القرآن والسماء

بقلم
نبيل غربال
الثوابت الفيزيائية والتقدير الإلهي (2-2)
 ماذا لو؟
رأينا أن نظريّة «الانفجار العظيم» وهي السّائدة الآن حول نشأة الكون تقول بأنّ هذا الأخير كان لحظة الخلق في حالة حارّة جدّا ومضغوطا في «حيز» أصغر بكثير من حجم الذرة الواحدة. «انفجرت» تلك الحالة معلنة انبثاق الكون وكان الانفجار مصحوبا بضخّ كمّية فائقة من الطّاقة في الكون الذي كان ذا حجم غاية في الصغر. بدأ الكون منذ ذلك الزّمن السّحيق بالتّمدد إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن.
كثافة المادة في بداية الكون
للكون إذا، عند الخلق، حجم صغير جدا و يحتوي كمية هائلة من الطاقة (مادة عادية، مادة مظلمة)، ومع الزمن برد الكون وتوزّعت تلك الطّاقة في شكل شبكة من الخيوط الكونيّة الرّقيقة قياسا إلى أبعاد الكون الخياليّة. تتشكّل مادّة تلك الخيوط من المادّة المظلمة أساسا ومن عناقيد المجرّات. تظهر تلك الخيوط نسيجا محبوكا بإحكام شديد وتمتدّ في انتظام مطرد على مسافات هائلة. يشكل ذلك النسيج المحبوك بدقّة فائقة البناء الكوني.  يميل ذلك البناء السّماوي إلى الانهيار على ذاته والرّجوع إلي «حالته» الأولى بفعل قوى الجذب ألثقالي التي أودعها الخالق في المادّة-الطّاقة والتي تعمل على تجميعها وتكديسها في نقطة لا أبعاد لها. ولكن وعلى امتداد عمر الكون لم يحصل ذلك الانهيار وذلك بفضل طاقة التّمدّد التي تعتبر خاصّية أساسيّة لكوننا باعتبار تزامنها مع انبثاق الكون من العدم إن لم تكن هي أصلا السّبب الذي أدّى إلى ظهوره. جعل ذلك التمدّد الفضاء الشبه خالي للكون أكثر فأكثر رحابة وأدّى إلى توسعه بوتيرة محدّدة. 
إنّ تاريخ الكون هو تاريخ لتوازن دقيق جدّا بين قوى الثّقالة التي تميل إلى تدميره بانسحاق عظيم والعودة به إلى الفناء وقوى التمدّد التي توسعه باستمرار. تمثل الطاقة التي يتمدّد بها الفضاء الآلية الفيزيائية التي بفضلها يرتفع البناء الكوني. وتجدر الإشارة هنا وربّما التّأكيد أيضا بأنّ السّماء بناء حقا. فالبناء لغة هو إقامة الشّيء بضمّ بعضه إلى بعض. والسّماء كما رأينا بناء لبناته الأساسيّة المجرّات مرفوعة بآلية التمدّد ومضمومة إلى بعضها البعض باسمنت خاصّ يسمى المادّة السّوداء. 
