الكلمة الحرّة

بقلم
اسماعيل بوسروال
الإصلاح التربوي و أوهام المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016ـ 2020
 أصدرت وزارة التربية وثيقة أطلقت عليها إسم «المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016 ـ 2020»، ونظرا لأنّ المسألة ذات بعد مصيري للأجيال القادمة، فإنّني رأيت أنّ الواجب الوطني يقتضي منّي إبداء رأيي عسى أن أساهم في خدمة الأهداف العليا للبلاد ... وهو رأي شخصي قائم على قراءة واعية ويبقى وجهة نظر نسبية . 
ملاحظات حول الشكل 
1 ـ هل هو مخطط استراتيجي فعلا ؟ 
يجب الإقرار بأنّ الوثيقة صادرة عن جهة رسميّة وهي وزارة التّربية وهو مخطّط قطاعي تربوي فعلا ... ولكن هل هو مخطّط استراتيجي ؟ 
تعود جذور مصالح «استراتيجيا» إلى المفكّر الصيني «سان تزو» الذي أرشد القادة العسكريين من خلال كتابه  «فنّ الحرب» إلى التّخطيط في المعركة من أجل كسب النّصر. إلاّ أنّ الجذور العسكريّة لمصطلح «استراتيجي» لم تمنع استخدامه في الأنشطة السّلمية، فتمّ استلافه في السّياسة وفي الاقتصاد وفي التّربية وفي الرّياضة. ويكفي أن أشير إلى تركيز المحلّلين في كرة القدم على استخدام عبارة «استراتيجية» لبيان خطّة الفريق وأسلوبه في اللعب. 
كما أنّ الاستراتيجيّة مرتبطة بالحديث عن «مواجهة ما» وهي من قاموس الشّؤون العسكريّة ولكنّها مناسبة لتعويض صراع المعارك الدّموية  بصراع «معارك سلميّة» تُستخدم فيها  فنون راقية. 
تتطلب الاستراتيجيا ما يلي : 
1ـ ضبط هدف (النصر في معركة ـ الفوز في مباراة رياضية ـ النّجاح في مشروع ـ تحقيق نتيجة مؤملة ـ تدمير هدف معادي). 
2 ـ تخيّر الوسائل المناسبة لربح المعركة أو لتحقيق الهدف وتصيّد الوقت المناسب للهجوم أو للدفاع . 
الخطأ المنهجي الرّئيسي في المخطّط الاستراتيجي 
لقد وردت الأهداف الاستراتيجيّة للمخطّط القطاعي بصفة لاحقة للأهداف العامّة والمبادئ والمهام وملامح المتخرّج وهذا يطرح سؤالا حول المنهجيّة، إذ أنّ الرؤية السّليمة تقتضي إدراج   الأهداف الاستراتيجية وفق «السّياسة التّربوية العامة» لا المبادئ العامّة فحسب وهذا ما يجعل من المصطلحات المستخدمة متداخلة ومتضاربة أحيانا. ولكن نجد تدرّجا مختلفا في الصفحة 88 يجعل الأهداف الإستراتيجية هي الأولى سابقة للأهداف العامّة التي هي في الأصل تكون نابعة من خطّة عامّة  وليست قطاعيّة ... فبماذا يُفسّر هذا «التلاعب» بالمنهجية؟
  مع التأكيد على أنّ  السّياسة التّربوية العامّة تتناول التّعليم والتّكوين المهني والتّكوين المستمر والثّقافة والشّباب والرّياضة والطّفولة والمرأة والمسنّين والاقتصاد والفلاحة والسّياحة والصّناعة ومن المفترض أن تتمّ صياغتها من «هيئة وطنية عليا» وليس عملا قطاعيّا محدودا تسطّره « الإداراة العامة للدراسات والتخطيط» بوزارة التّربية في غرفة مغلقة وفي جلسة شبه خاصّة لا تستدعي إليها إلاّ من ترضى عنه. ولماذا وردت تحت عنوان واحد جامع لها وهو « سياق المخطط القطاعي» ؟ 
ـ الأهداف والمبادئ والبرامج ص 64 
ـ الأهداف الاستراتيجية  ص 69
أولا: لماذا عطف البرامج على الأهداف والمبادئ؟ ولماذا الجمع في سلّة واحدة ؟ 
ثانيا: ما هكذا يكون التّرتيب بوضع المبادئ (بدل المداخل) ولماذا تسبق الأهداف؟ 
ثالثا: لا مبرّر لإدماج ثّنائي المبادئ والأهداف مع البرامج.  
رابعا: من المفترض ألّا يتمّ الخلط غير المبرّر في مخطط استراتيجي لأنّ البرامج والمناهج أدوات تفصيليّة  للمنظومة التّربوية وهي محتويات وليست أهدافا والفرق شاسع بين الصّنفين(التّمشيات والمضامين).
إن المشاريع والأدوات المقرّرة لتحقيق الأهداف الواردة في « المخطط التنفيذي» هي موجودة  في المنظومة الحاليّة وهي غير فعّالة ولم تؤدّ إلى نتائج ايجابيّة وبالتّالي فإنّنا تجاه تشخيص سطحي وتحليل يعوّم القضايا الشّائكة ولا يعالجها . 
 
