فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
مبادراتٌ عربيةٌ عاجزةٌ وأخرى دوليةٌ حائرةٌ
 في ظلّ انحصار الاهتمام العالمي بالقضيّة الفلسطينيّة، وانشغالهم بغيرها عنها رغم أنّها القضيّة الأمّ والأساس لكلّ الصّراعات في المنطقة، والسّبب الأوّل في الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار، والمحرّك الأهمّ للحكومات والشّعوب العربيّة والإسلاميّة خوفاً من تداعياتها، أو إيماناً بوجوبها وأهمّيتها، وإحساساً منهم بالواجب الملقى على عاتقهم، وأنّهم يتحمّلون جزءاً من المسؤوليّة عنها، وستبقى كذلك حتى يعود الحقّ إلى أهله، والوطن إلى أصحابه، والأرض إلى ملاكها الأصليّين الشّرعييّن، الذين كانوا فيها وطردوا بقوّة السّلاح والإرهاب منها، وجاء غيرهم واستوطن بغير حقٍ أرضهم وحلّ فيها مكانهم.
ورغم انشغال العالم بالاضطرابات والحروب التي تشهدها المنطقة العربيّة عموماً إثر ثورات الرّبيع العربي، ومنها سوريا على وجه الخصوص، التي احتضنت على مدى تاريخها الحديث القضيّة الفلسطينيّة، وآوت فصائلها وساعدت تنظيماتها، وأيّدتهم بالسّياسة والسّلاح، وفي السّلم والحرب، كان لها فيها معهم أدوارٌ لافتةٌ ومشاركاتٌ ملموسةٌ، جعلت من وجودها مع الفلسطينيين قوّة، ومن حضورها فعالية، ومن تأييدها لهم أثرٌ وفعلٌ، ولكن قضيّتها الأليمة شلّتها، والحرب الدّائرة رحاها بين جنباتها الأربعة شغلتها وقوى العالم الكبرى عن القضيّة الفلسطينيّة، وجعلت منها ثانويّة غير هامّة، ومؤجّلة غير ملحّة، وربما تركتها لأطرافها يحرّكونها وحدهم، وينشغلون بها بأنفسهم، بحثاً عن حلٍ أو سعياً نحو تسوية.
فقد عجّت السّماء العربيّة والدّولية بمبادراتٍ كثيرة، ومشاريع تسوية مختلفةٍ، قديمةٍ وجديدةٍ، لكن القاسم المشترك لها جميعاً كان العجز والضّعف والتّردد والفتور، والجبن والخوف ومحاولة المساس البعيد، والتّظاهر الكاذب بالاهتمام، والادّعاء المخادع بالانشغال وبذل الجهد، لكنّ العدو الإسرائيلي أهملها وهمّشها، وأعرض صفحاً عنها ولم يولها اهتمامه، ولم يكلف نفسه عناء الاهتمام بها أو دراستها والرّد عليها، كما لم يؤمن بها الفلسطينيون ولم يعلقوا عليها آمالهم، فهي لا ترق إلى شئٍ من أحلامهم، ولا تحقّق شيئاً من أهدافهم، وإن كانت قد شنفت آذان البعض وبشرتهم، فعكفوا على دراستها، وانتقدوا من عارضها وخالفها، أو رفضها واستنكرها، متّهمين إيّاهم بالاستعجال والعدميّة.
طرح الفرنسيّون باسم رئيسهم مبادرتهم للسّلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ووضعوا تصوّراتهم ودعوا إلى عقد مؤتمرٍ دوليٍ يناقش أفكار الحلّ وسبل الخروج من الأزمة المحكمة الإغلاق، وقد جاءت أفكارهم لصالح العدوّ، ومتوافقه مع مشاريعه ومخطّطاته، ومنسجمة مع أحلامه وتوقّعاته، ولكنّها لم ترق لقادتهم، ولم ترض حكومتهم، فرفضوها واعترضوا عليها، وطرحوا عنها بديلاً يجهضها ويفرغها من مضمونها.
فهم باتوا يتطلّعون في ظلّ التردّي العربي المهول، وحالة التّشرذم والتّمسك والانقسام، إلى ما هو أفضل وأحسن بالنّسبة لهم، فأعلنوا رفضهم لها، واستبعدوا مشاركتهم فيها، ودعو إلى تبني أفكارٍ أخرى ومبادراتٍ جديدة، تقود في نهايتها إلى سيطرتهم الكاملة على الأرض، وسيادتهم عليها، وطردهم الشّامل لكلّ سكان فلسطين، لئلا يشاركونهم في الأرض، وحتّى لا تكون لهم في الجوار معهم دولة، تنمو وتكبر أمام عيونهم. وتهدّدهم بقوّتها وتخيفهم بجيرانها وحلفائها ومستقبل أجيالها.