 فلو كانت الكثافة الأصليّة للمادة-الطاقة، أي نسبة مقدار محتوى الكون من المادة-الطاقة إلى حجمه، كبيرة لتوقّف توسّع الكون وتقلّص حجمه وانهار على نفسه واختفى بسرعة، إذ تبيّن النّماذج الحسابيّة أنّ عمر الكون كان يمكن أن لا يتعدّى مليون سنة أو قرن أو ساعة وهو عمر صغير جدّا لكي تستطيع الحياة الظهور. أمّا لو كانت تلك الكثافة صغيرة فلن يصبح بمقدور قوى الجذب ألثقالي تجميع الهيدروجين وتكوين النّجوم ممّا يعني استحالة بروز الحياة أيضا. فالحياة تتأسّس على عنصر الكربون أساسا وهذا العنصر لم يتولّد في الظروف الأوّلية لخلق الكون إذ لم تكن الحرارة كافية لذلك بل تطلب الأمر مئات الملايين من السّنين حتّى تنشأ النّجوم وتتولّد في باطنها العناصر الثّقيلة والتي من بينها الكربون. لقد تطلّب ظهور الإنسان 13.8 مليار سنة وهي مدّة تحدّدت منذ لحظة الخلق باعتبار أنّ التّطور الذي أعقب تلك اللّحظة تحكّمت في وتيرته تلك الكثافة التي كان مقدارها مضبوط بدقّة تحبس الأنفاس. دقة ضروريّة لتتوفّر الظروف الملائمة (الزّمن) لنشأة الإنسان. تحيلنا هذه الحقائق العلميّة وما تسعفنا به اللّغة العربيّة من معاني على الآية 8 من سورة الرّعد التي يقول فيها تعالى «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ». فالكون، وهو بالتعريف العلمي كل شيء، قد أبدعه الله بتحديد كثافته منذ لحظة الخلق بقدر واحد لا تتعدّاه لا بالزّيادة ولا بالنقصان أي بمقدار بالتعبير القرآني. وهذا الالتقاء بين حقيقة علميّة (مقدار كثافة الكون) وآية قرآنيّة (وكل شيء عنده بمقدار) في تقرير ظاهرة مادّية يجعل من الآية وكأنّها صيغت الآن وهي خاصّية يمكن أن تحدث صدفة مرّة أو مرّتين في نصّ من إنتاج بشريّ ما ولكن أن تحدث عشرات المرّات في القرآن الكريم، كما سنبين لاحقا في سلسلة المقالات التي سنكتبها عن القرآن والسّماء، فإنّ ذلك لا يمكن إلاّ أن يدفعنا إلى تدبّر الأمر. 
لم تتحدّد كثافة الكون باستقلال عن الطّاقة التي يتمدّد بها والتي اعتبرناها الأداة التي رفع بها البناء السّماوي. بل إنّ الدّقة التي يتكلّم عنها العلماء فيما يتعلّق بمقدار الكثافة بعلاقة جوهريّة بطاقة التمدّد. فلم يكن للكون أن يتطوّر بالشّكل الذي أدّى إلى ظهور الإنسان لو لم يكن هناك ضبط دقيق لمقدار الكثافة ومقدار طاقة التّوسع. وهنا لا ننسى أنّ الآية 8 من سورة الرعد «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ» متّصلة بالآية 2 من نفس السّورة «االلَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا»، كما أشار إلى ذلك بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير، أي أنّ السّياق القرآني للآيتين يسمح باعتبارهما يتكلّمان على نفس الظّاهرة وهي ظاهرة تحديد كثافة الكون منذ لحظة خلقه مع طاقة تمدّده التي بفضلها رفع البناء الكوني . 
وبالعودة إلى المعنى المعجمي الأصلي لكلمة قدر فإنّنا نجد في مقاييس اللّغة مثلا أنّ قدر الشيء هو مبلغه وكنهه وغايته أليس إذا قدر الكون أي كنهه وغايته ومبلغه هو أن يتطوّر على امتداد 13.8 مليار سنة لكي نكون هنا وإنّ ذلك لم يكن ممكنا لو لم يكن مقدار الكثافة ومقدار طاقة التمدّد قد ضبطا بالدّقة الضّرورية وذلك منذ اللحظة الأولى؟    
يمثّل مقدار الكثافة الكونيّة ثابتا من جملة حوالي عشرين ثابتا فيزيائيّا تتحدّد بها خصائص عالمنا ولا أحد يعرف لماذا تمتلك الثّوابت تلك المقادير والتي ضبطت بالدّقة المطلوبة لظهور الإنسان. ونعني بالدّقة أنّه لو تغيّر ولو بقدر صغير جدّا مقدار أحدها، فسيؤدّي إلى اختفاء العالم أو تغير معالمه جوهريّا. إنّ القوانين الفيزيائيّة التي تتحكّم في الكون مرتبطة بتلك المقادير الثّابتة والدقيقة إلى حدّ الكمال ممّا هيّأ الظّروف الملائمة لظهور الحياة. ولمزيد التّعرّف على الثّوابت الفيزيائيّة نذكر البعض منها مثل الشّحنة الكهربائيّة للبروتون والإلكترون ونسبة القوّة الكهرمغنطيسيّة لقوّة الجذب ألثّقالي.
