حوارت الاصلاح

بقلم
فيصل العش
حوار مع الدكتور مصدق الجليدي

"الدكتور مصدق الجليدي : من الفكر إلى السياسة

 

المقدّمة :

الدكتور مصدق الجليدي 

من مؤسسي حزب الإصلاح والتنمية التونسي. كاتب ومفكر وباحث تونسي متحصّل على الأستاذية في العلوم الإسلامية من جامعة الزيتونة وعلى الدكتوراه  في علوم التربية من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، بملاحظة مشرّف جدا ويشغل خطة أستاذ العلوم الثقافية والتربوية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان  

الدكتور مصدق من الناشطين في مجال الحوار بين أبناء الثقافات وأتباع الأديان.وهو رئيس تحرير مجلة الفاعل التربوي، الصادرة بتونس عن جمعية تطوير التربية المدرسية وعضو الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية ومنتدى الجاحظ للفكر المستنير. له عديد من المؤلفات في مجال التربية والفكر الإسلامي  أهمّها:  "في علوم التربية : مقاربات سيكولوجيّة وابستيمولوجيّة (2002) و ختم النبوّة (2002) وتاريخية الفكر الإسلامي (2006)  و"في إصلاح العقل الديني" (2006) ورواد الإصلاح التربوي في تونس (2009) والإسلام والحداثة السياسية (2009)

 

التقيناه وأجرينا معه الحوار التالي :  

 

1) من هو الدكتور مصدق الجليدي؟

واحد من أبناء تونس الذين كابدوا من أجل ألا يكونوا مجرد استنساخ بيولوجي لأفراد الجنس العربي، وإنما سيرورة وعي منفتح على دروس التاريخ والعالم والذات والآخر، من خلال مسيرة نضال معرفي وعلمي ومدني تعلمنا فيها كثيرا من غيرنا ومهدنا الطريق لبعض الشباب حتى يتجاوزونا من خلال مسيرة نضال تربوي وتعليمي وفكري تقارب الثلاثين سنة. مصدق الجليدي طموح لا حدود له نحو الأفضل.

2) ماذا تحبّذ الدكتور السياسي أم المفكّر ولماذا؟

المفكر: لأنه المستقل والحر والمبدع فعلا.

3) ما الذي جاء بك إلى السياسة؟

المثقف العضوي والمفكر المتحمل لمسؤوليته في المجتمع وهو ما تعلمناه عن علي شريعتي وحسن حنفي وهشام جعيط وفرانسوا فانون وجان بول سارتر وميشال فوكو وجاك دريدا

4) شاركت في تأسيس حزب الإصلاح والتنمية مع ثلّة من زملائك منذ سنتين فهل حققتم أهدافكم التي وضعتموها عند انطلاق المسيرة؟

تحقق منها هدف إيجاد إطار لاستيعاب الشباب المتوازن في علاقته بالهوية وبالحداثة في سياق النضال السياسي، ولكن هدف أن نصبح قوة مؤثرة في تشكيل المشهد السياسي ما زال يتطلب الكثير من العمل الميداني والصبر والفكر السياسي الخلاق.

5) ما هي الفكرة الأساسية التي يقوم عليها حزبكم؟

الإصلاح الشامل وفق رؤية حداثية أصيلة وعلى أرضية مدنية صلبة بمقاربة وسطية لا تساوم على المبادئ وعلى أهداف الثورة واستحقاقاتها.

6) ماذا تعني كلمات شعار الحزب الحرية والمواطنة و العدالة ؟ وهل للترتيب معنى؟

في الحقيقة المواطنة هي حجر الزاوية في هذا الثالوث والحرية هي تفعيل للمواطنة وثمرة الثورة الرئيسية وبها نحقق بقية أهدافها، شرط أن تكون حرية مسؤولة تؤدي إلى مواطنة وطنية حقا. والعدالة هي الاستحقاق الرئيسي للمواطنة، إلى جانب الكرامة بطبيعة الحال. العدالة في فرص التعليم والصحة والشغل والحقوق الإنسانية الأساسية. 

