نبش في التاريخ

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تاريخ البلاهة
 عن «تيران» و«صنافير» أتحدث، أتذكّر،أحلم، أتألّم، أنزف، أعطيت مقالي عنوانا غريبا نسبيّا وهو «تاريخ البلاهة» لأنّ ذلك يؤرّخ لعصر إنتاج البلاهة وسيادة التّفاهة وفشوّ الغباء وتوزيع الجهل الذي يراد لنا أن ننزل بساحته بل نحياه بكليتنا بأن نتنازل إن طوعا أو كرها عن جزء غال وعزيز من جغرافيا وتاريخ الوطن والتي هي أعزّ من جغرافيا وتاريخ الجسد الفردي، فجغرافيا الوطن هي تفاصيل الجسد الجمعي وتاريخه تفاصيل الذّاكرة الجمعيّة للأمّة، والتى كتبت ملاحمه بدماء المخلصين وآهات الثكالى والأرامل وأنات الأطفال اليتامي، ويتصرف فيه العملاء كأنّه التركة التي ورثوها عن ذويهم. وكأنّ الأوطان صارت منازل تستبدل بحفنة نقود بحثا عن منزل أرحب أو فندق تنتهي إقامتك فيه بنهاية حجزك له. يا سادة من يبتاع منزلا لايشتري تاريخ ساكنيه، لكن وفي نفس الوقت حين يتحوّل البائع إلى مسكن آخر يظلّ جزءً عظيما من تاريخه لا ينفك عن إحداثيات ذلك المسكن المبتاع من هذا الكون العظيم.

 نزل الإنسان إلي الأرض ولم يكن في يديه صكّ بملكية أي بقعة منها، لكنه في الوقت نفسه كان يشعر بوجود ميثاق بداخله أنّ هذه الأرض كلّها سخّرت له وأنّه مالكها بالفعل، أنّه منها وهي منه. ولفض النّزاع بين بني البشر كان لابدّ من وجود قانون يحمي الإنسان من بطش أخيه الإنسان، فلم يكن ثمّة إلا قانون الإحياء، فالأرض لمن يحييها «من أحيا أرضا بوارا فهي له» [1] وليس الإحياء هو الزّراعة فقط كما يتوهّم البعض بل هو عنوان عام لكلّ مظهر من مظاهر الحياة، يبدأ تاريخ الإحياء من بسط السّيطرة الحقيقيّة بالسّيادة ومن ثمّ الحماية المتواصلة بدماء المخلصين ومدّ العمران إليها بأيدي علمائها وعمالها وإقامة المجتمعات فيها لكي تبدأ فيها مظاهر الحياة.لكن بلاهة الإنسان تمثّلت في زعيمهم التاريخي الأكبر «قابيل» حين أراد إلى جانب ملكيته للأرض أن يتملّك الإنسان أيضا (أخته والتي كانت ستكون عروسا لأخيه هابيل) رافضا شريعة خالقه. يناظر ذلك في العصر الحديث تملّك الإنسان لأخيه الإنسان بسطوة المال تحت مسميات جديدة لكنّها تمثّل جوهر جوهر استعباد البشر لبني البشر، فما بالكم بالأبله الأصغر وقد أراد أن يتملّك شعبه ويمنعهم من التّفكير وألاّ يتكلموا في الموضوعات التي يعلن هو فيها حظر الكلام وألاّ يسألوا غيره وليس في ذلك عجب فإنّ كل ديكتاتور يستمدّ سطوته وبطشه من «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» (سورة الزخرف - الآية 54). قال ابن الأعرابي المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه لخفّة أحلامهم وقلّة عقولهم، وكأنّ هناك علاقة بين الفسق وبين خفّة العقل، استخفّهم لأنّهم كانوا فاسقين [2]. ولكنّ العجب في الذين يستمعون إلى بلاهته فيصدّقوه. وفي الحقيقة فإنّ هذا كلّه هو السّمة الرئيسيّة لعصر الحداثة، فأسوأ إفرازات عصر تكنولوجيا المعلومات والإتصال الذي نعيشه، هو بثّ ثقافة هشّة ومنمّطة وموحّدة تعلي