 2.2 % كمعدل ما بين 2008 و2014 وتراجع إنتاجية رأس المال بمعدل 0.8 % مابين سنتي 2011 و2015 مما أدى إلى تراجع كبير على مُستوى الاستثمار.
• ضعف الاستثمار العام نتيجة ضعف حصّته في ميزانية الدولة إذ أنها لم تتعدّ 5 مليار دينار.
• ضعف الاستثمار الخاص لاعتبارات أمنيّة ولعوائق تشريعيّة فضلا عن الاضطرابات الاجتماعيّة.
• تراجع الاستثمار في قطاع المُؤسّسات إلى نسبة 59.5 % في الفترة 2011-2015 مُقابل 67.5 % في الفترة 2006-2010 وكذلك الاستثمار الخارجي المُباشر لعدم الاستقرار ولمناخ الأعمال غير المشجع والمناخ الاجتماعي المُضطرب ولعدم الثقة في مُستقبل الاقتصاد التونسي.
• تعطّل عدد من المشاريع الاقتصادية والتّنموية لعوائق إدارية رغم الأموال المرصودة لها. 
• تراجع النّشاط السّياحي لاعتبارات أمنية.
• توقف إنتاج الفُسفاط ولفترات طويلة لاحتجاجات نقابية ولفشل الحكومات المُتعاقبة والمركزية النقابية في حل الأزمة، مما كلّف المجموعة الوطنية خسائر تفوق 4 مليار دينار خلال السّنين الخمس الماضية.
• المناخ الاجتماعي المُتوتِّر الذي تسبب في غلق عدد من مصانع المُناولة. 
• عدم الاستفادة من وفرة المُنْتجات الفلاحيّة لعدم القدرة على الحفاظ عليها كالحليب والتّمور مثلا  ولضعف الاستثمار فيها ولمحدودية الصّناعات الغذائية.... 
• ضعف الدّولة أمام ظاهرة الفساد التي زادت استفحالا منذ 2011 وأمام التّجارة المُوازية بما فيها المُتعلّقة بالعُملة وعمليات المُضاربة.
• استهتار بقيمة العمل خاصّة في الوظيفة العمومية والقطاع العام حيث تُشير بعض الإحصاءات إلى أن مُعدل مدّة العمل الفعلي اليومي لا تتجاوز 10 دقائق.
• عدم النّجاح في كسب معركة المُنافسة خاصّة مع المُنافسة الآسيويّة والتّركية ممّا زاد من عجز ميزاننا الخارجي.
I-4 حقيقة عجز الميزان الخارجي
 وقد سَجّل الميزان الجاري عجزا مُتزايدا بين الفترتين المتعاقبتين 1995-2010 بمعدل 3 % و2011-2015 بمعدل 8.4 %.
وارتبط عجز الميزان الخارجي بالقطاع الحقيقي أساسا ولم يكن نتيجة تراجع قيمة الدينار بل نتيجة تراجع الصّادرات بسبب ضعف قُدرة تجارتنا التّنافسية كمّا ونوعًا خاصة أمام دُوَلٍ مُنافسة لنا كالمغرب وتركيا واليونان وكوريا الجنوبية والبُرتغال وتراجع موارد الدولة، من غير التّداين، من العملات الخارجية عموما.
 وارتبط عجز الميزان الخارجي أيضا بازدياد الواردات رغم الزِّيادة المُسَجَّلة في أسعارها خاصة مع تراجع إنتاج الحبوب.
وقد شَكّل الارتفاع الكبير لنسبة الاستهلاك النّهائي (من 78 % فترة 2010-1995 إلى 86 % فترة 2011-2015) بالاعتماد على القروض الإستهلاكية التي ازداد حجمها أيضا منذ 2011، عاملا قويا لزيادة الواردات وبالتالي زيادة العجز التجاري الخارجي.
كما ارتبط تزايد عجز الميزان الخارجي بضعف قُدرة الدولة على التمويل نظرا لضعف الادخار المحلــي إذْ تراجعت نسبة الادخــار إلى النصــف في خمــس سنــوات (مــن 20.5 % سنــة 2010 إلى 10.5 % سنة 2015).
وارتبط ذلك العجز أيضا بنمط التمويل الخارجي للاستثمار الجُملي حيث ازدادت الالتزامات قصيرة الأجل منذ 2010 على حساب الاستثمارات المباشرة الخارجية، ذات العائد الكبير مُتوسط المدى والبَّعيد، الّتي سجلت بدورها تراجعا قويا. 
