قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الرهان الأول:المسألة الاجتماعية
 رفعت الثورة شعارات كبيرة وكثيرة ذات طابع اجتماعي كردّ فعل طبيعي على شعور غالبيّة الشّعب التّونسي بالغبن والتّهميش طوال العقدين المنصرمين على الأقل، وكان المأمول أن تتحوّل هذه الشّعارات الى برامج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والبدأ الفعلي في مقاومة كل الظواهر الاجتماعية المخيفة التي نجمت عن عقود الاستبداد.
(2)
لم تفقد الثورة جذوتها فهي تخبو حينا وتعاود التعبير عن نفسها حينا آخر حسب مقتضيات الواقع الجديد بكل تعقيداته السياسية والاجتماعية. وبغض النظر عن التعاطي الايديولوجي مع الحراك الاجتماعي فإنّ أشدّ النّاس قدرة على التّحليل لا يمكنه الجزم بمآلات هذا الحراك سلبا وايجابا ولا بمدى تأثيره في الواقعين السّياسي والاجتماعي .
إنّ كل التّحركات الاجتماعية التي تظهر بين حين وآخر ليست سوى تعبيرا عن حالة من السّخط والاحتقان التي تعتمل في صدور النّاس جرّاء ما يعانونه من جهة وجراء اليأس من التّغيير الذي أصبح أملا بعد الثّورة المباركة، غير أنّ هذه الاحتجاجات   العشوائيّة لايمكنها إحداث فارق ملموس في الواقع لجملة من الأسباب لعلّ من أهمّها غياب البدائل المطروحة وخضوعها لحسابات السّياسة والأحزاب والايديولوجيات المتصارعة.
(3)
يتوهّم الكثيرون أنّهم قادرون على كسب معركة التّغيير إذا أحسنوا إدارة اللّعبة السّياسية، أو إذا هم استطاعوا ترسيخ قدم الدّيموقراطية بغض النّظر عن مسائل مهمّة كمسألة الثّقافة أو مسألة الدّين أو المسألة الاجتماعية. وهؤلاء لا يدركون حجم ما يوقعون أنفسهم فيه من أخطاء سوف تصيبهم في مقتل على المدى البعيد والقريب على حدّ السّواء،إلاّ إذا كانوا يتوهّمون أنّ عودة القوّة للدّولة كفيلة وحدها بضبط المجتمع على الإيقاع الذي تريد، وهذا لا ينبئ بثورة جديدة على غرار الثورة الأولى وإنّما ينبئ بكارثة سوف تصيب الوطن كلّه جرّاء اليأس من الوسائل السّلمية في التّغيير .
وقد يتوّهم آخرون أنّ تأجيل الحسم في هذه المسائل الحيويّة كلّها أو بعضها سوف يتيح فسحة للتّعايش والتوافق يمكن البناء عليها في المستقبل بعد استقرار الأوضاع لإحداث التّغيير المطلوب تدريجيّا دون الدّخول في صراع مدمّر ودون إحداث أيّ هزّات كبرى قد تزيد الأوضاع تعقيدا، غير أنّ هذه الأوهام سوف تزيد الواقع تردّيا قد يصبح من الصّعب إصلاحه وقد تعفّنت الأوضاع.
(4)
لا أحد ينكر مثلا أنّ سنوات الاستبداد والقمع خلّفت واقعا اجتماعيّا صعبا لا تخطئه العين المجرّدة فضلا عن عين الباحث والعارف الذي يملك المعطيات الاحصائية وأدوات التّحليل والمرجعيّة الفكريّة التي منها ينطلق في مقاربة الواقع الاجتماعي المتردّي للمجتمع بغضّ النّظر عن انتماء هذه المرجعيّة لليسارأو لليمين. 
