اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
أي مستقبل للهندسة المالية؟
 بعد ما لا يقل عن 150 عاما من ظهور الهندسة المالية وعلى وقع الأزمات المالية المُتعاقبة التي ما إن لُملِمت جِراحُ واحدة منها حتّى برزت أُخرى أشدّ منها فتكا وأعمق أثرا، انطلاقا من أزمة الكساد الكبير سنة 1929 مرورا بأزمة النّمور الآسيوية سنة 1997 وصولا إلى أزمة 2008 وعلى وقع ما حذّر من وقوعه صندوق النقد الدولي قادم الشّهور، يحقّ لنا أن نتساءل عن مستقبل الهندسة المالية خاصّة وأنّ كثيرا من الدّراسات تربط ما بين ما يتعرض إليه النّظام المصرفي والمالي العالمي عموما وما بين هذا التَّخَصُّص.  
وحتّى يَكُونَ جُهْدُنَا المعرفي هذا أكثر وُضُوحًا وأَيسَرَ فَهمًا خاصّة ونحن نتناول موضوعَ تَخَصُّصِ غَيْرَ مُعْتَادٍ تناوُلَهُ، دعنا نفتتحه بتعريف للهندسة المالية ومجالاتها والهدف المرجو منها نظريّا على الأقل حتّى نقدر على التعاطي مع واقعها واستشراف مُستقبلها.  
I. ما الهندسة المالية؟
إذا انطلقنا من تعريف الدكتور سامي إبراهيم سويلم في كتابه «صناعة الهندسة المالية نظرات في المنهج» (مركز البحوث شركة الراجحي المصرفية للاستثمار الإسلامي» الصّادر سنة 2000) والقائل ان الهندسة المالية هي«التصميم والتطوير والتنفيذ لأدوات وآليّات مالية مبتكرة والصّياغة لحلول إبداعيّة لمشاكل تمويليّة» يمكن لنا الوقوف عند مجالاتها الثلاث : 
• ابتكار أدوات مالية جديدة (سندات - أسهم - عقود مبادلة...)
• ابتكار عمليات مالية مُستنبطة تُخَفِّضَ من تكاليف المعاملات (التداول الالكتروني للأوراق المالية...)
• ابتكار حلول على غير مثال سابق للمشكلات المالية التي تواجه الشّركات (ابتكار استراتيجيات جديدة لإدارة مخاطر المُبادرة الاستثماريّة – ابتكار أنماط جديدة لإعادة هيكلة المؤسّسات للتّغلب على المشاكل القائمة ...)
أما الهدف المرجو تحقيقه من خلال الهندسة المالية فهو نظريّا على الأقل تحسين الاقتصاد الكلّي الحقيقي عبر تحسين أداء وحداته الإنتاجيّة الجزئيّة (المؤسّسات الاقتصاديّة) وجعل النّظام المالي ذا كفاءة من خلال تخفيض تكاليف المعاملات وبالتّالي تسهيلَ تجارة السِّلع والخدمات وتبادلها وانتشارا لمُنْتَجَاتٍ مالية جديدة مما تُسَاعِدُ الأسواق المالية على أن تكون أكثر تكاملا وكفاءة وأكثر سيولة...
II. الهندسة المالية التقليدية :
 افتقاد للأسُس
II- 1 - الأساس العلمي
انطلاقا من أنّ كل هندسة قائمة على قوانين علميّة كان من المفترض أن يكون قد تمّ اكتشاف القوانين الناظمة للهندسة الماليّة التقليديّة إلاّ أنّ واقع الحال يُخبرنا غياب قوانين علميّة صحيحة تقوم عليها هذه الهندسة رغم أنّها غنيّة بالتّقنيات والأدوات ممّا يجعلها تفتقر لأساس علمي تركن إليه.
II- 2 – الأساس الأخلاقي
أمام اتساع الهوّة بين ما دعت إليه الهندسة المالية من ابتكار سواء على مُستوى تصميم أدوات التّمويل وعملياته أو تطويرها أو على مستوى الحلول لمشكلاته وما انتُظر منها من ازدهار وتقدّم  وبين ما نشأ عن التقليديّة منها من أزمات يُطرح تساؤل لماذا؟ نُحاول الإجابة عليه.
حين نعلم أنّ حجم الإنتاج الحقيقي للسّلع والخدمات لا يتخطى 18 % مقارنة بالحجم الجملي للعمليّات الماليّة عبر العالم، نقف عند حقيقة الحالة الاقتصاديّة والماليّة لهذا العصر المتميّزة بالبون الشّاسع ما بين دائرة الإنتاج ودائرة النّقد وهذه الحالة لما لها من آثار وخيمة على الاقتصاد وبالتّالي على حياة البشريّة ومُستقبلها تفرض من جديد معرفة الأسباب.