قيم المنفعة والرّبح وتميت قيم التّأمل والإبداع والنّقد والتّحليل داخل الإنسان، تنعكس على سلوكيات وتصرفات الأفراد وعلاقاتهم. حتى صدق فريق منّا كنّا نظنّهم من العقلاء لأخبار البلاهة المطلقة مثل أسر قائد الأسطول السّادس، ووجود كرة أرضيّة تحت رابعة، و«ادينا حقّ الناس ليهم. مبناخدش أرض حد»... اللّواء عبد المنعم سعيد رئيس عمليات الجيش المصري الأسبق «الجزيرتان مصريتان مفيش كلام» وبعد أربع وعشرين ساعة «الجزيرتان سعوديتان مفيش كلام» ... إلى آخر هذه الأخبار التي تؤسّس لتاريخ البلاهة والتي ينبغي مقاومتها بكلّ السّبل كما أكد جيل دولوز[3]. يقول ديوجين «ما لديه من عظيم يظهره» أما عصر البلاهة فعنوانه «من كان لديه سفه فليظهره» وسوف نصفّق له وسوف نحشد له من الأدلّة ما يؤيّده. من ذلك السّفه بيع الأوطان في الظّلام وإعلان حظر الكلام بل ووجوب النّسيان وتحويل الإنسان إلى ما هو أقلّ من الكائنات الأوّلية البسيطة يستقبل فقط ولا يرسل، عليك أن تسمع فقط بل ولكائن واحد فقط. ولم يكن هذا الوطن إرث من خلفه -إن كنا ندري حقّا من خلفه- الوطن ليس ترابا وإن كان تراب، ففي هذا التراب ذرّات أجساد الأجداد الذين رووه بالدّم، أنفاس كفاحهم، تطلّعاتهم إلى تحريره، آمالهم في ازدهاره، تأمّلاتهم في قمره وسحابه، في صخوره ورماله، في بحره وشعابه حتى وإن لم يروه، يكفيهم في ذلك القصص. ووالله لقد قال لي مشرفي على الدكتوراه وأنا في براغ –جمهورية التشيك أتحبّ أن تقيم هنا ولا تذهب لبلدك فرددت عليه فورا «إنّ أقذر مكان في بلاد المسلمين أفضل كثيرا عندي من الإقامة هنا» وقد كانت جنّة أرضيّة مادّية بالفعل. لكنّي تذكّرت على الفور أنّ الأسماك تستطيع أن تعيش في الماء القذر «لأنّه أوطانها وإن تلوّثت الأوطان» ولا تستطيع العيش في بحر من أرقي العطور «لأنّه ببساطة ليس الوطن وإن تعطّر»  وكما قال أمير مكّة الشّريف قتاده أبوعزيز،بلادي وإن جارت عليّ عزيزة      ..                      وأهلي وإن ضنّوا على كرامُ ولم تكن مكّة بالبلدة التي يطمح أيّ إنسان أن يعيش بها إن لم يكن بها البيت الحرام، فالجو والطبيعة في أشدّ درجات القساوة ومع ذلك قال النّبي صلي الله عليه وسلم «والله إنّك لأحب بلاد الله إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» وقد كنت في موسم الحج أتأمّل في مكة وأقول لنفسي «إن الله على كلّ شئ قدير»، لقد كان الله عزّ وجل قادرا على أن يجعل مكّة هذه أنهارا من عسل ولبن غير آسن وشلاّلات ماء تجري هنا وهناك وطيور تصدح على الأغصان في كلّ مكان وحدائق وارفة الظّلال تظلّل حاضرة البيت الحرام وأجواء معتدلة طوال العام. فلماذا تركها على هذه القساوة؟ والإجابة التي كانت تتبادر إلى ذهني -وربّما كنت قد أبعدت الشّقة- أنّ الله يجرّد التّوحيد له فربّما أتى النّاس للحجّ من أجل السّياحة والاستمتاع بذلك كلّه أو بعضه لكنّه التّوحيد. ومع ذلك ظل أهل مكة يرتبطون بها وكذلك أهل كلّ محلّة يرتبطون بترابها. بل وجعل الله عز وجلّ الخروج من الوطن قرينا لقتل النّفس وإزهاقها والخروج من الحياة، «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66- النساء)» وجعل الموت دونه شهادة (من قتل دون أرضه فهو شهيد). محاربة البلاهة بسطور من التاريخأعود إلى صلب المقال وسأستعين بالله عزّ وجل أولا ثم بما أثبته التّاريخ في طياته، فلست مؤرخا وإن كان حاضري ومستقبلي مرتبط بحبل سرّي بهذا التّاريخ، وليس لي فيه كثير ولا قليل اللهم إلا الجمع من مصادر شتّى ومن ثمّ التّرتيب والصّياغة في بعض الفقرات وآمل أن نقرأه بأناة وصبر فهو استكشاف لمناطق مجهولة في تاريخنا الملغم والملغز في آن واحد.(1) في عام 1840م اجتمعت الدّول الكبرى واتّفقت على وقف توسّع دولة «محمد علي باشا الكبير» في الإقليم، وتمّ تحديد حدود الدّولة المصريّة بحدودها الحاليّة، بالإضافة إلى جزء من السّودان، وجزء من إقليم برقة (في ليبيا حاليًا)، وإقليم الحجاز بالكامل حتّى جنوب شبه الجزيرة العربيّة، وبلاد الشّام، حتّى شمال سوريا، بما في ذلك فلسطين والأردن ولبنان الحالية، بالإضافة إلى قبرص، على النّحو الذي تبينه الخريطة التالية (الجزء الملون باللون الأحمر).
(2) في 18 أبريل 1892 م أراد «عباس حلمي» خديو مصر استصدار فرمان من الصدر الأعظم يعترف بولايته على مصر فرفض السّلطان العثماني ذلك حتى تتنازل مصر عن الجزء الشّرقي لخليج العقبة والبحر الأحمر، لتستقرّ حدود مصر الشّرقية عند الشّاطئ الشّرقي للبحر الأحمر وخليج العقبة (أي أنّ البحر الأحمر بشاطئيه  قبالة مصر كان بحيرة مصرية خالصا لمصر حتى 18 أبريل  1892).(3) ظلّ هذا الوضع قائمًا حتّى الاحتلال البريطاني لمصر؛ حيث أصبحت حدود مصر، بحكم الأمر الواقع، تشمل مصر والسّودان بالكامل، فقط بعد احتلال بريطانيا لكامل السّودان، بعد حادثة «فاشودة» الشهيرةعام 1898م والتي انتهت بهزيمة فرنسا أمام بريطانيا، وسيطرت بموجبها الأخيرة على السّودان. وبذلك فتحت بريطانيا الطريق للدرة التّاج البريطاني «المستعمرات الهندية». العجيب أنّ بريطانيا أنشأت سكك حديد مصر عام 1850 أي قبل احتلالها لمصر بأكثر من ثلاثين عام وذلك عن طريق نفوذها داخل الدّولة العثمانية آنذاك، وكأنّها كانت تمهّد خارطة الأراضي المصريّة لغزوها، في الوقت الذي كانت تطمح فرنسا لذلك وافتتحت قناة السّويس عام 1869م. وأنشأت بريطانيا أول كابل بحري للتليغراف عام 1871  قبل الغزو بإحدى عشر عاما، يربط هذا الخطّ بين البحرين الأحمر والمتوسّط من أبو تلات للزعفرانة. أثار ذلك كلّه حفيظة الدّول الأوروبيّة ممّا  دفعها لعقد مؤتمر 1885 لتتقاسم إفريقيا وعدم تركها بالكليّة لبريطانيا. في الوقت ذاته ولتحجيم توغّل بريطانيا في إفريقيا تسبّب «بسمارك» رئيس وزراء ألمانيا الموالي بل والمسيطر على الدولة العثمانية في أزمة ديون مع مصر والتي انتهت باحتلال مصر أي أنّ الرّابح من هذه الأزمة كانت بريطانيا. فكّرت الدّولة العثمانية بعد ذلك للوصول للمياه الدّافئة في الخليج العربي دون الحاجة للمرور عبر قناة السويس «وهنا مربط الفرس»  فأنشأت الدّولة العثمانية أو بالأحرى