بهدوء

بقلم
بدير يحي
الحريات العامة في ميزان برلمانات دول العالم الثالث
 أصبح مبدأ الفصــل بيــن السّلطــات ملازمــــا للدّيمقراطيـــة ومـــن مبـــرّرات منــع الاستبـــداد وصيانـــة الحرّيــة وضمــان مـبــدأ الشّرعيـــة وتحقيـــق المزايــا المترتّبـــة على مبـــدأ تقسيــم العمل، وغــدا هـــذا المبـــدأ بمثابـــة سلاح من أسلحة الكفـــاح ضدّ السّلطــة المطلقـــة وضدّ فكــرة تركيزها فــي يــد شخـــص واحد أو هيئـــة واحـــدة منعا لاستبدادها وتعسّفها.
    ومقتضى هذا المبدأ أن تتوزّع السّلطة داخل الدّولة بين ثلاث سلطات أحدها تتولّى التّشريع والثّانية التّنفيذ والثّالثة الفصل في المنازعات، على أن تستقلّ كلّ سلطة بمباشرة الوظيفة التي أسندها إليها الدستور، وليس لأيّ من السّلطات أن تباشر عملا يدخل في ولاية السّلطة الأخرى ما لم يوجد نصّ في الدّستور يقضي بخلاف ذلك.
 وهذه السّلطات الثّلاث إذ ينشئها الدّستور فإنّه هو أيضا الذي يحدّد لكلّ منها اختصاصاتها ويبيّن الأطر العامّة لولاية كلّ منها(1) .
ولمّا كان المؤسّس الدستوري هو من يحدّد في الدّولة قواعد الاختصاص فإنّه بذلك قد جعل موضوع تنظيم الحقوق والحريات والمسائل المتعلّقة بها أولى المواضيع التي يختصّ بها البرلمان حصرا(2)،  فالتّشريع البرلماني باعتباره صادرا عن الإرادة العامّة وتحت رقابة الرّأي العام لا يميل إلى الطّغيان وقهر الحرّيات ومصادرة الحقوق بأن يشكل حظرا أو تهديدا لهذه الحقوق والحرّيات، بل على العكس فإنّ هذه الأخيرة تجد في القانون ضمانة وحماية لها، إذ يعضدها ولا يهدرها. ومثل هذا التعبير عن الإرادة العامّة وحده الأقدر على تحقيق متطلّبات الحقوق والحرّيات في إطار من النّظام(3) .
إنّ المشرّع وإن كان في الفكر التّقليدي الحرّ لا يقهر الحرّيات، وأنّ القانون خير ضمان لها، فقد تغيّرت هذه النّظرة إلى القانون، وأصبحت أكثر واقعيّة بحيث أصبح ينظر إلى القانون على أنّه تعبير عن علاقات القوى داخل البرلمان أكثر من كونه تعبيرا عن الإرادة العامّة(4) . وفي هذا السّياق يقول أحدهم: « وإذا كان ما سبق قوله عن البرلمانات صحيحا-ويَقْصِد بها تمثيلها للإرادة العامّة- من النّاحية النّظريّة، فإنّه ليس صحيحا على إطلاقه من النّاحية العمليّة. إنّ هذا القول صحيح فقط بالنّسبة إلى البرلمانات في الدّول المتقدّمة العريقة في الدّيموقراطية. إنّ هذه البرلمانات لا تميل إلى التضييق على الحرّيات، لأنّها إفراز حقيقي للإرادة الشّعبية، لكن هل يصدّق هذا القول على البرلمانات في دول العالم الثالث؟»
ويضيف قائلا: «من وجهة نظر مجتمع غربي استقرّت في عقل ووجدان وضمير أفراده فكرة الدّيموقراطية، وصارت له مؤسّساته الدّستورية الرّاسخة، فإنّ كلّ مؤسّسة من هذه المؤسّسات تعي دورها تماما، ولا يمكنها لا دستوريّا ولا عمليّا أن تخرج عليه.
فإذا أطلق الدّستور في هذه المجتمعات حرّية ما وسلّمنا للسّلطة التّشريعية بتنظيم هذه الحرّية، فإنّ هذه السّلطة ستنظّم الحرّية بما يكفلها لا بما يقيدها. وإذا احتاج الأمر إلى تقييدها، فإنّ السّلطة التّشريعية لن تفعل ذلك إلاّ عند الضّرورة القصوى وفي الحدود التي تقتضيها هذه الضّرورة.
لكن هل يصدّق هذا على مجتمعات أخرى لم تتغلغل فيها بعد الدّيمقراطية، وما زالت السّلطة التنفيذية فيها أقوى؟ 
يجيب على السؤال والذي قبله بالقول: «إنّ هذه المجتمعات توجب في زعمنا احترام إطلاق النّص الدّستوري للحرّية احتراما لهذه الحرّية. أمّا إذا مكّنا السّلطة التّشريعية في المجتمع من تنظيم هذه الحرّية، وكانت هذه السّلطة تابعة للسّلطة التّنفيذية وهي غالبا ما تكون كذلك، فإنّ إهدار هذه الحرّية لصالح هذه السّلطة أمر وارد، بل أنّ هذا التّنظيم يتّخذ ذريعة للقضاء على هذه الحرّية أو على الأقل الانتقاص منها، وفي اعتقادنا أنّه في دول العالم الثالث عموما يختلف الأمر تماما. 
فالبرلمانات ليست إفرازا حقيقيا للإرادة الشّعبية، بل إنّها عادة ما تكون إفرازا فعليّا للسّلطة التّنفيذية، لذا فإنّه لا يتوقّع أن تكون مهمّة هذه البرلمانات دائما هي التّوفيق بين الحرّيات والصّالح العام المشترك. إنّ السّلطة التّشريعية في هذه الدول يمكن أن تكون وقت الحاجة يد السّلطة التّنفيذية في البطش بالحريات»(5) . 
لذا فإنّ القول بأنّه عندما يكون القانون أداة لتنظيم الحرّية يكون ذلك ضمانا للحرّية قول صحيح بالنّسبة لبعض الدول، خاطئ –والى حدّ كبير-بالنسبة لدول أخرى.
الهوامش
(1) عبد العزيز سالمان، رقابة الإغفال في القضاء الدستوري، مجلة الدستورية، تصدر عن المحكمة الدستورية العليا في مصر، عدد15.
(2) عبد الرحمان عزاوي، ضوابط توزيع الاختصاص بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، الجزء الاول، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، الجزائر، 2009،ص.161 .
(3)  لزرق حبشي، اثر سلطة التشريع وضماناتها، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، 2013،ص. 90 .
(4) حيث أصبح التشريع يصطبغ بصبغة الحزب الغالب في البرلمان. غير أن هذا لا يثنينا عن القول بأن البرلمان يبقى صاحب الاختصاص الأصيل في تنظيم الحقوق والحريات.  
(5) فاروق عبد البر، دور مجلس الدولة المصري في حماية الحقوق والحريات العامة، مطابع سجل العرب، الجزء الثالث، 1998، ص.184 وما بعدها.