وإذا انطلقنا من الابتكار كأهم ما يُميز الهندسة المالية يُمكن أن نصل إلى معرفة تلك الأسباب دون أن نُحمّل الابتكار مسؤوليّة ذلك لانّ الابتكار في هذه الهندسة عمل محمود ما تحققت أهدافها في رفع الكفاءة الاقتصاديّة والإنتاجيّة وبالتّالي زيادة الرّفاهيّة. 
فما الذي تَحَقَّقَ وأي ابتكارات أفرزتها الهندسة المالية التقليدية على امتداد العقود الماضية؟
ما هو معلوم لدى كل المراقبين والمحلّلين النمو المطرد للمشتقات المالية (ثمرة الهندسة الماليّة التقليديّة) الذي فاق نموّها أيّ أصول أخرى (ماليّة كانت أو مادّية) إذ تجاوز حجمها 500 ترليون دولار سنة 2008 وهي في ازدياد وهو ما يعني أنّها أصبحت تنمو بشكل مستقل وغير خاضعة للنّشاط الحقيقي المنتج.
هذا التضخم الهائل لحجم سوق المشتقّات يجعل أيّ انهيار لهذا السّوق سيكون له تهديد مباشر للاقتصاد بأكمله وبالمُحَصَّلَة تداعيّات اجتماعية وإنسانية كارثية.
فما حقيقة هذه المنتجات؟ أهي أدوات لنقل المخاطر (ما يُسمى بالتّحَوِّط) أم هي أدوات مُجازفة (القائمة على الرهان والمُقامرة)؟ وما المقصود بالمشتقات أهو تبادل الملكيّة أم مُجرد مُخاطرة؟
بالاعتماد على المعطيات الإحصائيّة الواقعية، فإنّ نسبة العقود المستخدمة بغرض المجازفة (القائمة على الرّهان والمُقامرة) بلغت 97 % من إجمالي العقود بينما لم تتجاوز أغراض التَّّحَوِّطْ (وقاية الشركات والمؤسّسات وتجنيبها المخاطــر) 3 % مما يجعلنا نستنتج أنّ المجازفة هي الغالبة على المشتقّات (الأزمة الاقتصادية العالمية من منظور الاقتصاد الإسلامي - عبد الكريم أحمد قندوز).
وتبعا لذلك فإنّ المقصود بالمشتقّات في هذا التَّوجه التقليدي المتَُبَع ليس تبادل الملكيّة بل المُخاطرة بعينها وهنا الانحراف الكبير الذي وقع وأوقع الهندسة المالية التقليدية في تعارض مع الأخلاق حين اعتمدت الرّهان والمقامرة على تقلّبات الأسعار لتحقيق أعلى قدر ممكن من الأرباح على حساب أهداف الهندسة المالية نفسها وعلى حساب منفعة المجتمع ككل بكل فئاته وعلى حساب المقاصد التنموية التي انتظرها طويلا.
لقد باتت المُضاربة سيّدة الموقف (المضاربة على أسعار الفائدة) دون تطبيق معايير مخاطر السّوق..وتحوّلت الأسواق الماليّة إلى فضاء مُزدحم بالمراهنات والمقامرات تُؤكل فيه أموال الناس بدون وجه حقّ ويروج للمعاملات فيه على أنّها علم إدارة المخاطر بأدوات ماليّة مبتكرة قام بتصميمها مُهندسون ماليّون تقليديّون والهندسة المالية منهم براء.
كما تسبّب الابتكار المالي بالفلسفة التقليديّة في زيادة الدّين لإمكانيّة الحصول على ما تريد في وقت قصير ومن دون مقابل تقريبا ممّا أخلّ بالتّوازنات وأحدث الاضطرابات وغذّى الأزمات.
وتفاعلا مع كلّ تدهور حاصل تُوضع ضوابط تشريعيّة لاحقة للنّظام المصرفي تكون عادة أكثر صرامة كالذي حدث على إثر الأزمة  التي عاشتها النّمور الآسيوية سنة 1997 والتّشريع الذي أقرّه الكونجرس الأمريكي ومنع الجمع بين نشاط البنوك الاستثماريّة التي تنطوي على مخاطر عالية وبين نشاط البنوك التّجارية التي تواجه مخاطر تهافت المودعين على سحب أرصدتهم على إثر الكساد الكبير سنة 1929 قبل أن تُسنّ تشريعات أكثر مرونة في نهاية التّسعينات منها السّماح بالجمع بين النّشاطين ممّا ساعد على الانفلات الحاصل منذ ذلك الحين.
