اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
الاهتمام بالثقافة اهتمام بالتنمية
 يُعتبر الكائن الإنساني حسب دراسات فلسفية كُلاَّ معقد التركيب يعكس ترابطا بين أبعاد متعدّدة منها المادّي الكوني والإحيائي بحكم تجدّده ومنها النّفسي الرّوحي واللاّنهائي بحكم انفتاحه ومنها البُعد الأنطولوجي الذي يمكنه من إدراك حقيقة ذاته من خلال إدراك منبع أفعاله والبُعد الدّيني الذي يمكنه من التّواصل مع واجد الوجود بما فيه.
وللكائن الإنساني كذلك بُعد اجتماعيّ باعتباره كائن علائقي ينسج علاقات في المجتمع الإنساني وبُعد تاريخي باعتباره كائن في صيرورة بطابع جدلي أساسا.
كما له بُعد قيمي يُدخله في عالم جديد بعيدا عما هو كائن ليُحدّد ما يجب أن يكون مُعط لنفسه مهمّة وقيمة ومشروعا عليه أن يُتمّمه..  
وللإنسان، أخيرا وليس آخرا، بُعد ثقافي ينسبه في آن واحد إلى العالم الاجتماعي والعالم التاريخي ويكشف عمّا في الإنسان من طاقة خلاّقة ومن ارتباط بمقاييس هي شروط اجتماعيته وتاريخيته ويكشف بالتّالي عن كون الإنسان قدرة على الكينونة.
ولكن طالما لم يكن للإنسان حضور اقتصادي لا يمكن أن يكون له حضور اجتماعيّ لأنّ نشاطه الاقتصاديّ (استهلاك – إنفاق – إنتاج...) يحميه من الإقصاء الاجتماعي، لذلك يستدعي الانتساب للعالم الاجتماعي الانتساب للعالم الاقتصادي.
كما أن الانتساب للعالم التاريخي وما يتطلّبه من زمن لصيرورة الإنسان (أنا) يلتقي مع الانتساب للعمليّة التّنموية لأنّها هي كذلك مسار المجتمع (نحن) وصيرورته ولكن مسار يريد تجاوز ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون كواقع أفضل وصيرورة نحو الكرامة. 
ونظرا لاشتراط الانتماء الاقتصادي للانتماء الاجتماعي ولالتقاء الانتساب للعملية التنموية مع الانتساب التاريخي ومع حاجة هذا الانتساب إلى القيم نرى من الطبيعي تناول العلاقة ما بين القيم والثقافة وبين الاقتصاد والتنمية والنظر كيف أن الاهتمام بالقيم والثقافة هو اهتمام بالاقتصاد والتّنمية.
نحسب أنّ أولى خطوات السّير نحو التّنمية والتي علينا سلوكها هي تخطّي الأسر النّظري والمعرفي الذي أوقعنا عقولنا فيه حين سلّمنا بكلّ ما هو وافد علينا من النّظريات الغربيّة والشّرقيّة دون استحضار أنّ المنوال التّنموي هو وليد هويّة المجتمع ويتأثّر كثيرا بالبيئة الثّقافية والقيميّة التي ضمنها يتفاعل ويكتمل.
(1) القيم طاقة مُتجددة للاقتصاد والتنمية
وفي هذا السياق ونحن ننشط اقتصاديّا واجتماعيّا، لا بدّ من استحضار أنّ هويّة مجتمعنا العربيّة الإسلاميّة هي أهمّ طاقة من طاقات مجتمعنا وأنّه حين تتحقّق المصالحة الحقيقيّة معها وذلك بتمثّل قيمها لا يمكن إلّا أن تلد منوالا تنمويّا متوازنا يكبح جماح التّضخم للحفاظ على المقدرة الشّرائية للمواطنين ويمتصّ فائض البطالة لتوفير المدخل الرّئيسي للكرامة لكلّ عاطل عن العمل، هذه القيم هي قيم القوّة والشّجاعة والكرم وقيم الحفظ والصّدق والأمانة وقيم العلم والعمل والإتقان وقيم التّعاون والشّراكة والإيثار وغيرها... لكن كيف ذلك؟
من نافلة القول أنّ تحقيق نسبة مرتفعة للنّمو الاقتصادي لن تتمّ إلاّ عبر تفعيل محرّكات الاقتصاد الثّلاث من استثمار وتصدير واستهلاك ولكن لا يمكن لهذه المحركات أن تشتغل وبأقصى سرعة ممكنة ما لم يكن هناك قوّة الإرادة السّياسية والمجتمعيّة وشجاعة المبادرة الاقتصاديّة وتجفيف منابع الفساد عبر تشبّع الفاعلين السّياسيين والاقتصاديّين بقيم الصّدق والحفظ والأمانة وانتهاج قطاعات الاقتصاد وكذلك مكونات المجتمع السّياسي والمجتمع المدني والمنظمات المهنية نهج التّعاون والشّراكة لا سُبُل التَّدابر والصّراع وحُبّ العاملين بالفكر والسّاعد للعمل وقدرتهم على إتقانه نظريّا وعمليّا.