7) لو نظرنا للخارطة السياسية الحالية أين تضح حزب الإصلاح والتنمية؟

حزب الإصلاح والتنمية يقع الآن ضمن دائرة الأحزاب التي تمارس المساندة النقدية لحكومة الترويكا. أي مساندة خياراتها السليمة، مثل حماية الحريات الشخصية والجماعية وحق التعبير والتنظم وتقوية المجتمع المدني، ونقد خياراتها التي تبدو له خاطئة، مثل التباطؤ في فتح ملفات هامة جدا لاعتبارات انتخابية، ومثل عدم الحساب الدقيق للسياسات الخارجية

8) تلاحظون أن هناك كثافة في عدد الأحزاب، البعض يرى ذلك تشتتا والبعض الآخر يراه علامة صحة، ما رأيكم؟

لا الآن يجب الحد من هذه الكثافة الحزبية والاقتصار على عدد محدود من التكتلات الحزبية الكبرى. وهذا مما سيسهل على الناخبين عملية الاختيار من جهة وسيمنح فرصا لمشاركة سياسية أكثر نجاعة لعدد من الأطياف السياسية المتناثرة في الوقت الحاضر، مع صعوبة حل مشاكل الزعامات والاختلافات الايديولوجية في الواقع، إلى جانب توفير أموال للدولة يمكن أن تذهب لدعم المجتمع المدني عوض صرفها على السباقات الانتخابية المشتملة على عشرات الأحزاب.

على إثر نتائج انتخابات المجلس التأسيسي و في ظل الحراك السياسي الحالي المتمثل في توحيد العديد من الأحزاب في كيانات حزبية جديدة ، هل تعتقد أن حزب الإصلاح والتنمية قادر على البقاء ككيان حزبي وهل لديه القدرة على تحقيق الأهداف التي تأسس من أجلها ؟

حزب الإصلاح والتنمية ليس استثناء من القاعدة: عليه أن يبحث عن توافقات مع أحزاب قريبة في الخط السياسي مع مراعاة الخلفية الفكرية لأغلب أنصاره ومؤسسيه، لأنه في حال بقائه حزبا منفردا، مع ضعف التأثير في المشهد السياسي، سيكون أقرب إلى وضع جمعية وطنية للفكر السياسي منه إلى حزب سياسي حقيقي. غير أن عليه الحذر من الاندماج في مناخات حزبية فاسدة تنقل عدواها إليه. وعليه بالإقدام على الحوار والتفاوض مع الأحزاب الصديقة والقريبة منه بخطى ثابتة.

9) ما هي المعوقات التي تعرقل نمو ونجاح حزبكم في استقطاب المواطنين؟

ضعف الإمكانات المادية، ولكن خصوصا عدم صياغة أفكار الحزب بطريقة تكون قريبة جدا لوجدان عموم المواطنين. أيضا عدم الشروع في احتلال موطئ قدم بين شباب الجامعات وفي القطاعين التعليمي والصناعي. كما أن افتقاد الحزب لوسيلة إعلامية مثل جريدة أسبوعية أو صحيفة نصف شهرية يحد من إشعاعه أيضا. 

هل يمكن القول إن فساد النظام السياسي السابق سهل المهمة على حركة النهضة  فى تحقيق سيطرة كبيرة على الساحة السياسية وخاصة في نتائج الانتخابات السابقة؟

لا أعتقد أن هذا هو سبب ما ذكرت. الوجدان الديني العام وتاريخ الاضطهاد الذي عاشته الحركة هما الذان أكسبها تلك الشعبية وذلك التعاطف الذي سميته سيطرة على الساحة السياسية

10) كيف تقيمون الوضع السياسي الحالي؟

وضع مرتبك على أكثر من صعيد: سواء في عدم قدرة السلطة والمعارضة على إيجاد صيغة تعامل بيني مناسبة لأوضاع البلاد، أو سواء في المشاكل والأزمات العاصفة التي تعيشها بعض أحزاب الترويكا: المؤتمر والتكتل أساسا وكذلك عدد من أحزاب المعارضة مثل الحزب الجمهوري من خلال مكونه الأساسي الديمقراطي التقدمي. وما هو باعث على القلق هو عدم توصل عشرات الأحزاب الصغرى الوسطية (ولا أقصد الأحزاب التجمعية) إلى صيغ توافق تجعل منها قوة محترمة ووازنة، ولذا فأنا أتنبؤ باندثار قسم كبير منها خلال الانتخابات القادمة.