ألمانيا سكّة حديد بغداد (من اسطنبول للبصرة) وأنشأت أيضا سكّة حديد الحجاز (من اسطنبول للمدينة المنورة والهدف العقبة) - وكان الممول البنك الألماني  والمنفّذين المهندسين الألمان لعلّهم يجدون موطأ قدم لهم في هذه المنطقة الغنيّة جدّا بالكنوز- وهو الخطّ الذي منع من إنشائه من قبل الجيش البريطاني ممّا أثار أزمة حدوديّة بشأن حدود مصر واستدعى ترسيم حدود مصر الشّرقية مع الدّولة العثمانية في عام 1906م. عرفت بعد ذلك بأزمة «طابا».(4) وفي الفاتح من أكتوبر عام 1906م، على إثر أزمة «طابا» أرادت الدّولة العثمانية سلخ العقبة (في الأردن حاليًا) وأمّ الرّشراش (إيلات حاليًا) رغم أنّهما ضمن الأراضي المصريّة بموجب اتفاقيّة العام 1840م. ومن ثمّ تمّ ترسيم حدود مصر البحريّة في تلك المنطقة من جديد، وتمّ التّوقيع على الاتفاقية المعروفة باتفاقية عام 1906م، بين مصر (أو بمعنىً أدقّ دولة الاحتلال البريطاني في ذلك الحين ممثّلة عنها وقد كان الوفد كلّه من البريطانيين)، وبين الدّولة العثمانيّة (ووفدها كلّه كان من الألمان)، ومصر في ذلك الحين دولة قائمة سياسيًّا وقانونيًّا، ولها إقليم معترف بسيادتها عليه دوليًّا، بعد أزمة طابا الأولى؛ حيث تمّ وضع خطّ الحدود بين مصر وإقليم فلسطين في ذلك الوقت، شرق طابا، وغرب أم الرّشراش التي تحولت إلى إيلات بعد نكبة العام 1948م، وفي الشّمال كان قطاع غزّة ضمن الأراضي المصريّة.(5) وبموجب موافقة شعبيّة ضمنيّة، تخوفًا من المصريين من أن تستغلّ بريطانيا الموقف لاحتلال فلسطين والحجاز، استولى الجيش العثماني على العقبة وطابا، وسط أزمة مع بريطانيا، أفضت إلى أن يوافق الطرفان على تواجد قوّة مصرية في طابا، باعتبار أنّ مصر في الأساس جزء من الدّولة العثمانية، حتّى بموجب اتفاقية 1840م، والتي منحت مصر ومحمد علي ونسله وضعية سياسيّة خاصّة، ولكن في إطار السّيادة العثمانية. وبموجب هذه الاتفاقية؛ فإن «تيران» و«صنافير» و«أم الرشراش»، دخلتا نطاق السّيادة المصريّة، فيما تمّ فصل العقبة والسّاحل الآسيوي لخليج العقبة عن السّيادة المصريّة.(6) في تلك الفترة التّاريخية، وقبل اتفاقية «سايكس – بيكو»، 1916م؛ فإنّه لم يكن هناك أيّة كيانات باسم: الأردن، أو حتّى إمارة شرق الأردن، أو السّعودية، أو المملكة العربية السّعودية. ولم يصدر أيّ موقف عمّا كان يُعرف وقتها بـ«إمارة جبل شمر»، أي تعقيب على الأمر، باعتبار أنّ حدودهم تقف عند الحدود الشّرقية لإقليم الحجاز.(7) واستمر هذا الوضع خلال السّنوات التالية مرورًا بالحرب العالمية الأولى والتي أعلنت فيها بريطانيا الحماية على مصر في بدايتها عام 1914م، ثم احتلّت فلسطين في نهايتها عام 1918م مرورًا باتفاقية «سايكس-بيكو» عام 1916م، التي قسَّمت المشرق العربي ومصر إلى مناطق نفوذ بين روسيا وفرنسا وبريطانيا، ولم تلبث روسيا أن تركت مجالها الحيوي فيها، بعد الثورة البلشفيّة عام 1917م.(8) وعلى الرّغم من ظهور كيانات جديدة مثل إمارة شرق الأردن، ومساعي الشّريف حسين لتأسيس دولة عربيّة كبرى في نجد والحجاز، لم يكن هناك أي خلاف بين مصر وبين حُكَّام شبه الجزيرة العربية، على الجزيرتَيْن.