شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
عبدالوهاب المسيري... المفكر الموسوعي والمثقف العضوي
 تحلّ علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة لرحيل الدكتور عبدالوهاب المسيري أحد أبرز المفكرين العرب المسلمين وإحدى الحالات المتميزة والفريدة من نوعها في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، ليس فقط بالنظر إلى شمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي والترجمة، ولكن بالنظر أساسًا إلى أصالته الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والنحت الاصطلاحي والمفاهيمي.
ولد عبد الوهاب المسيري عام 1938 في دمنهور بمحافظة البحيرة. وبعد إنهاء تعليمه الابتدائي والثانوي التحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة في عام 1964، ثم على درجة الدكتوراه عام 1969 من جامعة رَتْجَرز.
بدأ الدكتور المسيري حياته المهنية معيدا في جامعة الإسكندرية فور تخرجه، وإثر عودته من الولايات المتحدة قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية وجامعة الكويت.
كما تقلد عدة مسؤوليات أبرزها أستاذ زائر في أكاديمية ناصر العسكرية، وفي جامعة ماليزيا الإسلامية، وعضو مجلس الخبراء في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، ومستشار ثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، ومستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.
تولى منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) التي دعت لتغيير النظام بالطرق السلمية وعارضت سياسة التوريث في مصر.
التحق «المسيري» في مرحلة الصبا لفترة قصيرة بـ «الإخوان المسلمين»، ثم اتجه إلى الماركسية، وعاش مرحلة من الشك ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقة مثل الحق والخير والجمال والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي وضرورة إقامة العدل في الأرض، وبالتدريج وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من ثلاثين عامًا عاد مرة أخرى إلى الإسلام لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة وكأيديولوجية، فرغم التحولات التي مرّ بها، فإن مكونات رؤيته وعناصرها الأساسية لم تتغير، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية، ورغم تغير المنهج. فجوهر رؤيته للعالم كان يتمثل في أن الإنسان كائن فريد وليس كائنا ماديا. 
لم يكن «المسيري» كاتبا عاديّا بل كان مفكّرا منهجيّا بامتياز وصاحب رؤية فلسفية حضارية تؤمن بتعدّد أبعاد مشروع التأسيس الحضاري في مجالات العلم والمعرفة والأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع، مما جعله يؤسس مشروعًا فكريًّا تجديديًّا منهجيًّا له امتدادات إيمانية وإنسانية، بما يمتلكه من أدوات وآليات صياغة وصقل جوانب أساسية في الهوية العربية الإسلامية. ولهذا لاغرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة وفي العلمانية كنموذج معرفي وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد وقصص الأطفال، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة، وبهذا تحول النموذج التفسيري لدى المسيري إلى كائن معرفي حي، يتفاعل مع الظاهرة معرفيًّا، وينمو معها فهمًا وتفسيرًا وتنبؤًا. 
لم يكن «المسيري» مفكّرا موسوعيًّا فقط، بل مناضلا ميدانيّا مهووسا بقضايا وطنه، مجسّدا نموذج المثقّف الذي لا يريد البقاء منعزلًا عن هموم مجتمعه. شارك بصلابة في النضال السياسي، وتقدّم المظاهرات الاحتجاجية ضدّ الصهيونيّة والعولمة وقاد حركة التمرد السلمي في الشارع عبر تزعمه للحركة المصريّة للإصلاح والتغيير «كفاية» متحمّلا بصبر المضايقات الأمنية وهمجيّتها والآلام التي كانت تصاحبه جرّاء الأمراض التي ألمت به خاصّة مرض سرطان الدمّ الذي عجّل بوفاته.
غادرنا «المسيري» في اليوم الثاني من شهر جيولية (تموز) من سنة 2008، عن سنّ سبعين سنة بعد صراع طويل مع السرطان لكنّه ترك لنا وللأجيال القادمة كنوزا ثمينة من المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، تنوعت بين الموسوعات والدراسات والمقالات لتكون نبراسا للباحثين عن ثقب يدخل منه النور في عصر الظلام الدّامس الذي تعيش فيه أمتنا العربية الإسلاميّة.
من أبرز هذه الكنوز «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد» التي تصنف ضمن أهم الموسوعات العربية في القرن العشرين.
ومن أهمّ كتبه «رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية- في البذور والجذور والثمار» و«العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، و«الفردوس الأرضي»، و«الحداثة وما بعد الحداثة»، و«الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان».
كما ترك لنا الدكتور المسيري عدّة دراسات لغوية وأدبية من أهمها: «اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود»، ودراسات في الشعر، وفي الأدب والفكر، وديوان شعري بعنوان «أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية». وعدة قصص وديوان شعر للأطفال.