علم الفرنسيون بالرّد الإسرائيلي السّلبي على مبادرتهم، وبرفضهم وساطتهم، فأعلن رئيس حكومتهم مستدركاً أنّ مشروعهم للسّلام قد فشل، رغم أنّهم طرحوا مبادرتهم بعلم «إسرائيل» التي أعلنت رفضها وعدم قبولهم بها، رغم أنّها راعت مصالحهم، واتفقت مع ثوابتهم، وابتعدت عما يستفزهم ويغضبهم، ولكنّه في الوقت الذي دعا فيه الدول العظمى للسّعي لعقد حوارٍ منظّمٍ بين الطّرفين، فقد أعلن أنّه صديقٌ لإسرائيل، وسيقول لنتنياهو أنّه يريد السّلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
أما الإسرائيليّون فقد جاءت مبادرتهم معاكسة، وأفكارهم مخالفة، إذ دعوا الفلسطينيين إلى حوارٍ مباشرٍ دون شروطٍ مسبقةٍ من طرفهم، لكن على أساسٍ من التّصور الواضح، الذي يقود إلى لا عودة ولا دولة، وإلى لا سيادة ولا سلاح، وإلى لا وطن ولا استعادة أرض، وإلى لا سيطرة على الحدود ولا سلطة على المعابر، وإلى لا حرّية في الاقتصاد ولا تجارة مع الجوار، لكنّه يقود حتماً إلى تنسيقٍ أمني وتخابر، وتعاونٍ معلوماتي وتبادلٍ لها من طرفٍ واحد، يكون من نتائجه ضبطٌ للأمن لصالحهم، واعتقالٌ دوارٌ يخدمهم، واستعداءٌ للنّشطاء والفاعلين يطمئنهم، وفي المقابل سيكون للفلسطينييّن سرابٌ ووهمٌ، وخيالٌ وعقمٌ، وزرعٌ يحصدون منه الرّيح.
ثم جاءت المبادرة المصريّة المفاجئة، فتأمل الكثير منها خيراً، واستبشروا بها فرحاً، إذ أن مصر هي الجارة  والأقرب، وهي الأقوى والأقدر، وهم الأكثر خبرة والأعمق تجربة، ولديها علاقاتٌ قويّة مع الكيان الصّهيوني، الذي ترتبط معه باتفاقية سلام، وبشرت مبادرتهم بسلامٍ دائمٍ وأمنٍ مستقرٍ، ورخاءٍ للشعبين، ومستقبلٍ واعدٍ للأجيال من بعدهم، شرط أن تصحّ النّوايا وتجدّ المساعي. 
ردّ العدو على المبادرة المصريّة على الفور فعقرها، وصفع رئيس حكومة كيانهم من طرحها، إذ عيّن ليبرمان وزيراً للحرب وداعياً لها، وهو يعرف أنّ هذا الرّجل عنوان للحرب لا للسّلام، وأنّه يتطلّع إلى طرد الفلسطينيين لا إلى مفاوضتهم، وهو لا يعترف بوجودٍ شريكٍ يفاوضه، وعلى افتراض وجوده فهو يدعو إلى قتله، كما يسعى لقتل كل فلسطين يقاوم لاستعادة حقّه، أو يفاوض لتحرير وطنه، فضلاً عن أنّه يرى في مصر وغيرها عدواً لكيانه، إذ سبق له أن دعا إلى تدمير سدّها العالي وإغراق أرضها وسكانها بمياهه.
إنها مبادراتٌ فاشلةٌ لا تقوى على التصدّي الفاعل، والصّمود الكامل، والتّحدي الشّجاع لحقيقة الأزمة الفلسطينيّة، هدفها ذرّ الرّماد في العيون، رغم أنّ الجميع يعرف الأسباب ويدرك العوامل ويحيط بكلّ الظروف والملابسات، ويرون بأمّ عيونهم تداعيات الأزمة الفلسطينيّة وآثارها على الفلسطينييّن والمنطقة عموماً، ويلمسون حجم الظّلم الواقع على الشّعب الفلسطيني نتيجة الاحتلال من جهة، وهو أساس كل مشكلةٍ وأزمة، وسبب كل مصيبةٍ ورزيئةٍ، ونتيجة الخلاف والاحتراب الفلسطيني الدّاخلي، الذي أعيا الجميع، وأيأس الكلّ، ودفع بالحكماء والعقلاء والمخلصين والغيورين إلى القنوط ونفض أيديهم مما يجري، إيماناً منهم بالعجز، ويقينا لديهم بعدم رغبة الأطراف في التّوصل إلى حلولٍ حقيقيةٍ ومخارج وطنيةٍ.