(9) نصل إلى نقطة الافتراق، وهي عام 1926م، عندما ظهر كيان جديد باسم «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها»، بعد أن قامت سلطنة نجد وملحقاتها التي أسسها «عبد العزيز آل سعود»، بضمّ مملكة الحجاز أو إقليم الحجاز؛ حيث تم تنصيبه ملكًا على الحجاز، في الحرم المكي، يوم 8 جانفي/ يناير من العام 1926م، ثم غير مسمَّى الدولة الجديدة، يوم 29 جانفي/ يناير من العام 1927م، أعلن نفسه ملكاً على نجد أيضًا بدلاً من لقب السلطان، بعد معاهدة «جدّة» بين مملكة نجد والحجاز وملحقاتها، وبين بريطانيا في العام 1927م، واعترفت فيها بريطانيا بعبد العزيز ملكًا على الكيان الجديد المسمى بـ «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها».(10) في فبراير من العام 1949م، وقعت الحكومة المصرية اتفاقية «هدنة رودس»، مع الدولة العبرية، وتضمن خط الهدنة، يتضمن حدود اتفاقية العام 1906م، عدا قطاع غزة.(11) وفي عام 1950م، طالب الملك عبد العزيز آل سعود بالجزيرتَيْن وكانتا تحت الإدارة المصرية، ولكن مصر رفضت، ولم تتحرك السعودية لعدم وجود سلاح بحرية آنذاك لديها، لحماية الجزيرتَيْن خلال سنوات الحرب مع إسرائيل.(12) وفي عام 1951م، أعلنت الحكومة المصرية أن الجزيرتَىْن «جزر مصريّة ولابدّ من إخطار مصر قبل العبور منها»، وذلك لأنّها حظرت مرور السّفن الإسرائيلية فيها، ووضع الملك فاروق على جزيرة «تيران» مدفعية مضادّة للصواريخ وفي 1953م احتجزت السّلطات المصريّة سفينة تجارية «باب جاليم» للتفتيش فوجدت طاقمها عبارة عن كوماندوز اسرائيلي تابع لفرقة شايتد 13 الإسرائيلية فاحتجزتهم مصر لأكثر من شهرين. وظلّ هذا الوضع قائمًا حتى العام 1957م، حيث أدت أحداث العدوان الثّلاثي إلى فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيليّة.(13) تصنع الجزيرتَيْن ثلاث ممرّات ملاحية من وإلى خليج العقبة، الأول منها يقع بين ساحل سيناء وجزيرة «تيران»، ولكنّه أقرب إلى ساحل سيناء، وهو الأصلح للملاحة ويبلغ عمقه 290 مترًا، ويسمى بممر «إنتربرايز»، والثانى يقع أيضًا بين ساحل سيناء وجزيرة «تيران»، ولكن أقرب إلى الجزيرة، ويسمى بممر «جرافتون»، ويبلغ عمقه 73 مترًا، في حين يقع الثالث بين جزيرتَيْ تيران وصنافير، ويبلغ عمقه 16 مترًا فقط، وهو غير صالح للملاحة بالإطلاق.(14) في عام 1954م، توجهت مصر إلى الأمم المتحدة بوثائق تتعلق باتفاقية العام 1906م، وبما يثبت وجود قوات مصرية في «تيران» و«صنافير» منذ الحرب العالمية الثانية.(15) في عام 1955م نصبت مصر مدفعية ثقيلة في رأس نصراني بالقرب من رأس محمد وهي أقرب نقطة لمضيق «تيران» لقصف أيّ سفينة لا تخضع لشروط التفتيش.