11) وما هو رأيكم في ما يحدث داخل المجلس التأسيسي؟

تحدث أشياء كثيرة الآن في المجلس التأسيسي ليست في مستوى انتظارات الشعب، كالمهاترات الجوفاء التي تقوم بها أطراف بعيدة كل البعد عن بلوغ مستوى تحمل هذه المسؤولية الوطنية السامية المتمثلة في كتابة أول دستور لأول جمهورية تونسية ديمقراطية، كما لا تحدث أشياء كثيرة من المفترض حدوثها حتى نطمئن إلى السير العادي للأمور داخل المجلس التأسيسي، مثل تعطل بعض وظائف التشريعية الملحة بفعل افتعال المشاكل...

12) وأداء الحكومة؟

يبدو أن الحكومة تجعل في أولى أولوياتها قضية التنمية وهي تطوع سياستها الدخلية (الأمن) والخارجية لخدمة هذا الغرض. مع التغاضي عن استحقاقات أخرى كبرى للثورة التونسية أو إعطاء انطباع بالتباطؤ بشأنها، مثل فتح ملفات الفساد وتفعيل الهيئة المؤقتة الضامنة لاستقلالية القضاء التي نص عليها القانون المؤقت المنظم للسلط العمومية، ربما خشية الوقوع في "حكومة القضاء"، ومثل التعجيل بتسوية ملف شهداء وجرحى الثورة...الخ. في المحصلة: يمكن القول إن الحكومة لا تمارس كامل صلوحيتها وربما تفعل ذلك لأسباب انتخابية

 وما رأيك في أداء المعارضة؟ 

غير مقنع بالمرة. الخطاب متشنج زائد عن اللزوم، ويتوخى التشهير والهجوم عوض النقد البناء وتقديم البدائل المدروسة والشاملة.

13) هل تعتقد أن مسار التحول الديمقراطي في تونس يسير بخطى ثابتة ويتحقق بالقدر المطلوب؟

المسيرة ما زالت مترددة أو متعثرة ولكن يمكننا مع ذلك التفاؤل بوجود الضوء في آخر النفق

14) ما هي العوائق التي تراها معطّلة لهذا المسار؟

قلة التجربة- صراع الزعامات والكراسي- مخلفات العهد البائد ماديا وذهنيا وقيميا وإداريا وأمنيا وإعلاميا وتربويا- الولاءات للخارج- تواصل الاعتصامات رغم تناقص عددها ووتيرتها- بعض الأخطار الأمنية.

15) ما رأيك في أولويات الإصلاح السياسي؟

إصلاح المنظومتين القضائية والأمنية وإصلاح الإدارة والإعلام وضمان التوازن بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية والصياغة الرصينة لمنظومة العدالة الانتقالية

16) هل تعتقد أن من ذاق الظلم والاضطهاد من الممكن أن يكون ديكتاتورا؟.. وما مدى اطمئنانك لمنطق حركة النهضة  في التأكيد على أنها ستلتزم بالديمقراطية؟

لا أظن أن حركة النهضة ستتنكر بصفة متعمدة للديمقراطية إن حصل منها انحراف عنها، ولكنها قد تفعل ذلك إذا أفرطت في الحسابات السياسية الحزبية والإيديولوجية وإذا ما تنامى لديها الإحساس بأن الجميع هنا لعرقلتها وإفشال تجربتها الناشئة في الحكم، فتميل إلى العمل منفردة مما يرفع من نسبة وقوعها في الأخطاء السياسية التي ستحسب عندئذ انحرافا عن الديمقراطية وتنكرا لها. لذا يجب عليها الانتباه حتى لا تقع في مثل هذه المطبات. 

17) أين يقف الشباب من الثورة الآن بعدما كانوا مفجريها؟

الشباب الآن في حالة انتظار قلق لوعود الحكومة، وجانب كبير منهم منخرط في أحزاب التروكيا وخاصة النهضة والمؤتمر، وهذا يخفف الضغط عنها. ولكن العدد الأكبر منهم غير منتظم حزبيا ولذلك لا يجب التعويل كثيرا على صمتهم. أقصد شباب أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل، لأن شباب الاعتصامات أكثرهم ليسوا من هذه الفئة الشبابية.

18) كيف تتعامل ، كسياسي مع مشكلة نفور الشباب خاصّة والمواطنين عامّة من العمل السياسي؟

أولا ليست الأحزاب هي من جاءت بهم إلى ساحات الثورة والعصيان والتمرد على النظام السابق، بل أوضاعهم الاجتماعية وانسداد الآفاق أمام طموحاتهم المشروعة، وثانيا لم تبرهن الأحزاب جميعا بما فيه الكفاية إلى حد الآن على أنها قادرة على حل مشاكلهم، إذا كان الأمر يتعلق بأحزاب الترويكا، أو أن لها بدائل مقنعة وفعالة، إذا كانت من "أحزاب المعارضة".

