اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
أولويات المرحلة وإصلاحاتها الضرورية
 كثيرة هي الأولويّات التي وضعتها الأحزاب السّياسية والمنظّمات الوطنية للمرحلة القادمة وكثيرة هي الإصلاحات المنتظرة التي اقترحتها.
ولئن اتفقت هذه التّشكيلات على بعض الأولويّات والإصلاحات واختلفت في أخرى إلاّ أنّ الثّابت أنّها جميعا كانت وفيّة لمن تُمثّلهم ممّا جعلها مختلفة.
وإذا علمنا أنّ أولويّات المرحلة وطنيّة بامتياز وتعني أساسا الحالة التي يجب أن تعيشها البلاد ككل ولا تحتمل التأجيل ولا تعني قطاعا بعينه أو فئات دون أخرى وكذلك التّوجه الذي على مجتمعنا أن يسلكه، أفرادا وهياكلَ دون استثناء، والذي بدونه لا يمكن تحقيق النّقلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة المنشودة حتى نُحافظ على النّقلة السّياسية والتّشريعية التي حققناها وندعمها.
إذا علمنا ذلك فإنّ الجميع، إِلاَّ من أبى، سيهتدي إلى أنّ أولويات المرحلة التي نعيشها كتونسيين هي تلك التي تمكّننا من الخروج ممّا نحن فيه من عجز موازناتي، دفعاتي وتجاري، وفساد وغياب للتّنمية.
وإذا علمنا أيضا أنّ الإصلاحات المنتظرة ضرورة لبقاء الدّولة كمؤسّسة وللمجتمع ككيان وبدونها إفلاس الأولى وتفككّ الثاني، لا قدّر الله، حينها كان لابدّ «إن أردنا إلاّ إحسانا وتوفيقا» من الاتفاق على أولويّات المرحلة والإصلاحات الضرورية المنتظرة وحسن بلورتها.
فما هي أولويات المرحلة الأساسيّة وما الإصلاحات الضّرورية الواجب الشّروع فيها دون تأخير؟
I. أولويات المرحلة: 
الاستقرار والإنتاج والتشغيل
أولويات أساسية ثلاث، لا يختلف عاقلان وطنيان حولها، الاستقرار والإنتاج والتشغيل، أولويات تستجيب لانتظارات جميع أفراد المجتمع التونسي وتُمكن من الحفاظ على الدولة وتُخلِّص النُّفوس من الاحتقان وتحمي البلاد والعباد من خطر الجريمة والإرهاب والتطرف يسارا ويمينا.
I – 1 - الاستقرار السياسي والاجتماعي  والأمني
المقصود بالاستقرار هو الاستقرار في أبعاده الثلاث خِدمة للاستثمار:
• استقرار سياسي يعكسه استقرار حكومي طيلة أربع سنوات(2016- 2020) على الأقل عمر خُطة مرحلية توضع ضمن إستراتيجية تُوَضِّح الرؤية التي نُريدها لبلدنا عبر تحديد هدف قابل للقيس يعمل الجميع على تحقيق أقدار محترمة منه أحسب أنه يتمحور حول كرامة المواطن وسيادة الوطن ووحدة المجتمع وتضبط له الحكومة برنامجا سنويا يشمل كل المجالات.
• استقرار اجتماعي نؤسس له من خلال علاقات تواصل مستمر وتشاور مثمر بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع وتنظيماته المهنية والنقابية.
• استقرار أمني عبر نشر ثقافة اليقظة واتخاذ إجراءات الحيطة وإتباع منهج الحذر. 
I – 2 – الرفع من مستوى الإنتاج 
والإنتاجية والقدرة التنافسية
رفع يفرضه ما هو معلوم من تدنّي نسبة النّمو الاقتصادي نتيجة تراجع الإنتاج وضعف الإنتاجيّة و القدرة التنافسية لاقتصادنا وما انجرّ عنه من عجز مُتواصل وتراكمي صاعد سواء على مستوى الميزان التّجاري أو ميزان الدّفوعات والتّراجع الخطير لقيمة الدّينار التونسي أمام العملات الأجنبيّة وكذلك على مستوى الميزانية العامّة للدّولة وندرة الموارد ممّا عطل كلّ من النقلة الاقتصاديّة المنشودة والمجهود التّنموي الحكومي.
I – 3 – التشغيل والإحاطة 
بالفئات الضعيفة والمحرومة
«التشغيل استحقاق» من أهم شعارات الهَبّة الشعبية التي عاشتها بلادنا سواء في ثورة الحرية والكرامة (2010 – 2011) أو بداية السنة الحالية (2016) في أكثر من جهة، أمّا الفئات الضعيفة والمحرومة فلا تملك حتى من يُدافع عنها إلاّ من رحم ربي ، من جهد حكومي محدود أو فعل مجتمعي متقطع .