(16) في يناير 1956 م  توصّلت القيادة الإسرائيلية إلى أنّه لاسبيل  لتأمين للملاحة في خليج العقبة من وإلي «إيلات» وربطها بالعالم إلّا باحتلال «تيران» و«شرم الشيخ». فنفّذت أوّل عمليّة مشتركة بين الفروع الثّلاثة للجيش الإسرائيلي لاحتلال ضفتي مضيق «تيران» سمّيت بعملية يركون «العفن» ونزلت القوات البرّية بحذاء السّاحل الشرقي لخليج العقبة وفي الأراضي السّعودية حتى نزلت بالقرب من «صنافير» و«تيران» واحتلّتهما واحتلت «شرم الشيخ» لمدّة ثلاثة أيّام كاملة ولم تعلم مصر ولا السّعودية بذلك. (17) في العدوان الثلاثي سبتمبرعام 1956م احتلت إسرائيل الجزيرتَيْن «ضمن احتلالها لشبه سيناء» – وهو ملحظ مهمّ للغاية؛ حيث إنّه في كلّ مرات احتلال إسرائيل لسيناء؛ كانت تحتل الجزيرتَيْن. ولم تعلن المملكة أنّ لها أرضا محتلة.(18) وفي مارس من العام 1957م، انسحبت إسرائيل «من سيناء وجزيرتَيْ «تيران» و«صنافير» بعد الاتفاق على وجود قوات حفظ سلام دولية فيها لضمان حرّية الملاحة في مضيق تيران وخليج العقبة، وأقرّت الأمم المتّحدة بذلك ضمنًا بمصريّة الجزيرتَيْن، ولكنّها لم ترد على مذكرة سعودية اعترضت فيها الرّياض على ذلك. ووقّعت مصر على اتفاقيّة البحار، التي تلزم مصر بحرّية الملاحة للسّفن الإسرائيلية في خليج العقبة.(19) في حرب النكسة عام 1967م، أكملت إسرائيل احتلال سيناء باحتلال جزيرتَيْ «تيران» و«صنافير». (20) في عام 1982م، وبعد استعادة مصر لكامل تراب سيناء عدا طابا، أصدر وزير الداخلية في ذلك الحين، اللواء حسن أبو باشا، قرارًا برقم 422 لسنة 1982م بإنشاء نقطة شرطة مستديمة في جزيرة «تيران» تتبع قسم شرطة «سانت كاترين» بمحافظة جنوب سيناء ويشمل اختصاصها جزيرتَيْ «تيران» و«صنافير» (نص القرار من الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية» في الصورة)
(21) وقع الجانبان المصري والإسرائيلي عقب حرب أكتوبر عام 1973، معاهدة «كامب ديفيد» عام 1978، ووفقا للمعاهدة خضعت الجزيرتان لسيطرة قوات دوليّة متعدّدة الجنسيات «قوات رانجرز الجيش الأمريكي مع تواجد طفيف للشّرطة المصرية». وتمّ وضع قوّة مراقبة للتّأكد من امتثال مصر وإسرائيل للأحكام الأمنيّة الواردة في اتفاقية السّلام والمتعلقة بفتح خليج «تيران».(22) وضعت الجزيرتان ضمن المنطقة “ج” المدنيّة، التي لا يحقّ لمصر تواجد عسكري فيها مطلقًا، لكن ذلك لا ينفي أنّها تمارس سيادتها على هاتين الجزيرتين، وبالتالي الدولة السعودية التي قامت في 1926، لم تعترض على نصّ المعاهدة الذي تضع الجزيرتين تحت السيادة المصرية.(23) وفي العام  1983م، تم إعلان الجزيرتَيْن ومنطقة رأس محمد، الحدّ الجنوبي للخطّ الفاصل بين المنطقتَيْن (ب) و(ج) في البروتوكول العسكري لاتفاقية السّلام، كمحميات طبيعيّة، تابعة للدّولة المصرية.(24) في العام 1990م، صدر القرار الجمهوري رقم (27) لسنة 1990م، بشأن خطوط الأساس لتعيين الحدود البحريّة لمصر، وضعت الجزيرتَيْن في الحيازة المصريّة. ولذلك لم تعقب مصر مباشرةً على خريطة رسمية سعودية، صدرت في 1989م، تظهِر الجزيرتَيْن ضمن الأراضي السّعودية(25) هذه هي باختصار قصة «تيران» و«صنافير»، فما تلا ذلك معروف في كلّ الأوساط، ففي العام 2010م، أصدرت المملكة مرسومًا لتحديد خطوط الأساس البحريّة