19) بماذا تفسّرون كثرة الاضطرابات والاعتصامات في هذه الفترة ؟ وفي رأيك متى يستقر الوضع الدّاخلي ؟  

الدوافع والغايات إلى هذه الاضطرابات والاعتصامات ليست واحدة، بل هنالك ما هو متوقع مثل ضيق بعض قطاعات الشعب ببطء معالجة الملفات الاجتماعية والتنموية المتراكمة، مع عدم إدراكهم الكافي لصعوبة إيجاد الحلول السريعة في ظل أوضاع داخلية وإقليمية ودولية صعبة، وهنالك ما هو غير مقبول وغير مقنع، مثل تعمد عرقلة عملية الانتقال الديمقراطي والعمل على إسقاط الحكومة المنتخبة ديمقراطيا. وفي هذا عدم شعور بالمسؤولية وعدم التزام بقواعد اللعبة الديمقراطية. 

20) هل تعتقد أن للتونسي الوعي السياسي الكاف للتمييز بين القوى الوطنية واللاوطنية؟

نعم التونسي المواطن العادي يميز بيسر من هو عازم على بذل الجهد لخدمة البلاد ومن هو همه الكراسي والمناصب والمنافع الشخصية. كما أن المعيار الايديولوجي (مساند للهوية/ معاد للهوية) جزء من مقياس الوطنية لديه. إذ أن مفهوم الوطنية في بلادنا لم ينفصل في الوعي الجمعي عن المعطى الثقافي. ولكن هذا الأمر غير دقيق في الواقع، فالانحياز للهوية لا يكون دائما في خدمة مفهوم الوطنية، مثلما هو في حالة الجماعات الدينية السلفية المتطرفة، مع ضرورة تجنب التعميم.

21) هل تعتقد أن وضع دستور جديد مهمة سهلة؟

نعم إذا صدقت النوايا، خاصة وقد تم تجاوز العقبة الكأداء (مشكلة إدراج الشريعة من عدمه، في الدستور). ولكن يجب على جميع الأطراف التحلي بالروح الوطنية العالية المتسامية عن صغائر الأمور لإنجاح هذه المهمة الوطنية الاستراتيجية في آجال معقولة.

22) إلى أي الأنظمة السياسية تميل ، البرلماني أم الرئاسي؟ ولماذا؟

النظام البرلماني في تونس، يعني في صورة نجاح النهضة بشكل متفوق على بقية الأحزاب، احتكار الحكم من قبل حكومة هذا الحزب، حتى وإن شكلت تحالفا حكوميا جديدا. وبما أن النهضة، غير ذات خبرة كافية في الحكم وتوعزها الخبرات التي تغطي كل القطاعات الحيوية للدولة، فإنها قد تواجه صعوبات تجعل البلد كاملا يدفع ثمنها، وهو ما قد يخلق أزمات سياسية مستفحلة، ولذلك فالأولى هو اعتماد نظام مختلط، في هذه المرحلة المبكرة من ديمقراطيتنا الوليدة.

23) كيف ترى العلاقة الصحيحة بين الديني والسياسي؟ وهل ترى أن الدين والدولة منفصلان أم ملتصقان؟

الدين الإسلامي هو دين الدولة كما ينص على ذلك البند الأول من الدستور السابق والذي سيتم الاحتفاظ به على ما يبدو للدستور الجديد، بهذا المعنى الدين غير منفصل عن الدولة، والسياسي مطالب باحترام دين الدولة وعلى الدولة رعاية شؤون المسلمين بما هم مسلمون فضلا عن واجباتها نحوهم بما هم مواطنون، ولكن هذا الأمر لا يجعل لعلماء الدين أو الدعاة أو المتدينين سلطة على السياسي وعلى الدولة. وإذا كان للديني من سلطة على السياسي فهي سلطة روحية طوعية لا يمثلها أشخاص بل قيم ومبادئ الإسلام وروحانيته

 

24) المحور الثاني في حديثنا يتعلّق بإصلاح المنظومة التعليمية؟ ماذا تقترحون في هذا الشأن؟

 