ومواجهة هذه المشكلة المتعددة الأبعاد تتطلب هَبَّة وطنية عامة، رسميّة وشعبيّة، يشترك فيها كلّ التّونسيين سواء داخل البلاد وخارجها وتؤسّس لها صناديق تمويل نستثمر فيها كلّ الموارد التي تتيحها قيمنا بعيدا عن المناكفات الإيديولوجيّة.  
وعلى الأحزاب أن تُعطي نموذجا على قدرتها على إحداث مواطن شغل تستوعب أوّلا العاطلين عن العمل من منخرطيها، وعلى منظّمات المجتمع المدني أن تعكف على سبل مساهمتها في حملة وطنيّة لمواجهة البطالة والحرمان لدى أفراد وفئات من مجتمعنا فضلا عن مجهود الدّولة والأفراد. 
II. الإصلاحات الضرورية: 
ثقافية واقتصادية وإدارية
إذا استحضرنا انتماءنا لعالم مُنفتح أركانه وتتأثر كل زاوية فيه بما يقع في أماكنه الأخرى في لحظة وقوعه وعدم تركنا وشأننا من طرف الفاعلين الإقليميين والدوليين أصبح لزاما علينا حفاظا على كياننا ووجودنا ودفاعا عن مصالحنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا أن نعي خطورة الهشاشة الثّقافية التي تعيشها بلادنا والاختراق الحاصل نتيجة لذلك وأن نبتكر ثقافة ضمن قيم هويتنا تحصينا لأنفسنا وشعوبنا من الاستراتيجيات التي تُحاك خدمة لمصالح غيرنا دون أن تأخذ بعين الاعتبار ضرورة مصالحنا الحيوية.
هذه الاستراتيجيات ذات الطابع الثقافي وُضعت حسب المفكر الأمريكي «أفرام نعوم تشومسكي» للسيطرة على الشّعوب وهي تنطلق من أنّ القادر على تشكيل ذهنية أفراد تلك الشّعوب هو القادر على توجيهها تحقيقا لأهداف اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة يضعها هو دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح تلك الشعوب ضرورة.
وهي استراتيجيات تعتمد على قدرة الإعلام في التأثير والتّحكم في القوّة الإدراكيّة والعقليّة للشّعوب وكذلك الذّهنية والمعرفيّة كما جاء في مقال له بعنوان «أسلحة صامتة لحروب هادئة - سنة 2011».
لذلك وجب توفّر إرادة قويّة لدى السّياسيين خاصة أفراد الحكومـة والإعلاميّيـن ومختلف منظمات المجتمع المدنــي لتحريـر العقول وتزكيـة النّفوس كخطوة أساسيّة ثمارهـــا متوسّطـة وبعيدة المـدى، أمّا الإصلاحـات الأخـــرى الضّروريـــة فتشمل الاقتصــاد والماليــة والجباية والإدارة ... 
II – 1 – إصلاح ثقافي تحريرا للعقول 
وتزكية للنفوس
في هويتنا العربية الإسلامية قيم نحن في أمسّ الحاجة إلى حسن استثمارها ثقافيّا كتونسيين لإعادة صياغة العقليات والذّهنيات بما يجعلنا قادرين على تحقيق النّقلة الاقتصاديّة المنشودة وإحداث التّنمية المتوازنة والشاملة وحافزا للبناء الحضاري المرتقب.
هذه القيم هي قيم القوّة والشّجاعة والكرم وقيم الحفظ والصّدق والأمانة وقيم العلم والعمل والإتقان وقيم التّعاون والشّراكة والتّعاقد وقيم التّضامن والتّكافل والإيثار وغيرها.
وهي قيم نحتاجها في بناء اقتصادنا وتحقيق التّنمية وهي تحتاج منّا أن نبتكر وفقا لها:
• ثقافة لها قدرة على صياغة الذّهنيات من جديد وتحريرها ممّا علق بها وكبّلها، موروثا كان أو مُعاصرا، ومُبدعة لتصوّرات نتجاوز بها حدود التّصورات الحاليّة التي حالت دون تحقيق التّنمية ومُنتجة للرّؤى التي بها نضبط أهدافنا ومالكة لمنهج سليم للإصلاح والتّطوير.
• ثقافة لها قدرة على صقل النّفسيات لتُصبح زكيّة (تتطهر باستمرار وتتطور) من أدران العجز والكسل والجبن والبخل وفي اتجاه امتلاك القدرة والعمل والمبادرة والعطاء.
• ثقافة لها قدرة على إعداد نفسيّات تقيّة تمتلك قدرة اتّقاء المخاطر عن بعد طبيعيّة كانت، ما أمكن، أو اجتماعيّة كوقوع أزمات سياسيّة أو اقتصاديّة أو ماليّة أو احتقان اجتماعي أو جهوي أو قطاعي..
