قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
حال لا يستقيم مع حال...
 (1)
يثير مقدم شهر رمضان شجونا في النفس في كل عام، ورغم الفــرح بمقــدم الشهر الكريــم مجدّدا فإنّ سيـــلا من الذّكريات  يتسابق إلى ذهــن المرء، أكثر هذه الذكريات حلو عذب وأعذبها ما كان في بواكير الصّبا والشّباب.
والشّهر الكريم لا يثير الذّكريات فقط و لكنّه يثير في النّفس أيضا مراثي  المسلمين ومآسيهم من عام إلى عام ومن رمضان إلى آخر، حال يزداد سوءا، ومآس ترث مآس، وحرب تلد حربا وهوان على الأمّة عظيم.
صُمت رمضان المعظم وأنا صبيّ لم أبلغ الحلم بعد وكان أهلنا يرون الصّوم قبل التّكليف أدعى لاحترام الشّهر والحرص عليه ممّا لو ترك الأمر للّين أو الهوى، وممّا جعل الشّهر خفيفا على نفسي أمران، أنني شهدت الشّهر شتاء وهو جنّة المؤمن نهاره قصير فيصومه وليله طويل فيقومه، وأنّني لم أكن أحفل بما قد يسبّبه الصّوم من مشقّة ما دام لي أتراب أمثالي يصومون كما أصوم.
(2)
للمكان كما للزّمان أثر في أيّ فعل بشري، ولا شكّ أنّ لكليهما أثرا على العبادات والعابدين على حدّ السّواء، والأمر في الرّيف غيره في المدينة وهو في الشّتاء غيره في الصّيف وليست الشّدّة كالرّخاء. واللذين يعبدون الله في جهات الأرض يعلمون أنّه لم يكلفهم إلا وسعهم وأنّ الذي فرض عليهم فروضه كتب على نفسه الرّحمة وبسط يده بالعطاء.
لرمضان في الرّيف حلاوة ورونق خاصّين، فهو خال من التّكلف رغم زحف المدنيّة على البادية، وهو لا يعني الدّعة كما هو الأمر في الحضر إذ يقبل النّاس على أشغالهم بمثل جدّهم وهم مفطرون وأكثر، ولا سبيل عندهم للرّاحة بل تراهم يجدون في العمل ابتغاء مرضاة الله والأجر وهم يعلمون أنّ العائد عليهم من عملهم زهيد وإن كان يكفي الحاجة.
(3)
يبدأ الشّهر المبارك بالاحتفال بالموسم وتسمى اللّيلة السّابقة لكلّ احتفال ليلة «الموسم»، حيث يجتمع أرباب العائلات ليذبحوا شاة أو أكثر، يوزّعون لحمها بينهم كلّ حسب حاجته وللموسر قدر ما يستطيع. لا يأتي الموسم إلا بالاحتفال، ولا يستثنى من الاحتفال أحد بل يقسم اللّحم حسب العائلات وعدد الأنفار في كلّ عائلة فإن كان من ذوي المال فإنّه يدفع ثمن ما يأخذه وإن كان فقيرا فلا حرج عليه حيث يتولّى الموسّرون دفع ما على الفقراء فلا يحرم  أحد من  اللّحم ورائحته في البيت وحبّذا تلك الرائحة .
يأتي مع رمضان في كلّ عام ثلاثة مواسم، أولها في ليلة مقدمه وثانيها في ليلة النّصف وآخرها في اللّيلة السّابعة والعشرين وما أدراك ماهي. ورغم ما رسخ في ذاكرتي عن تلك السّنين ليس بالكثير إلاّ أنّني لم أنس إلى يومنا هذا مذاق تلك الموائد التي كنّا نجتمع عليها في كلّ موسم، موائد لا تتغيّر وإنّما هي في كلّ مرة لحم رائع المذاق و كسكي من عمل ربّة الدّار .