أقترح أمرين: بعث مجلس وطني أعلى للتربية (التنصيص عليه بقانون أساسي مثلا، إن لم ينص عليه في الدستور) وإنشاء كتابة دولة للإصلاح التربوي. الأول يكون مستقلا ولكن يتم بأمر من الحكومة، ووظيفته الأساسية هي رسم سياسات التربية والتعليم للبلاد، ومتابعة التطبيق بالمساءلة والتقييم واقتراح التعديلات الضرورية عند اللزوم وتنظيم الاستشارات التربوية الموسعة لدى جمهور المربين والتربويين. أما كتابة الدولة للإصلاح التربوي فتتحمل المسؤولية التنفيذية لتوصيات المجلس الوطني الأعلى للتربية ووضع الخطط التنفيذية لتطبيقها وتقييمها. هذان الهيكلان يستعينان بلجنة خبراء دائمة تقوم بالدراسات العلمية لتقييم المنظومة التربوية ورسم تفاصيل المنظومة البديلة ومتابعتها والقيام بالتجارب العلمية للاختيارات الجديدة قبل تعميمها، بالاستعانة بمؤسسات البحث والتجريب التابعة للوزارة أو التابعة للألكسو والسيسكو. وبهذا تجتمع الإرادة السياسية مع الاختيارات الديمقراطية مع الخبرة التربوية لبلورة معالم وتفاصيل نظام تربوي بديل يكون قاطرة تقدم لمسيرة البلاد التنموية الشاملة.

25) هل تعتقدون أن إصلاح التعليم يتم عبر الحسم مع النظام القديم و ووضع برامج جديدة يتم تحديدها في مكاتب الوزارة؟

أولا المعضلة التربوية ليست معضلة برامج فحسب، بل معضلة مناهج (البرامج والفلسفة التربوية والمقاربات والطرق التعليمية والسياقات التعليمية وتكوين المدرسين والتقويم التربوي وغيرها من العناصر المكونة للمناهج التربوية) فضلا عن قضية الإدارة التربوية والتصرف في مواردها. ثانيا النظام القديم قد لا يحتاج كله إلى الهدم. فما ثبتت نجاعته تركناه، وما به خلل أصلحناه، وما لا يقبل الإصلاح ألغيناه واستبدلنا به ما هو أسلم منه.

26) أنت أستاذ بالجامعة ... كيف ترى وضع التعليم العالي بتونس ؟ وما هي أهم المحاور التي يجب التركيز عليها لإصلاحه؟

التعليم العالي يشكو من عدة علل. من بينها نقص الإطار التعليمي والبحثي العلمي الكفء لأن أغلب المدرسين بالتعليم العالي هم من أساتذة التعليم الثانوي. ونحن إذ نشكر زملاءنا من الثانوي على دعمهم لمنظومة التعليم العالي طوال كل السنوات الماضية ولا نشكك في قيمتهم البيداغوجية، فإن التكوين العلمي الجامعي يتطلب بكل موضوعية كفاءات أكثر تكوينا علميا وقدرات منهجية ووعيا ابستمولوجيا بمنزلة العلوم المعرفية. هنالك أيضا نقص التكوين البيداغوجي لأغلب مدرسي التعليم العالي، فالتملك العلمي الجيد لمادة التدريس لا يعني بالضرورة القدرة على تعليمها الجيد للطلبة. هنالك أيضا قلة الاهتمام بالبحث العلمي وعدم إيجاد الحوافز والأطر التنظيمية واللوازم اللوجستيكية الكافية لتركيزه بصفة جدية في الجامعة التونسية. ومن هنا غلبة التعليم اللفظي وضعف الانتاج والابداع العلمي.

ولا ننسى كذلك غياب حلقات ربط بين التعليم العالي والتعليم الثانوي مما أسهم في استقبال الجامعة لأعداد متزايدة من الناجحين في امتحان الباكالوريا يشكون ضعفا فادحا في التكوين العلمي والمنهجي واللغوي.