لها في البحر الأحمر وخليج العقبة، وفي الخليج العربي، تضمن السيادة على الجزيرتَيْن. وعلى إثر ذلك قامت القاهرة بإصدار إعلان، وضعته لدى الأمم المتحدة، ذكرت فيه أن خطوط الأساس المذكورة في المرسوم الملكي الذي صدر عن الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود في ذلك الوقت، في المناطق المقابلة للساحل المصري، في مياه البحر الأحمر، شمال خط عرض 22 الذي يمثل الحدود الجنوبية لمصر، «لا يمس أو يغير في الموقف المصري في المباحثات الجارية مع الجانب السعودي لتعيين الحدود البحرية بين البلدَيْن».(26)أما مطالبة المملكة العربية السعودية فتستند على الحقيقة التاريخيّة التي أوردها  المقريزي؛ حيث إنّه في خططه ذكر كلاّ الجزيرتَيْن أنهما تابعتان للحجاز، وبالتالي؛ فإنّ تبعيتهما أو السيادة عليهما، تكون لمن يتبعه الإقليم، والإقليم منذ العام 1926م، يخص «مملكة نجد والحجاز وملحقاتها»، قبل أن تصبح المملكة العربية السّعودية، في العام 1932م. لكن اتفاقية 1906م، وضعت الجزيرتَيْن في حيازة الإقليم المصري في حينه، ووفق قواعد القانون الدولي فإن الاتفاقية أقوى من الثّوابت التاريخية، وبالتالي؛ فالجزيرتَيْن مصريتَيْن قانونًا.(27) وبخصوص اعتراف الحكومة المصرية مؤخرا بتبعية الجزيرتَيْن للمملكة فهو يبقي اعتراف حكومة لا اعتراف شعب خاض الحروب ليحرّر وطنه من أيدي مغتصبيه. وإنّ الذى عجل بتوقيع الاتفاقية  هذه الأيام  هو طلب أمريكا إجلاء وسحب قواتها من «تيران» بعد انسحاب القوات الكنديّة والخوف من أنّ تنظيم «داعش» آخذ فى تطوير سلاحه وعدوانه على المنطقة بدون وجود أمريكى ومصر تسيطر على خليج العقبة - شرم الشيخ وتيران وصنافير فليس لأمريكا حجة فى التّدخل إلاّ اذا كان  الموضوع دوليّا ومن هنا جاءت فكرة التّعجيل بجعل السعودية مسيطرة على الجزيرتين فيصبح الأمر بالتّالى دوليا فى الخليج وهنا تجد أمريكا حجّة قويّة للتّدخل خاصّة وأنّ «داعش» وصلت الى شمال سيناء والعريش والشيخ زويد فتساعد مصر فى القضاء نهائيّا على كل بؤر الإرهاب فى سيناء.(28) نشرت  الصحف العبرية  في 2013، نصّ انهاء حكومة الاحتلال إجراء قرض من البنوك الأمريكية بقيمة 14 مليار دولار بفائدة سنوية 1 % فقط، من أجل إنشاء قناة بن غوروين الملاحيّة، والتى وصفت بأنّها تتمتع بصفات أعلى وأكبر من قناة السّويس المصريّة، وتبدأ القناة من ميناء «إيلات» على البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، وقالوا أيضًا عن القناة التى يرجح الانتهاء منها فى نهاية العام الحالى أو بداية العام المقبل (2016/2017) لتكون المركز الملاحى الرّئيسى فى الشرق الأوسط مع التأكيد أنّها تأخذ نفس مساحة قناة السّويس المصرية مع الفارق أن قناة «بن غوريون» ستكون ذات مسلك واحد أى أنّ السفن التجارية تستطيع الدخول والخروج فى نفس اليوم لا أن تنتظر أياما كما يحدث فى قناة السويس، لكن هناك مشكلة كبيرة تعوق إتمام ذلك، وهى أنّ المدخل الوحيد لخليج العقبة والصالح للملاحة البحريّة هو بين جزيرة تيران المصرية