تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
لم تنفلت ناعورة الهواء
 وقفت أتأمل ناعورة الهواء مستحضرا الفارس المهووس «دون كيشوت» بطل إحدى روائع الأدب العالمي، عندما راح الفارس الحالم يقاتل كلّ من اعترضه وخالفه الرّأي وعارضه. ها هو تحت خوذة مميّزة كما صوره بعض المبدعين وقد ركب حصاناً هزيلاً يصارع ناعورة الهواء متسلّحا برمح وسيف ومدرّعا بالقديم ممّا خلّفه له أسلافه. حارب «دون كيشوت» بسيفه ورمحه أشرعة ناعورة الهواء التي لم تكترث به وواصلت انسيابها مع النّسائم تعدّل واجهتها نحوها لتحصل على أكبر صفعة لأكثر اندفاع. وفي حركتها المتردّدة، متسارعة أحيانا ومتخاذلة أحيانا أخرى، لم تنس النّاعورة ممازحة زائرها العنيد المتشدّد لعلّه بلغها من النّسائم المواتية مأساته وخباله، فقبل أن ينصرف ركلته على مؤخرته ساخرة منه، ونقش الزّمن هذه الواقعة بتصرف عن الكاتب الاسباني «ميغيل دي سرفانتس» عبرة للأجيال التي تعلمت القراءة واختارت ما تقرأ واستفادت ممّا تقرأ.
ناعورتي هوائيّة في زمن الطّاقات المتجدّدة. فهي أقدم من الطّاقات القديمة وحديثة حداثة انزعاجنا من التّغيرات المناخيّة والهوس الذي أصاب النّاس من المخاطر المتوقّعة التي قد تصدر عنها. ناعورتي الهوائية عاد ألقها القديم لتتربّع من جديد على الرّوابي وبالسّهول وعلى سطح البحر وقد نصبت شراكها للرّياح تلتقطها مواتية من حيث أتت. تجدّد أشرعتها من زمن لآخر  ومازالت الرّياح نفسها تنفخ في ألواحها لتولد الكهرباء وتضخّ ماء النّهر للرّي والارتواء ولطحن الحبوب.
ولكن ناعورة الهواء التي وقفت عندها وأتحدّث عنها اليوم كانت تشغل طاحونة أصبحت تئن ويخشى عليها منذ سنين انفلات مغزلها الذي لم يتم تشحيمه منذ زمن طويل. ناعورة الهواء اليوم طاحونة القلوب الحيّة والطّيبة طيبة حبّات قمح صفراء ذهبيّة نقيّة المعدن من سنبلة مباركة حبلى بمائة حبّة. كان في ما مضى يديرها طحّان ماهر لا يدفع في الرّحى من قمح إلاّ ما صفى صفوه ونقّي معدنه.  
 الدوام يذيب الصّخر، هكذا تهرّأت الطواحين وتعبت مغازلها واعوجت من فرط الصدمات. طحّان اليوم لم يتسلّح بما يلزم من حكمة رغم كلّ ما قرأ من علوم ورغم نصائح من حوله. وجد نفسه يصارع الأوهام طفلا يركض خلف ناعورة آلت إليه لعبة دون سواه، يزهو بها وحده إذا ما نفخ فيها الرّيح ويصيبه النكد عندما تخذله ناعورته فلا تدور رغم ركضه الطويل والجراح التي أثخنت مرفقيه وركبتيه. أبت النّاعورة إلاّ أن لا تلفّ لفّة.  كيف تدور وقد انفلتت من محورها. ولم يلق صاحب النّاعورة ممّن حوله إلاّ ما لقيه «دون كيشوت» في معركته التي شنّها على الأغنام ظنّا منه ينشر الحقّ والعدل. وما خرج فارس لمعركة إلاّ ليشيع القيم النّبيلة التي تشبع بها
لم يهتد الطحّان إلى الحقيقة ودارت ناعورة الهواء وارتفع أزيز دواليبها يصمّ الآذان، ولكن الحَبّ الذي بلغ موضعه في الرّحي تسرب مشطورا دون  طحين. فيا خسارة التعب ويا خسارة الحَبّ.
ما أكثر طحّاني هذا الزمان ! لا عفوا، الزّمان يَطحن ولا يُطحن. فأقول إذا ما أكثر في هذا الزّمان من أمثال «دون كيشوت» ! عفوا مرّة ثانية، فهذا الأخير لم يدّع معرفة لا بالطّواحين ولا بدواليبها. وما كانت معركته مع ناعورة الهواء إلاّ دفعا لشرّ يجهله في حين  لم يخض من ادعى الحكمة معركة إلاّ لإثبات شجاعة وتخليد اسم. وعلى قدر الطّحين تزدهر الطّاحونة. فأصحّح إذا وأقول : «كثرة بلا بركة وطواحين بلا طحين».
إذا ما أمكن لدون كيشوت الرّجوع إلى صوابه، فمتى يعترف طحّان اليوم بخطئه ويبعد عنه أشباح الجهل التي تسرّبت إليه من القراءات البغيضة التي أظلمت عقله وعقَلته حتى بات في العتمة يصارع الوهم والخيالات. ومتى يحين الوقت لقراءة كتب أخرى تنير الرّوح وتغذّي القلب وتقوّي الجناح.