غمزة

بقلم
محمد المعالج
الترجمة همزة وصل بين ثقافات الشعوب
 فضلا عن كونه كائنا مدنيّا بطبعه، فإنّ الإنسان كائن تواصليّ بامتياز. فالتّواصل ضرورة حياتيّة لا غنى عنها باعتبار أنّ اللّغة لا تستقيم إلاّ بمتكلّم يخاطب آخر. كما أنّ هذا التّواصل البشريّ من شأنه أن يعزّز عرى التّرابط والتماسك بين النّاس إضافة الى أهمّية التّخاطب بماهو ركيزة من ركائز الوجود المدني ولبنة أساسيّة من لبنات المجتمعات. فالحاجة الملحّة للتّخاطب مع الآخر تنبع أساسا من السّعي الدؤوب لاقتسام الأفكار وتبادل المعارف والخبرات ممّا يجرّنا للحديث عن الوسائط الكفيلة بضمان عمليّة التّواصل الفعّال بين البشر مهما كانت مرجعياتهم ومشاربهم وثقافاتهم المتنوعة. 
من هنا يأتي دور التّرجمة التي تضطلع في المقام الأوّل بمهمّة تقريب الرّؤى وتكريس التّعددية من خلال تسهيل قنوات التّعارف والتقارب بين الحضارات والثّقافات المختلفة. إذ أنّ العديد من الشّعوب لم تكن لتفهم بعضها البعض لولا وجود وسيط ثقافي يقوم بتذليل الصّعوبات وتبديد العقبات وإزالة الحواجز التي تحول دون الوصول إلى أرضيّة مشتركة. 
فالتّرجمة تعني اللّقاء والتّعارف البنّاء والحوار الفاعل على اعتبار أنّها تفتح أبواب التّعاون والتّضامن على مصراعيها علاوة عن إسهامها في الإرتقاء بالمعارف من خصوصياتها المحلّية لتلامس أفقا كونيّا إنسانيّا صرفا.
لذا فإنّ التّرجمة بهذا المعنى رديفة البذل والعطاء. كما أنّها بمثابة جسر العبور الذي يسهّل حركة الفكر والثقافة عبر تأمين أفضل الطّرق لحسن سير التّثاقف. 
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار التّرجمة ضرورة معرفيّة باعتبارها حقلا من حقول المعرفة التي تسهل اطّلاع الشّعوب الأخرى على ثقافات الشّعوب المغايرة من خلال تلاقح الأفكار وتفاعلها. فلا تطوّر أو تحديث بدون ترجمة.     
 فالترجمة مخاض عسير وألم كبير يسبقان فعل الولادة بكلّ ما تعنيه العبارة من معنى. فإمّا أن تنجح الولادة ويرى المولود النّور وإمّا أن يولد المولود مشوّها بالرّغم من محاولات الإنقاذ. فبالرغم من أنّ الكثير من النّاس يذهبون إلى أنّ التّرجمة لا تعدو أن تكون مجرّد استنساخ لا يضاهي في قيمته الأصل إلاّ أنّها تظلّ فنّا وإبداعا يعكس قدرة المترجم على العزف على أوتار المفردات والعبارات.
من هنا نتبين الدّور المحوري الذي تلعبه التّرجمة في عصرنا الرّاهن لا سيّما وأننا نعيش على وقع طفرة معرفيّة وتكنولوجيّة لا تكترث بالمتخلّفين عن ركبها أو المتغافلين عن أهميتها في ظلّ عالم تحكمه معطيات جديدة تمخّضت عن مجموعة متنوعة من المتغيّرات والتحولات التي ألقت بظلالها على المواطن البسيط. 
تظلّ التّرجمة إحدى الأدوات المؤثّرة في هذا الواقع الغريب أحيانا. فبدونها تبقى الشّعوب حبيسة الجهل بعوالم الشّعوب المختلفة عنها، كما تظلّ رهينة الإنغلاق والإنكفاء على ذاتها إلى أن تضمحل وتتلاشى في نهاية المطاف. فبفضل فعل التّرجمة تمتلك الشّعوب القدرة على ردم المسافات وتذليل العقبات قصد المضي قدما في طريق البناء والإنعتاق من التّقليد الأعمى والقوالب الجاهزة التي تزيد من جمود الفكر العربي. فلم يعد دور التّرجمة مقتصرا على تسهيل التّواصل كما هو الحال بالنّسبة للمراسلات والمبادلات التجارية، بل تعدّاه ليشمل ماهو أهمّ وأوسع من ذلك. فالتّرجمة باتت من بين الأدوات الرّئيسية في عمليّة تأهيل القوى البشريّة وتدريبها على حسن الإدارة والإستثمار فضلا عن توظيف آخر ما توصّلت إليه النّظريات الحديثة في مختلف مجالات المعرفة والقطاعات الحيويّة المساهمة في دفع عجلة التّنمية المستدامة من خلال العمل على نقل عصارة تجاربهم وثمرة خبراتهم في شتى الميادين.