فبالعمل وإتقانه تزيد الثّروة ويمكن التّحكم تبعا لذلك في مستويات التّضخم وبهما يُحقّق كلّ فرد ذاته ويتمكّن من حقّ التّملك والتّصرف فيما يملك ويصبح حرّا في اختياره فيضع بذلك وتبعا له حدّا للتّوظيف الرّخيص على المستوى السّياسي وللتّهميش والإقصاء على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.. 
وممّا هو مسلم به في أدبيات التّنمية أنّ تحقيق نسب مرتفعة للنّمو الاقتصادي شرط ضروري ولكن غير كاف لتحقيق التنمية ما لم يقع توظيف عائد ذلك النمو بشكل عادل لكل حسب ما قدمه من عمل ولكل من أفراد المجتمع ولجميع جهات الوطن حسب حاجتهم.
ونحسب أن حاجة فئات عريضة من شبابنا للشغل تلتقي مع حاجة بلدنا لإنتاج مزيد من الثروة حين نُكرس في عقولنا ونُجسد ذلك إجرائيا وعمليا في واقعنا أن العمل هو مصدر الثروة الرئيسي وأن الإنفاق هو السبيل الوحيد لتحقيق الزيادة فيها ويستقر في نفوسنا أن الإتقان هو الذي سيُمكّننا من كسب معركة المنافسة في الداخل ترويجا للبضاعة المحلية وفي الخارج حفاظا على أسواق تقليدية وكسبا لأسواق إضافية.
وبشجاعة المبادرة الاقتصادية خاصة ممن لهم فائض مال، افردا كانوا أو مؤسسات، وبالإيمان بقدرات الشباب صاحب الشهائد العليا، في ظل رغبته في النجاح حفاظا على الشغل الذي طال انتظاره وذاق آلام فقدانه، يُمكن أن نمتص آلاف العاطلين عن العمل ونُساعدهم على الاندماج اقتصاديا وتبعا لذلك اجتماعيا وسياسيا.  
وبالطبيعة الاجتماعية والتضامنية للقطاع الثالث والذي حان وقت تركيزه نضمن تجاوز هيكلة الاقتصاد، المتجلية بالقطاع العام والقطاع الخاص، المكبَّلَة والمعيقة بالتالي للنمو والتنمية على حد سواء.
 إن توظيف موارد مالية من نفس طبيعة النشاط الاجتماعي التضامني أمر حتمي لذلك نجد أنفسنا في حاجة ماسة لموارد كل من الزكاة والأوقاف لمُواجهة مشكلة البطالة والفقر ولجعل خدمات الصِّحة والتَّعليم تصل مختلف الفئات والجهات تمكينا لهم من قدرات الإدماج والاندماج وتحصينا لجميع التونسيين من آفات الجهل والمرض والانحراف والتوظيف سواء من طرف الإرهابيين آو السياسويين المهووسين بالسلطة. 
إن تركيز هذا القطاع الاجتماعي القائم على قيمة التضامن من شأنه أن يستوعب آلافا من عارضي الشغل خاصة إذا استأنسنا بتجارب عديدة من بينها تجربة الاتحاد الأوروبي.