أمثلة 
المثال الأول :  الهدف الأول  ص 82
«تحقيق مبدإ الإنصاف وتكافؤ الفرص» (ملاحظة: هذا مأخوذ من مشروع الاتحاد العام التونسي للشغل) 
المدارس ذات الأولويّة مشروع فاشل لأنّه مغشوش وأُفرغ من محتواه «الاشتراكي الثّوري» وبات عنوانا مخادعا لا مصداقيّة له، كما أنّ التّشخيص الوارد في ص 35 لهذه الخريطة ومميّزات المدارس  والتّمييز الايجابي هو «مخالف للواقع».
إنّ المطّلع على ما ورد تحت هذا المحور يكتشف أن هناك إعادة صياغة لقانوني 1991 و2002 لاغير أي أنّ السّياق هو«استصلاح» ما تمّ إقراره سابقا وتمريره دون مساءلة من تولّى «سوء التصرف» سابقا وهو ما يعني وضع دستورالجمهوريّة الثّانية وثورة الحرّية والكرامة بين قوسين وكأنّ شيئا لم يكن.
المثال الثاني: التّشخيص الذي يفتقر إلى  الصّدق: 
ورد حديث في ص 21 عن الموارد البشريّة في المرحلة الابتدائيّة وتحدّث عن «الضّبابيّة والارتجال» في انتداب المدرّسين، في حين كان المنهج العلمي يقتضي ايراد جداول احصائيّة بنزاهة وشفافيّة تُبين أعداد المعلّمين الذين تمّ انتدابهم والبحث في طرق هذا الانتداب وأسباب عدم إخضاعهم الى أيّ تكوين والزجّ بهم ـ مباشرة ـ في مهمّة تتطلّب تأهيلا ... أما أسلوب المغالطة والتّمويه من خلال عبارات فضفاضة فذلك يدفع إلى الاعتقاد بوجود «تستّر» عن جرائم ارتكبت في حق المنظومة التّربوية وغياب الضمانات لعدم تكرارها. 
المبادئ العامة والأهداف والغايات في المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016ـ 2020 
ورد ت في الصفحة 66 المبادئ العامة وعددها (8) وهي نفسها الواردة في القانون التّوجيهي 2002 ولا يوجد سوى مبدأ وحيد جديد وهو « حياد المؤسسة التربوية». فما معنى «مخطط استراتيجي» له نفس المبادئ العامة الواردة سابقا؟ . 
أمّا رسالة المدرسة ومهامها، فقد ورد في الصّفحة 67 وحدد عددها بـ 12 وهي نفس المهام الواردة والمبثوثة في قانون  2002، فما المقصود من إعادة صياغة مهام المدرسة الواردة  في قوانين سابقة ؟ 
كما لاتوجد إضافة نوعيّة سوى المهمتين التاسعة (توفّر خدمات المرافقة الأساسيّة :  صحيّة ـ  نفـسيّة  ـ اجتماعيّة ـ ثقافيّة) والعاشرة (توفّر خدمات الإسناد الضروريّة : نقل ـ مطاعم ـ مبيت) وقد كانت مثل هذه المهام سابقا مجرّد حبر على ورق من خلال مشاريع تربويّة كالمدارس ذات الأولويّة التّربوية وإدماج المعوقين والتّنشيط الثّقافي ... لم تخضع الى التّقييم والى التّشخيص ثم المساءلة لمنع تكرار الفساد.
أما الصفحة 68 فقد تضمّنت ملامح المتخرّج وهي نفس الملامح الواردة في قانون 1991 وقانون 2002 ... فلماذا كلّ هذه المتاعب في نسخ وتغيير مواقع المصطلحات والمفاهيم ؟ 
 