وقد كبّلت هذه السياسة، التي انتهجتها الحكومات المُتعاقبة منذ 2011، المالية العُمومية ولم تُمكّنها من تمويل العجز الخارجي بصفة ثابتة مما عمّق هذا العجز بفعل التّراكم.
II- آثار تراجع قيمة الدينار التونسي
يعني تراجع قيمة الدينار فيما يعنيه تزايد التّضخم باستيراده من الخارج وبالتالي ارتفاع تكلفة الحياة وإضعاف للمقدرة الشرائية للتونسيين والتونسيات مما يُشكّل ضغطا إضافيا عليهم يدفع بفئات منهم نحو تعديل أنماط حياتهم ويزيد في إمكانية اتساع ظاهرة الفقر كنتيجة لتنامي ظاهرة البطالة وقلّة خدمات الصّحة والتّعليم كمًّا وكيْفًا بسبب نقص الموارد.
 ومن آثار ذلك التّراجع أيضا الضّغط المُتزايد على الشّركات التي تعتمد في نشاطها على الاستيراد نظرا لارتفاع أسعار المواد المستوردة ممّا يدفع بعضها للإغلاق وما يعنيه ذلك من تراجع في نشاط الاقتصاد عموما ومن تعميق لمُشكلة البطالة.
من جهة أخرى يُؤدي تراجع قيمة الدّينار إلى مزيد الصّادرات إلا أن  أكثر المستفيدين من ذلك هي الشركات المنضوية تحت نظام (off shore) التي تُشكّل صادراتها 65 % من مجموع الصادرات التونسية مِمَّا يُؤدي إلى الرّفع من هامش الرّبح لأغلبها وتقوم بدورها بتحويله إلى الخارج على حساب إعادة استثماره في الدورة الاقتصادية التونسية كما ذكرنا سابقا.
كما لتراجع قيمة الدينار اثر سلبي مُباشر على مبالغ خدمة الدّين الخارجي نظرا لازدياد قيمتها مما يُشكّل ثقلا إضافيا على كاهل الدّولة وعجزا مُتزايدا لميزانيتها.
ومن الآثار القليلة الإيجابية ما قد يُسجِّله تراجع قيمة الدّينار من دفعٍ للسّياحة والاستثمار وكبحا لاستيراد المواد غير الضرورية إلاّ أن دفع كلّ من السّياحة والاستثمار يخضع لعوامل أخرى غير العامل النقدي التي إن لم تتوفر فإنّ ذلك الأثر الإيجابي سيُبْطَلُ مفعوله، من بين تلك العوامل نذكر الاستقرار  والأمن والثّقة في الدّولة والاقتصاد التّونسي.
III- السّياسات الكفيلة بإيقاف 
تراجع قيمة الدينار
اتّخذ البنك المركزي التونسي مُؤخّرا إجراءات للحدّ من الآثار السّلبية لِتَدَحْرُجِ قيمة الدّينار مُقابل كُلّ من الدّولار والأورو تتعلــق بتحويلات العُملـــة وبالتّخفيف من الضّغــط على سُوق الصّرف وتقوية مداخيل السّياحـــة عبر إدخال العمــلات غير قابلة للتحويــل في العقود السّياحيــــة وإجــــراءات أخرى لجذب الموارد الخارجيـّـة  للتّونسييــن المُقيميــــن بالخارج.
وان كان هذا التّدخل ضمن صلاحيات البنك إلاّ أنّ استمرار الاكتفاء بدور البنك المركزي في التّصدي لظاهرة انخفاض قيمة الدّينار لن يُجدي نفعا لأنّ كل تدخّلاته السّابقة لم تمنع الدّينار من خسارة مزيد من قيمته مقابل كل من الدولار والأورو.
كما أن الانخفاض الهام والمُستمر لقيمة الدّينار(Dépréciation) قد يَدفع إلى خفض قيمته (Dévaluation) بشكل رسمي خاصة وأنّ صُندوق النّقد الدّولي قد سبق له أن تدخّل سنة 1986 وضغط نحو اتخاذ مثل هذا الإجراء وهو يَعْتَبِرُ أنّ قيمة الدّينار التّونسي حاليا أكثر من حقيقته.
 فهل أن السّياسة النّاجعة اليَوْم هي السّياسة النّقدية مُتمثلة في خفض قيمة الدّينار أم أن الأمر يتجاوز الدّائرة النقدية لِيَسْتقر في الدّائرة الحقيقية للاقتصاد التّونسي خاصّة وأن عجز الميزان الخارجي مُرتبط بالقطاع الحقيقي أساسا كما سَبَقَ أن تبيّن لنا؟
III-1 خفض قيمة الدينار ليس حلاّ
يعني خفض قِيمة الدّينار التونسي(Dévaluation) خفض القُوة الشّرائية له وارتفاع مُعدل التّضخم أي ارتفاع الأسعار ويُتَرْجَمْ بِكبح حجم الواردات وزيادة حجم الصَّادرات لان السِّلع المحلية تُصبح أرخص من غيرها تقويةً للقُدرة التنافسية خارجيا وخلقًا لمُواطن شغل إضافية.