الشحنة الكهربائية للبروتون و الإلكترون
لو كانت شحنتي البروتون والإلكترون مختلفة ولو بجزء من مائة ألف مليون جزء، فلن تكون حينئذ الذّرة محايدة الشّحنة (عدد الالكترونات مساو لعدد البروتونات في نواة الذّرة) ممّا يؤدّي إلى تنافرها بفعل القوّة الكهرمغنطيسية واستحالة ظهور الجزيئّات وبالتالي الأجسام المادّية. 
نسبة القوة الكهرمغنطيسية
لقوة الجذب ألثقالي.
لكي ندرك أهمية الدّقة التي ضبط بها مقدار القوّة الكهرمغنطيسية  وقوّة الجذب ألثقالي نتخيّل كونا جاذبيته الثقّالية أكبر من ثقالة كوننا بـ 10 أضعاف ممّا يعني أنّها أضعف من القوّة الك.م. بـ 1035 مرة وليس 1036 مرّة. في مثل هذا الكون ستكون النّجوم صغيرة جدّا ولن يتعدّى قطرها كيلومترين عوضا عن المليون وأربع مائة ألف كم للشّمس ولن تعمر أكثر من سنة عوضا عن 10 مليار سنة للشّمس. في هذا الكون تصبح الأجسام صغيرة والأحداث متسارعة. فالكواكب تصبح قريبة جدّا من الشّمس و تدور حول نفسها في ثانية. إنّ اختلاف بسيط في نسبة القوّتين ويتغير الكون جذريّا ممّا يعني استحالة ظهور الحياة. إنّ ظهورنا مرهون في اختلاف يقدّر بجزء من مليار مليار مليار مليار جزء بين مقداري القوتين الذين هما عليه الآن. 
ونختم بالقول أنّ العلم يكتشف القوانين ولا يفسّرها. ويقول أنّ تلك القوانين يمكن أن تتغيّر في كلّ لحظة إذ ليس هناك من سبب منطقي لكي تبقى على ما هي عليه الآن إلى الأبد. وهذا يعني ببساطة أنّ القدرة الإلهيّة التي حدّدت مقادير الثّوابت الفيزيائيّة لغاية ظهور الإنسان قادرة على إحداث تغيير بسيط جدّا جدّا في إحداها ليحدث انقلابا كونيّا في كلّ لحظة.
التقدير الإلهي 
رأينا كيف توصل العلم الحديث إلى أنّ الكون لم يكن في الحالة التي هو عليها الآن إلاّ بفضل الثّوابت الفيزيائيّة التي ضبطت مقاديرها منذ البداية. إنّ تحديد تلك المقادير بدقّة تقتضيها الغاية وهي خلق الإنسان في حيّز فضائيّ أصغر مليارات المرّات من رأس «دبّوس» وفي حالة حرارة لا يمكن تخيّلها، فعل يمكن نسبته وبدون أيّ تردّد إلى خالق مطلق قادر على ذلك.
قال لنا الخالق «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ» أي بحدّ لا يتجاوزه ولا يقصر عنه وهو ما تدعّمه لنا الثّوابت الفيزيائيّة. و لكن من يريد نسبة وجوده إلى الصدفة و لا يرى في التقدير الدقيق لقيم الثوابت الفيزيائية و جمال الكون و نظامه البديع و  تناغمه إلا حادثا عرضيا انبثق من مرجل من العبث فهؤلاء موجودون كما يخبرنا الخالق نفسه سبحانه «ما قدروا الله حق قدره» (الآية 67 من سورة الزمر 39)  أي ما عظموا الله حق تعظيمه كما جاء في «الصحاح في اللغة». و تلك قصة ادم و أبناءه إلى يومنا هذا.فمنهم من يعظم الخالق و منهم من حتى لو يتجلى له الله سبحانه فلا يؤمن به و لنا في زعيمهم إبليس خير مثال على ذلك..