والسّاحل الشرقى لمحافظة جنوب سيناء المصرية. أى داخل المياه الإقليميّة المصرية وستصبح مصر هى المتحكّم فى الممر لأنّه داخل مياهها الإقليميّة ويمكن أن تغلقة أو تفرض أيّ رسوم مالية عليه لأنّه يقع داخل حدودها. وبتنازل مصر عن الجزيرتين يصبح الممر المائى بين جنوب سيناء وتيران، مياهًا دولية لا يحقّ لأيّ أحد كائنا من كان التّحكم فيه بأيّ شكل كان. أي أنّ التنازل عن الجزيرتين يُعد تنازلا عن أهم مورد أساسى للبلاد فى الوقت الحالى وهو قناة السويس، وستفقد مصر بذلك أهميتها الاستراتيجية على أهم معبر مائى عالمى، فالكيان الصهيونى هو أكثر الرابحين من ذلك التنازل. وخصوصا أنّ إسرائيل ومباشرة بعد حرب 1967م وبالتحديد في أوت/ أغسطس قامت بمدّ خط لنقل البترول من «إيلات» لمدينة «حيفا» وكان مخططا أن تزداد سعته لنقل مليون برميل يوميا والذي كان يستخدمه للنّقل من البحر الأحمر للبحر الأبيض شركة بترول إيرانيّة في عهد الشّاه في حين رفضت باقي الشركات العالمية استخدامه خوفا من الاضرار بحجم مصالحها في الوطن العربي، وكانت إسرائيل -حسب وثائق الخارجية الأمريكية- تعلن أنّ الغرض من أنبوب النقل ليس المكسب التجاري ولكن التّقليل من أهمية مصر علي السّاحة الدولية من وجود قناة السويس، حيث تكمن مشكلة «تيران» و«صنافير». (29) تمّ ترسيم الحدود بطول السّاحل المشترك بين مصر والسّعودية البالغ حوالي ألف كيلومتر (والحدث الجلل الذي يتحدّث عنه النّاس حوالي من خمسة لعشرة كيلومترات فقط الواقع فيه الجزيرتين) وربّما كان في بقية الترسيم أشياء أكثر خطورة من موضوع الجزيرتين. على سبيل المثال في عام 2012 م أعلنت السّعودية عن اكتشاف حقل للغاز الطبيعي في البحر الأحمر أسمته حقل «شعور» وحسب الإحداثيات المعلنة فالحقل يقع في المياه السّعودية بالقرب من مدينة الوجه السّعودية ولكن بمراجعة وبفحص خرائط قاع البحر وجدت أن هناك أعمال تنقيب تمّت على بعد كيلومترات قليلة جدّا من جزيرة «شدوان» المصرية نظيرة «تيران» على خليج السّويس وهي بعيدة تماما عن الحدود السّعودية، وأنّ شركة «إكسون موبيل» (أكبر شركة في العالم للتنقيب عن الغاز، واقتصاد هذه الشّركة وحدها يقترب من اقتصاد الوطن العربي تقريبا) هي التي ستتولّى التنقيب واستخراج الغاز من البحر الأحمر. (30) نختم بنقطة هامّة جدّا أثارها بعض خبراء التّرسيم البحري تخصّ التشكيك في خطوط الأساس لترسيم شبه جزيرة سيناء وانفصالها عن ساحل محافظة البحر الأحمر والصّحراء الشّرقية وأنّهما تمّ تعيينهما عند نقطتي مدّ وليس عند نقطتي جزر وأنّهما لا يتلامسان ولا يوجد عندهما فنارات وبالتّالي فخليج السّويس خليج دولي. (إنظر الخريطة الموالية).

الهوامش[1]   قول للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، صحيح البخاري، كتاب المزارعة ، باب من أحيا أرضا مواتا.[2] محمد راتب النابلسي، التفسيرالمطول، سورة الزخرف، 043، الدرس (7-9): تفسيرالآيات 57-66، 1994.[3] جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1993، لبنان، ص137.