ولمثل هذا الإجراء انعكاسات جد خطيرة حين يُترجم بتفاقم العجز الجاري خاصة حين نعلم أن خفض قِيمة النّقد لا يمكن أن يحد من عجز الميزان التجاري، المُكون الرئيسي للميزان الجاري ، لان الجزء الأكبر من وارداتنا ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه كالحبوب والنفط الخام والأدوية وغيرها.
 أما صادراتنا فإن تطورها في جزء كبير منها غير مرتبط بسعر صرف الدينار،فالصادرات من منتجات الطاقة مرتبطة بالدولار الأمريكي وصادرات المناجم مرتبطة بإعاقة الإنتاج كما أن 80 % من الصادرات الفلاحية (الحبوب وزيت الزيتون) مرتبطة بالعوامل المناخية أما قطاع السياحة فالضرر الذي لحق به سببه امني مما يِؤكد أن الحلّ ليس نقدي بل يكمن في المجال الحقيقي الذي يُمارس فيه النشاط الاقتصادي.
III-2 الحلول هيكلية وظرفية كالأسباب
يُواجه الاقتصاد التونسي مُشكلات بعيدة عن سوق الصّرف الذي لا يعدو أن يكون سوى مرآة تعكس الحالة الخطيرة التي وصل إليها الاقتصاد والتي دفعت البنك المركزي في مذكرته الأخيرة وصف وضعه بالمُتدهور ونشاطه بالفتور وعجزه التجاري بالقياسي. 
وكما أن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انهيار الدينار التونسي منها الهيكلي ومنها الظرفي سواء السِّياسي الأمني الإداري والتشريعي أو الاقتصادي والاجتماعي فإن الحلول لن تكون ناجعة إلا إذا كانت كذلك مُلغية لتلك الأسباب ومُؤَسِّسَة:
• لدور حديث للدولة المُعدلة ظرفيا والإستراتيجية على المدى البعيد
• ولهيكلة جديدة لبعض المؤسسات العمومية واعتماد الشراكة مع القطاع الخاص للبعض الآخر
•  ولهيكلة جديدة للاقتصاد تقطع مع الهيكلة القائمة على ثنائية القطاعات.
• ولهياكل جديدة فاعلة كوزارة للاقتصاد ولمجلس اقتصادي مالي نقدي ولمجلس اقتصادي اجتماعي ولوكالة للتّداين ولحُسن التصرف في المالية العمومية لكل منهم مهامٍ سبق أن حدّدنا بعضها.
أما ظرفيا فإجراءات كثيرة مُستعجلة يجب أن تؤخذ أولها تفعيل التوافقات الأخيرة من تكوين حكومة وحدة وطنية وتنفيذ الأولويات المتفق عليها والقيام بالإصلاحات الضرورية مع مُواصلة البنك المركزي في سياسته ولكن بتنسيق كامل مع بقية السياسات التي يجب أن تؤخذ وتُساهم في مُواجهة التّحديات حتى تُؤتي أكلها..... 
ومنها التركيز على حلّ مشاكل قطاعات الطّاقة والمناجم والسّياحة والنّسيج المُدِرّة أكثر من غيرها للعملة الأجنبية وجعل الاتفاقيات مع الدّول التي نفتح لها أسواقنا تقوم على مبدأي التّعاون وضمان المصالح المشتركة ومنها عقلنة جلب «الماركات العالمية» بما يخدم قطاعاتنا الاقتصادية ومسألة التشغيل.
 ومنها أيضا تعديل الأجور لاحتواء تبعات تدحرج قيمة الدّينار التضخمية خاصة وأنّ التّضخم في تونس هو تضخّم تكاليف خاصة مُراعات الفئات الاجتماعية محدودة الدّخل أو المحرومة.
 ومنها إدخال التعديلات الضرورية التي اقترحها أهل الذكر على مشروع مجلة الاستثمار قبل المُصادقة عليها وعلى مجلة الصّرف حفاظا على سعر تبادل الدينار(PARITE).
ومنها أيضا ترشيد التوريد وتأطير انفتاح اقتصادنا على الخارج مع المراهنة مستقبلا على نوعية منتجاتنا وخدماتنا والرفع من الإنتاجية وتأطير السّوق السّوداء أو الموازية....