ولكن كيف للثّقافة أن تكون عندنا عامل تنمية وتحصين؟
تكون أوّلا إذا أردناها كذلك وليست خادمة للإستراتيجيات وافدة وبذلنا الجهد نحو إنتاج تعبيراتها ومشاركة أكثر فئات المجتمع  في كسب معركة الذّهنيات والنّفسيات وإذا كانت:
• ثقافة تُجذّر في النّفوس قيم القوة والشّجاعة والكرم بما يعيد الاعتبار للدّولة ولمنظمات المجتمع ويحرّك النّشاط الاقتصادي بالسّرعة المطلوبة ويُحصنها من الضّعف والهوان ومن عدم الاستقرار السّياسي والاجتماعي.
• ثقافة تُربي الأجيال على قيم الحفظ والصّدق والأمانة حفظا للنّفس والعقل والعرض والمال وتحصينا للدّولة والمجتمع من الفساد، كآفة تحول دون تحقيق التنمية، ومن المفسدين سواء كانوا من الدّاخل أو من الخارج. 
• ثقافة تُحفز الهمم نحو العلم والعمل واتقانه إنتاجا للثّروة وتقوية للقدرة التّنافسية في الأسواق المحليّة والأجنبيّة وإنقاذا لقيمة عملتنا وتحصينا للمجتمع من المديونيّة المرتهنة للبلاد والعباد وسيطرة الشركات المتعدّدة الجنسيات على الاقتصاد.  
• ثقافة تدفع الهياكل نحو التّعاون والشّراكة توحيدا للصّف وتقوية للدّولة وللمجتمع في آن واحد وتوفيرا لمناخ ملائم لصناعة التّنمية وتحصينا لهاته الهياكل من الاندثار وللدّولة والمجتمع من فقدان الهيبة خاصّة أمام الإرهابيين وكلّ المتربصين. 
• ثقافة تنشر روح التّضامن والتّكافل والإيثار تنقية للنّفوس وتجذيرا للبعد الإنساني في التّونسي وتحصينا للمجتمع من الاحتقان والعداوة والصراع. 
II – 2 - إعادة هيكلة الاقتصاد 
وإصلاح الجباية والنظام المالي والنقدي
نظرا لمحدودية أداء القطاعين الخاصّ والعام وجب إعادة هيكلة اقتصادنا الوطني بما يُمكنه من النّشاط بكامل قُدراته تحقيقا لنسب نمو مُرتفعة ولمُواجهة آفة الفقر وامتصاص فائض اليد العاملة لدينا وذلك بإحداث قطاع ثالث اجتماعي وتوفير البيئة التّشريعية التي تُمكنه من القيام بدوره الاجتماعي الضّامن لإيجاد حدّ للإقصاء والتّهميش تفاديا لتداعياتهما الخطيرة على الدولة والمجتمع. 
وتوفيرا لموارد إضافية للدولة وجب الاستمرار في الإصلاح الجبائي ومقاومة التهرب الضريبي وإرساء عدالة جبائية حقيقية...
وإضافة للقانون الأساسي الجديد للبنك المركزي الذي وقع تبنّيه في شهر أفريل 2016 والقانون البنكي الجديد في شهر ماي الماضي وتطويرا لجاذبية مناخ الأعمال لدينا للاستثمار والمستثمرين وتسهيلا لجعل مؤسّساتنا التونسية مؤسّسات دوليّة رفعا للقدرة التنافسيّة لاقتصادنا الوطني وجب مواصلة إصلاح النّظام المالي والنّقدي عبر إقرار مزيد من المرونة على مستوى عمليات الصّرف مع إتباع منهج الحذر والتّدرج في إصلاح مجلة الصّرف لاحتواء مخاطر تقلّبات أسعار صرف العملات الأجنبية...
II – 3 – تجفيف منابع الفساد 
وإصلاح الإدارة والحوكمة الرشيدة
الفساد آفة كل نشاط اقتصادي وجهد تنموي، وبما أن استمراره وتفاقمه دلّ على أنه منظومة وجب وضع إستراتيجية وطنية لمكافحته انطلاقا من إجراءات عاجلة تُجفّف منابعه. 
ونظرا للدّور المحوري للإدارة في النّمو الاقتصادي والنّهوض الاجتماعي وجب مواصلة الإصلاح الإداري بدون انقطاع وما يتطلّبه ذلك من تحكّم في نفقات التّصرف والأجور وإرساء نجاعة على الإدارة العموميّة وإصلاح قانون الوظيفة العموميّة ومواصلة إصلاح قطاع المؤسّسات العموميّة وإرساء إجراءات الحوكمة الرّشيدة...
إن معركتنا الحقيقيّة هي الحفاظ على دولتنا وتقوية مجتمعنا وكسب معركة التّنمية فيه وهي معركة لا تتطلّب وعيا فقط بل التزاما وشراكة وتعاونا بين كل التّونسيين، وهي كذلك معركة ذهنيّات ونفسيّات قبل كل شيء، فهل نعي ذلك ونبتكر ثقافة ضمن قيم هويتنا لكسبها ومن ثمّة نُمهّد طريق التنمية التي نتطلع جميعا للعيش في كنفها ونُحصِّن دولتنا ومجتمعنا من كل مكائد أعداء الإنسان والحياة ومكرهم في الداخل والخارج ؟