27) لنترك السياسة ونتحدث عن الفكر ... كتبت كثيرا في إصلاح الفكر الديني .. لماذا؟

لأن الفكر الديني إما أن يكون صديقا للفكر الحر أو عدوا شرسا له. فلا إصلاح للفكر ولا حماية له من الانحراف بعيدا عن المنهج العلمي والتحليل المنطقي والتزام شكل من أشكال المعقولية إلا بنقد الفكر الديني بعملين متكاملين: نقد سلبي بالمعنى المنطقي للكلمة وليس بالمعنى القيمي لها، ويتمثل في إبراز سلبيات الفكر الديني المعيق للفهم وغير النافع في التفهم، ونقصد بذلك مسألة العوائق الثقافية وتقديس معارف القدامى والتعصب المذهبي والفقهي والايديولوجي. ونقد إيجابي، وهو إبراز وجه المعقولية في بعض أشكال الفكر الديني، مثل ما نجد ذلك في فلسفة التوحيد كما نقرؤها لدى محمد إقبال، أو لدى بعض مفكري الإسلام الجدد، أو فلسفة التصوف كما نقرؤها كذلك لدى محمد إقبال. كما أن بعضا من الفكر الديني يكون شديد الارتباط بقضايا المجتمع اليومية، كما هو الشأن في الفكر المرتبط بالقضايا الفقهية، فهذا أيضا مما يستحق الوقوف عنده نقدا وإصلاحا وتطويرا، مثلما كشفنا أخيرا عن تأسس مقاصد الشريعة الإسلامية على قواعد العمران البشري لدى ابن خلدون، وهو ما يعني في الوقت الحاضر ارتباط المقاصد والفقه وأصوله بعلم الاجتماع والأنطروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي أي ضرورة رفع الحواجز المصطنعة بين العلوم الفقهية الإسلامية والعلوم الإنسانية وهو ما يعني تحول مقاصد الشريعة إلى علم كوني عندما تنقلب مقاصد المكلِف بالكامل إلى مقاصد المكلَف، هذا إذا ما أدركنا أن الشريعة إنما وضعت لرعاية مصالح الناس وأنه حيثما وجدت مصلحة فثم 

28) لو تعطي قرّاء المجلة  فكرة مبسّطة عن مفهوم "ختم النبوّة"؟

 

لقد طرحت مفهوم "ختم النبوة" في بعض محاضراتي بديلا عن مفهوم "موت الإله" الغربي. فما عرف في الفلسفة الغربية بـ"موت الإله" (نيتشه) يقابله في الفلسفة الإسلامية "ختم النبوّة"(محمد إقبال). في الغرب يتعلق الأمر بختم الألوهة وبالقتل المضاعف للأب (قتل الأب الفرويدي ثانية - قبل مجيء فرويد نفسه- بعد أن تحول إلى إله في نظر أبنائه) ولا بختم النبوة، لأن الإله لديهم مفهوم له تاريخ (روجيس دبراي [4])، أي ليس مفارقا. وهذا أمر مفهوم وقد اضطر إليه الفكر الغربي لأنه قد أحل الله الأب في شخص المسيح الابن، فعيسى عليه السلام ليس نبيا بالنسبة لهم، بل هو ابن الله وهو الله وقد حلّ فيه بالكامل. لا يقدر الفكر المسيحي الإيجابي أو المضاد (النقدي) على ختم النبوة والإبقاء على الله حيا لا يموت، ولذلك لا فكاك له من ورطة الوصاية المتواصلة على العقل وعلى الضمير الإنساني، إلا بقتل الله، فادعى الأسلاف صلب المسيح وبقاءه في الإله حيا، أي رفع الحلول وتعويضه باتحاد روح المسيح بروح الله. أما الأخلاف فقد ادّعوا موت الإله نفسه (نيتشه).

أي قتل الأب الذي لم يحب إلا ابنه الذي جعله ذاته، وفي النهاية الذي لا يحب إلا ذاته. قتلوه حتى يتسنى لهم تبادل الحب في ما بينهم كبشر، والذي يبدأ بمحبة الفرد لذاته وثقته فيها.

إلههم مات (قتلوه مرتين ابنا وأبا، ماديا ورمزيا، وفق الرواية المسيحية أو المناهضة للمسيحية) لأنه ولد ميتا (عقيدة التثليث والحلول والخطيئة الأصلية المزمنة و«الوعي الرديء»: نيتشه) أما إله الحنيفية المحدثة، الإله الكوني، رب العالمين، الذي نجت توحيديته القرآنية من التحريفين التوراتي والإنجيلي لنصه المتقدم بالذّات والمتأخر بالزمان [5]، فهو حي قيوم لا يموت، ولم يمنع الحب البشري بل حثّ على التناكح والتناسل (في الحديث النبوي «تناكحوا تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة») وأظهر الود والرحمة لكل عباده ولكل مخلوقاته.