فبالاعتماد على تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالمملكة المغربية (إحالة ذاتية رقم 19/2015) وعلى مستوى إسهام الاقتصاد الاجتماعي في معالجة مشكلة التشغيل بينت دراسات أن هذا الاقتصاد يُشغل في أوروبا ما لا يقل عن 14.5 مليون شخص أي حوالي 6.5 % من سكان بلدان الاتحاد الأوروبي النشيطين. وفي بعضها مثل بلجيكا وفرنسا وهولندا ساهم الاقتصاد الاجتماعي التضامني بأكثر من 10 % من الناتج الداخلي الخام أي في زيادة الثروة.
كما بينت دراسات أخرى أن مثل هذا النوع من الاقتصاد مكّن بعض البلدان من تجاوز بعض من آثار الأزمة العقارية التي عاشها العالم سنة 2008 مما ساهم في التخفيف من الأزمة المالية والنقدية.
 وبتركيز هذا القطاع نستأصل بذرة التفاوت، التي حالت دون تحقق التنمية في دول وتكتلات رغم كسبها معركة النمو(اقرأ الإصلاح عدد 74 و104) ونقتل بالتالي الفقر والحرمان في المهد لنحول دون إذلال الإنسان وانحرافه ونمنع حينها استغلاله واستلابه.
(2) دور الثّقافة المحوري في التّطورات الحديثة
الثّقافة «مجموعة من المميّزات، الرّوحية والمادّية والفكريّة، والملامح العاطفيّة للمجتمع أو لجماعة ما» وفي بداية تداولها، حملت كلمة الثّقافة معنى الإبداع في مجال زراعة الأرض وتشجيرها الأمر الذي منحها مضمونا اقتصاديّا وتبعا لذلك معنا تنمويّا. 
وبرصد أثر الثقافة في التطورات الحاصلة حديثا على المستويين الاقتصادي والتنموي يمكن إدراك الدور المحوري لها من خلال الأحداث التاريخية التالية:
• صعود الرأسمالية التي فسرها ماكس ويبر كظاهرة ثقافية ذات جذور دينية حين اعتبر الثقافة الدينية البروتستنتية وما احتوته من ازدراء لسلوكيات التواكل والخنوع وما دعت إليه من استنهاض للهمم وقيام بالواجب تجاه العالم المحيط عاملاً محدداً في تكوين العقلية الرأسمالية للفرد الأوروبي وتوسعها العالمي.
• الطفرة الرأسمالية للمجتمع الياباني التي مكنته من إدراك المنافسة الصناعية على المستوى العالمي تعود للعوامل الدينية الكونفسية الداعية إلى انتهاج أسلوب الولاء والمرونة والمساعدة مع السّلطة القائمة وما أشاعته من ثقافة الطّاعة والتّأقلم والنصرة كان لها أثر حاسم في دفع أفراد المجتمع الياباني لتحقيق ما حققوه. 
• التحول التاريخي والمهم الذي عرفته بلدان شرق آسيا في الثلث الأخير للقرن الماضي والذي مكن بعضها من تحقيق التنمية كانت وراءه قيم الترابط الأسري، واحترام العمل، والتعليم وما أشاعته من ثقافة الوحدة وبذل الجهد والمعرفة.
لذلك يُمكن إقرار أن للثقافة دور هام في النقلة الاقتصادية لعدد من الدول وإحداث التنمية في أخرى وحافزاً للبناء الحضاري في عدد من المجتمعات مما يدفعنا لاعتبار الاهتمام بالتّنمية يمرّ حتما عبر الاهتمام بالثّقافة.
وقد وعت اليونسكو ذلك فوجهت نداءً إلى العالم في أكتوبر 2009 لإعادة النظر على مستوى نهجه في التنمية إذا أراد ضمان مستقبل مستدام لأجيال الغد... ونظرا لأنّها ديناميكيّة بطبيعتها،اعتبرت اليونسكو أنّ الثّقافة توفّر مختلف الفرص المناسبة لتحقيق التّنمية. 
ثم طرحت مُبادرة عالمية تحت شعار «الثقافة جسر للتنمية» في نوفمبر 2011 بهدف تعزيز نهج الابتكارية والإبداعية التي تعزز الثقافة كجسر للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية المستدامة. 
فهل نعي نحن ذلك ونبتكر ثقافة ضمن قيم هوية مجتمعنا العربية الإسلامية لنُحقق التنمية التي نتطلع جميعا للعيش في كنفها؟