المتأمّل في هذه الملامح لا يجد فيها روح الدّستور ولا نصوصه ولا الفصول 1 و 2 و39 بصفتها وحدة منسجمة تقتضي إعدادا جديدا مختلفا عن الملامح الواردة في المنظومة التّربوية السّابقة
الأهداف الاستراتيجية متداخلة  
 
المتأمل في الأهداف الاستراتيجية يلاحظ أنّها تتداخل، فحينا تشير إلى إجراءات عاديّة يوميّة كالتّصدي للفشل المدرسي وأحيانا تتطرّق إلى موضوعات تتطلّب خطّة متكاملة مثل تطوير الحياة المدرسيّة وتطلّ علينا مرّة أخرى بمقترح قديم جديد هو «إعادة هيكلة التّعليم الثّانوي والإعدادي» 
ورد في الصفحة 80 من وثيقة المخطّط الاستراتيجي القطاعي التّربوي أنّه سيتمّ « تعديل القانون التّوجيهي للتّربية والتّعليم المدرسي والنّصوص التّرتيبية المترتّبة عنه» وبالتالي فإنّ ما يتمّ الحديث عنه كإصلاح ليس إصلاحا تربويّا ولا يرتقي الى أن يكون «إصلاحا حقيقيّا» ينظر في بدائل، بل هو مجرّد استخدام أدوات «إيديولوجية» لمزيد ترسيخ خيارات النّظام البائد التي صاغتها أفكار يساريّة متطرّفة ثبت فشل مآلاتها ولكنّها اليوم تُفسّر فشلها الذّريع بعوامل خارجة عن نطاقها. إنّه خداع واضح يتعمّد «إدخال تغييرات مضمونية» ـ مشكوك في احترامها للدّستور ـ  لترسيخ التّوجهات الحزبيّة على حساب المنظومة التّربوية. 
استمعت إلى وزير التربية في تصريح تلفزي وهو يتحدّث عن « كتب مدرسية جديدة»ستكون جاهزة في مفتتح السنة الدراسية القادمة 2016/2017 وذلك بالنّسبة للسّنتين الأولى والثّانية من المرحلة الابتدائية... فلم أُصدّق نفسي وظننت أنّني فقدت التركيز فأعدت الاستماع أكثر من مرّة وتأكّدت أنّ التّصريح صحيح وما عليّ إلاّ أن اُصدّق أو أشرب من ماء البحر. 
ولمزيد اليقين تصفحت الوثائق الصادرة عن وزارة التّربية، فعثرت عن الجواب الشافي في ما يُسمّى المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016ـ2020 فوجدت في الصفحة 127 من النّسخة الالكترونية  ما يلي : 
 
وبالتالي فإنّ عمليّة تجاريّة واضحة جرت تحت الطّاولة تمّ خلالها تكليف أفراد أو لجان في صيغة (مراكنة) حيث لا يوجد إعلان عن تأليف مدرسي ولا وجود لكراس شروط  ولا توجد لجنة تقييم (يتم الاعلان عنها أو الإشارة إليها وتكون ذات مصداقية) وفق معايير معلومة تضمن تطابق مواصفات الكتاب المدرسي مع مواصفات الجودة الفنية والمضمونية بما ذلك احترام فصول الدستور 1 و 2 و 6 و7 و16 و39 .
إن أسلوب تسريب التّحويرات قطرة قطرة وبصفة سرّية لدليل على «تهافت»على المنظومة التربوية من أطراف إيديولوجية تعتقد أنّ الوقت ملائم لترسيخ القيم النّسبية والسّلبية، تحت عناوين حداثيّة زائفة، وفرضها على المجتمع الذي يتصوّرونه غافلا ومستسلما لمن نصّبوا أنفسهم زورا وبهتانا «مصلحين تربوييّن». 
لقد تحمّل الشعب التونسي بعد ثورة الحرية والكرامة وزر نفقات باهضة لإنشاء مؤسسات واعدة إنتاج دستور جديد ، نُباهي به ويُباهي بنا ، يقطع مع الفساد والاستبداد أفما آن لمجلس نواب الشعب ان يضع حدّا لغطرسة الاستئصاليين ؟