ولذلك لم يؤد تطور الثقافة والفكر في الحضارة الإسلامية إلى ظهور فكرة موت الإله لأنها فكرة لا معنى لها في هذا السياق، طالما أن الإنسانية لم تختزل في شخص واحد خلاصي كشخص المسيح، ولذلك قدّم القرآن الكريم واقعة موت الرسول المحتملة كظاهرة طبيعية لا تمس في شيء جوهر الرسالة، لأنها لم ترتبط أنطولوجيا (أي ارتباطا وجوديا لازما) بشخص محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ارتبطت بمفهوم الإنسان المستخلف في الأرض والمكرم في البر والبحر والمفضل على كثير ممن خلق الله تفضيلا [6]. «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين» (آل عمران/ 144). فالمشروع الاستخلافي متواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما الأنبياء والرسل إلا معلمين ومدربين للبشر على الاستقلال بالذات والترقي في مدارج الحضارة.

إن ختم النبوّة لم يصبح مفهوما فلسفيا إيجابيا إلا مع الفيلسوف الهندي محمد إقبال (1873-1983) المعاصر لفيلسوف "التطور الخلاق"، الفرنسي هنري برغسون. وقبل ذلك كان ختم النبوة يشير فقط إلى ظاهرة توقف الوحي عند قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا»(المائدة/ 3).

لنبدأ تقديمنا للمفهوم الجديد لختم النبوة بالتذكير بطبيعة الوحي كما يراها إقبال.

يرى إقبال أن ظاهرة الوحي ظاهرة طبيعية كونية، إذ هي لا تخصّ فقط الجنس البشري، بل إنّها تمتدّ إلى أبعد من ذلك لتشمل كلّ مكوّنات الوجود. إنّه يعبّر بذلك عن المرور إلى أنطولوجيا جديدة ظلّت مجهولة إلى حدود تلك اللّحظة من قبل الفكر الإسلامي، الّذي دأب وبتأثّر بنوع من الرّؤية الأفلاطونيّة للعالم، على قصر ظاهرة الوحي التي يعتبرها ظاهرة كسموـ ميتافيزيقية، على مختلف أنواع العقول المفارقة.

هذه الرّؤية المفقرة جدّا للحقيقة الطّبيعيّة الشاملة للوحي، تمّ تجاوزها على يد إقبال، بفضل تطبيقه للمنهج الاستقرائي الّذي أكّد لنا هذا الفيلسوف عثوره على أسسه وتطبيقاته الأولى في القرآن [11]. يقول إقبال: «إنّ الطريقة الّتي استعمل بها القرآن لفظ "الوحي" تبيّن أنّه يعتبر الوحي صفة عامّة من صفات الوجود، وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التّدرّج و التّطوّر في الوجود. فالنّبات الّذي يزكو طليقا في الفضاء، والحيوان الذي ينشئ له تطوّره عضوا جديدا ليمّكنه من التّكيّف مع بيئة جديدة، والإنسان المستلهم للنّور من أعماق الوجود، كلّ أولئك أحوال للوحي تختلف في طبيعتها وفقا لحاجات نوعه الذي ينتمي إليه. وفي طفولة البشرية تتطوّر القوّة الرّوحانية إلى ما أسمّيه الوعي النّبوي، الّذي هو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشّخصي، وذلك لتزويد النّاس بأحكام وأساليب للعمل أعدّت من قبل» [12].

وهكذا فإن إقبال يتصوّر الوحي سيرورةً تمتدّ على كامل التاريخ البشري، منذ طفولته الأولى إلى لحظة انفتاح أفق نضجه. وهو يعتبر ختم النبوّة علامة مميّزة للتبشير المبكر بإمكانية استقلال الجنس البشري عن كلّ أنواع الوصاية الخارجيّة عن العقل الإنساني.

يقول إقبال عن موقع نبيّ الإسلام بأنه قائم:«بين العالم القديم والعالم الحديث. فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الرّوح التي انطوت عليها» [38] . وهذه الروح هي روح تحريرية للعقل من كلّ وصاية خارجيّة عنه، وذلك وكما أحسن بيانه إقبال، أنّ:«مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي» و«أن النبوّة لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأن الإنسان، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو. وأن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدّوام، وإصراره على أن النظر في الكون [39] والوقوف على أخبار الأوّلين [40] من مصادر المعرفة الإنسانية، كلّ ذلك صور مختلفة لفكرة ختم النبوّة» [41].