(4)
لم يكن في القرية مسجد يصلّي فيه النّاس صلواتهم أو يقيمون فيه صلاة التّراويح، ولا كان لهم  إمام أو شيخ  يسترشد بهما النّاس في أمور الصّوم وفي توقيت الصّيام أو الافطار. كان النّاس يفطرون إذا غابت الشّمس ودنا الليل ويبدون الصّيام  متى ما أدركوا أنّ وقت صلاة الفجر قد دخل، لا يختلفون ولا يتجادلون. ولم تكن بيوتهم قريبة من بعضها وإنّما كانت متباعدة، فلا أحد يطّلع على الآخر أو يرى ما يفعل، والعجب أنّهم  يكادون يبدؤون الصّوم وينهونه في توقيت واحد كأنّما هي الفطرة .
لا ينقضي بعض من الوقت بعد الإفطار حتى يكون الشّباب والكهول قد اجتمعوا في بعض البيوت، يتسامرون ويلعبون بما تيسّر لديهم من اللّعب التي كان يلعبها الآباء والأجداد أو يصلّون أو يتذاكرون بعضا من أمور الدّين أو يذكرون الله جماعة. في كلّ ليلة يكون هذا الاجتماع مناسبة لبحث أيّ جديد والنّظر في أيّ شأن عاجل أو آجل،  ولا ينتهي السّمر إلاّ بالسّحور وهو طعام واحد لا يتغيّر طيلة الشّهر الكريم، ثريد من مسحوق الشّعير يصبّ عليه الزّيت و قليل من السّكر أو العسل.
(5)
رمضان شهر الرّحمة، و ليس لهذا الشهر مثيل في استنهاض همّة النّاس لفعل الخير ولقد أدركنا ونحن أطفال بركة الشّهر حين كان العيد يهلّ علينا بلباس جديد وحلوى كثيرة دون تمييز بين فقيرنا وغنيّنا وتلك منّة الشهرالكريم.
الآن صرنا نرى الفقر يطبق على القلوب والجيوب. ومع الفقر أمراض أخرى تزيد الأمر سوءا، فهل كان أهلنا على فقرهم وقلّة علمهم بأمر الدّين أقرب إلى كنه الدّين وروحه منّا؟ لماذا يتضامن  الفقراء من الأجداد في ما بينهم ويتراحمون في حين نزداد نحن قسوة وغلوّا في الأنانية؟
(6)
رمضان شهر تصفد فيه الشّياطين وهو شهر المحبّة والسلام، يبدأ الشّهر بالحبور والبهجة وينتهي بالعيد والأفراح، غير أنّ طعم الشّهر في حلوق المسلمين لم يعد بمثل ما كان من العذوبة. في شهر السّلام ينتهك السّلام، ها نحن نزيد الحروب حربا أخرى في كل عام.
من يرى حال المسلمين اليوم يشكّ أنّهم يصومون الشّهر ويعظمّون شأنه مع أنّهم يفعلون ذلك، ولقد كتبنا من قبل على هذه الصّفحة أنّ في الشّهر المعظم فرصة سانحة للقضاء على الفقر وفي توعية النّاس بحقيقة الدّين وما يدعو إليه من برّ.
هل نحن أمّة لا تسمع؟ هل نحبّ رمضان لغاية فيه أم لغاية في أنفسنا؟ هل سيتاح لأبنائنا أن يتذكّروا إذا أدركتهم الكهولة أو الشّيخوخة أنّ الشّهر الكريم قد حلّ عليهم في عام بالسّلام والرّخاء وعزة الأوطان؟ هل نعود نحن إلى ما كان عليه آباؤنا من قبل من حرص على تنزيل الدّين منزلته الحقيقيّة من حياتهم؟
من رمضان إلى آخر لا يتغيّر الحال ولا تبقى إلّا بعض الذّكريات ، حال لا يستقيم ولكن ما باليد حيلة مع هكذا حال.