إنّ هذا الواقع الاجتماعي بدا لبعضنا غريبا وصعب التصديق بعد سنوات من ترويج الكذب عن المعجزة الاقتصادية الكبرى التي حقّقها النّظام السابق ولكنّنا نستطيع الآن أن نرصد ظواهرا مخيفة سوف يكون لها بالغ الأثر على حياتنا كشعب وعلى الدّولة كأداة لضبط الأوضاع وإصلاحها وكأداة لتنظيم المجتمع وتنميته الشّاملة. إنّ الفقر المتفشي في ربوع البلاد من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها والتفاوت الجهوي بين مدينة وأخرى وبين منطقة ومنطقة  كلّ هذا لم يعد خافيا على أحد وما زالنا نكتشف كلّ يوم بؤرا للفقر والحرمان وأناسا على الهامش لا يكادون يجدون القوت ويعيشون في ظروف مزرية لا تتيح لهم حتى الكفاف.
ليس الفقر وحده ما بات يخيفنا بل ظواهر أخرى أكثر حدّة وأصعب في المقاربة والحلول كظواهر البطالة، والانحراف، و التّسرب المدرسي، والجنوح والجريمة بكلّ أنواعها، والعزوف عن الزّواج والعنوسة، وتعاطي المخدّرات والكلفرة، والانتحار، والعنف اللّفظي، والطلاق وانحسار دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية السليمة، وغيرها من الظّواهر التي باتت تهدّد المجتمع بالتّفكك والانحلال .
(5)
إنّ هذه الظواهر الاجتماعية المخيفة ليست ظواهر مؤقتة أو نتيجة لظرفيّة سياسيّة أو اقتصادية عابرة ولكنها ظواهر تتفاقم باضطراد سنة بعد أخرى وكلّما تفاقمت ازدادت تعقيدا وانتشارا وبات من الصّعب إيجاد الحلول المناسبة لها. 
ولعل ما يزيد الأمر تعقيدا أنّ المنظومة القيمية السائدة ليس في مقدورها المساعدة على مقربة هذه الظواهر وتفكيكها وإيجاد الحلول المناسبة لها فهي منظومة محلّ تنازع بين تيارات فكريّة وسياسية واجتهادية متنازعة كلّ يدعي امتلاك الحقيقة والكلّ فيها يدافع عن نمط متخيّل للمجتمع والحياة يدافع عنه بشراسة من يدعي امتلاك الحقيقة لا بشراسة من يسعى نحو الحقّ والكمال .وهذه المنظومة القيمية ليست متوائمة مع القيم الحقيقيّة للمجتمع وإنّما في معظمها فرضت عليه من طرف السّلطة الحاكمة التي كانت تدّعي التّحديث وتتعالى عن المجتمع ولا ترى غظاظة في تخريب قيمه الأصيلة ما دام ذلك يحقّق أهدافها في السّيطرة عليه وإلحاقه قسرا بالمنظومة القيمية للغرب حتى غدا المجتمع منبتا، مفكّكا،خائر القوى، مسلوب الإرادة ينقاد إلى التفكّك من دون مقاومة.
(6)
إن معالجة الظّواهر الاجتماعيّة معالجة حقيقيّة تقي المجتمع من التّفكك والصدمات وتعيد له اللّحمة والفاعليّة لا يمكن أن تتمّ في مناخ يسعى فيه الجميع للاتّكال على الدّولة وتحميلها كلّ المسؤوليّة إن في التّشخيص وإن في المعالجة. وإنّه لمن الحيف أن تظلّ مقاربتنا للدّولة هي نفسها منذ الاستقلال وما قبله، دولة الرّعاية والإشراف، ودولة الوصاية والتّنمية ، هي من يخطّط وهي من يقارب و يشخّص وهي من يضع الحلول ويوجّه، وهي من يتحمّل المسؤولية في المعالجة على الرّغم من كونها هي من تسبّب في تنامي كلّ الظواهر الاجتماعيّة السّيئة بسياساتها ومنهجها في الحكم وبمنظومة القيم التي فرضتها على المجتمع.
إنّ الثّورة تعني التّغيير ولا تعني الاتكّال والرّعونة وهي كذلك فرصة سانحة لإعادة إنتاج القيم والوعي ضمن مناخ جديد ومن ثمّ فعلى الفاعلين جميعا داخل المجتمع يقع وزر التّغيير ودرء الخطر المحدق بالمجتمع من خلال المساهمة الفاعلة في القضاء على كلّ الظواهر الاجتماعيّة التي تهدّده وهذا لا يلغي دور الدّولة ولكنّه يجعل  لدورها حدودا ويضعها أمام مسؤولياتها.