فإذا كانت هذه الرسالة السماوية الأخيرة قد سعت إلى تحرير الفرد واستقلاله عن سلطة ووصاية الدين وكل الأشكال الأخرى من السلطة غير النابعة من العقل أو من القناعة الحدسية الروحية الشخصية ( بالمعنى البرغسوني لكلمة حدس)، بوضع حدّ لكلّ تدخّل نبوي جديد، فإلى أيّ منابع أخرى للوعي والفهم والعلم قد شدّت انتباه الإنسان النبيه إذا [42]؟

إن إقبال يذكر ثلاث مصادر نوّه بها القرآن: الرياضة الروحية (تقوى الله) واستقراء القوانين الطبيعية (آيات اللّه) وأخيرا استقراء القوانين التاريخية (أيّام اللّه)، من خلال الملاحظات المنهجية.

29) تدعو في مقالاتك وكتبك لبناء الحداثة في السياق الإسلامي ؟ ماذا تقصد ؟ 

أقصد بذلك اعتماد مفهوم ختم النبوة كمساو لمفهوم الحداثة في السياق الإسلامي لأنه يتوفر على شرطي الحداثة معا: بناء مفهوم الفرد (استقلاله بذاته) والعقلانية (ولايكون استقلال الفرد إلا بقدرته على التفكير العقلاني).

30) العديد من المفكرين يتحدثون الآن عن "ما بعد الحداثة " فهل يعني ذلك أنك متأخر في طرحك للحداثة ؟

نحن لم نصل بعد إلى طور الحداثة في البلاد الإسلامية فكيف نتحدث عما بعدها؟ !! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى حداثتنا حداثة ما بعد حداثية من أصلها، لأنها حداثة تعترف بتعدد أنماط المعقولية ولا ترفض من هذه الأنماط إلا السحر والشعوذة والدجل، وهي تنفتح على روحانية متسامية أهملتها الحداثة، واعترفت بها ما بعد الحداثة (انظر مثلا الكتابات الأخيرة لروجيس دوبريه).

31) نراك منبهرا جدّا بالفيلسوف الإسلامي محمد اقبال ... ما هي أهم مميزات فكره وهل تعتبر نفسك تلميذه؟ 

إقبال جمع بين العقل والروح بين الذكاء والحس الإنساني المرهف، بين المنهج العلمي والتجربة الجمالية. إن فكره يساعد على إخراج المسلم من الإحراج الذي يشعر به إزاء الفكر العلمي ولا يدفعه إلى اعتبار الدين مجرد خرافة، بل يقدم فلسفة جد عميقة تصالح دونما تكلف بين الإيمان والعقل وبين الذكاء والوجدان، وبين النوازع المادية في الإنسان ونوازعه الروحية. ويشرفني أن يكون أحد أساتذتي الروحيين. غير أن تقديري العميق لإقبال ولفلسفته الفذة لم يمنعني من محاولة تطوير أو تدقيق بعض أفكاره بخصوص مفهوم ختم النبوة لديه:

1. إن ختم النبوة سيرورة معرفية تاريخية لا تنقطع فهي ضرب من البنائية المفتوحة وليست مجرد حدث تاريخي حصل لحظة انقطاع الوحي، ولذا علينا أن نمعن باستمرار في مزيد تكريس هذا الختم، أي مزيد استبدال التقليد بالفهم وإرادة التجديد والفعل في العالم والتاريخ.

2- الختم لا يخص المسلمين فقط بل هو ظاهرة معرفية كونية، وقد استفاد منها المسيحيون واليهود عبر المثاقفة وعبر الحروب الصليبية، بما نقلوا عن المسلمين من علوم ومناهج ظهرت في المناخ العام لختم النبوة.

3- ملاحظة نبديها على التصور الخطي لتطور التاريخ كما قدمه لسنج وكما توحي به فلسفة إقبال: إن تاريخ الوعي ليس هو نفسه لدى كل الأمم ولا حتى لدى أفراد نفس الجماعة، وبالتالي فإن ختم النبوة بما هو ظاهرة نفس-معرفية ثقافية لا يتم ولا يتحقق إلا لدى الأفراد الذين يعون به. وبالتالي يمكن أن تجد أناسا ينتمون إلى نفس الجماعة وهم يقفون على نقاط متباعدة من خط سيرورة ختم النبوة. فبالتأكيد أن العلماء والفلاسفة والمفكرون هم الآن في الشرق وفي الغرب الأكثر تمثلا وتمثيلا لهذه السيرورة المعرفية.