وبافتقارها للرّكن العلمي وبهشاشة قاعدتها الأخلاقية وضعف إحساسها الاجتماعي يُمكن فهم إخفاق الهندسة المالية التقليدية في تحسين الاقتصاد الكلّي الحقيقي وجعل النظام المالي أكثر كفاءة وتتالي الأزمات ممّا يجعل مُستقبلها رهين مُراجعات تقوم بها خاصة على مستوى الخلفيّة الفلسفيّة والمنطلقات الفكريّة والمضامين الثّقافيّة الموجّهة لها.
وأمام هذه النتائج التي تعكس محدوديّة الهندسة الماليّة التقليديّة وأمام ايجابيّة الهندسة الماليّة القائمة على الابتكار والهادفة لتحسين الكفاءة الاقتصاديّة والماليّة لا يسعنا إلّا أن نبحث على إتمام هذه المكارم.
III. الهندسة المالية الإسلامية :
 أساسها علمي ومَقْصَدُهَا تَمَامُ المَكَارِمِ
ينتظم التّمويل الإسلامي ضمن مقاصد شرعيّة (ضوابط سابقة درءا لوقوع الأزمات وليست لاحقة لها كما هو حال التقليدي كما بينا سابقا) كحفظ الدّين وحفظ النّفس وحفظ العرض وحفظ المال وحفظ العقل وهي مقاصد تضبط إيقاع عمليات ابتكار أدوات وآليات التّمويل الإسلامي وكذلك حلول المشاكل المالية التي تعترض المؤسّسات الاقتصاديّة والمالية وكذلك الأسواق كما تهدي إلى هدف آخر ظلّت عنه الهندسة المالية لتمام مكارمها ألا وهو بلغة العصر المقاصد التّنموية من حريّة وصحّة وعلم وتشغيل وغذاء.
لذلك يحترم التّمويل الإسلامي قوانين الحفظ فهو يقوم على مبدأ تحريم الرّبا بحكم مُخالفة فكرة الرّبا لهذا القانون الطبيعي الصّحيح الذي أقره العلم الحديث نظرا لأنّ الرّبا لا يَحفظ قيمة المال بل يزيدها دون أن يشترط منتجا إضافيّا. 
إنّ طرفي عقد التّمويل الإسلامي وبالرّوح الإسلامية القاضية بأن يحبّ كل طرف فيه لأخيه الطّرف الثاني ما يُحب لنفسه يكونان متناظرين فيتحقّق ما يستلزمه حفظ المال من تناظريّة وما يقتضيه قانون الحفظ من تناظر عبر الزّمن. 
لذلك يمكن أن نخلص للقول أنّ التمويل الإسلامي علم بحكم أنّه يقوم فيما يقوم على هذا القانون لنُقر تباعا أن للهندسة المالية الإسلامية أساس علمي.
وفي هذا السياق يمكن القول أنّ الهندسة المالية الإسلامية هي علم ينسجم مع القوانين الطبيعيّة التي اكتشفها العلم وبالتّالي هي بصفتها الإسلامّية تنتظم ضمنها.
أما فيما يخص إسهام الهندسة المالية الإسلامية في تحقيق المقاصد التّنموية وخاصّة أهداف الألفية السّبع عشر للأمــم المتّحدة في ظل ّ تحدّيات تحقيقها في البلاد النّاميــة بما فيها تونس وعلى رأسها تحدّي تعبئة الموارد الماليّــة، يمكن الاعتماد على ما ذُكر من مُخرجــات ملتقــى صفاقس الدولــي الرّابع للمالية الإسلاميّة تحت عنوان «الهندسة المالية الإسلامية بين الضّوابط الشّرعية والاستحقاقات الرّبحية والمقاصــد التّنمويــــة» الذي انعقد يومي 27 و28 أفريل 2016.
 فقد اعتبر الملتقى مُنتج الصّكوك أداة ماليّة مُبتكرة لخدمة التّنمية نظرا لدورها في تعبئة الموارد الضّرورية على أن تكون ضمن التزام بالمبادئ الحاكمة لأصول الفقه وقواعده مع تجنّب الحيل وتركيب العقود والتّحايل على المحرّم.
وعلى أن تكون طويلة الأجل وبهدف تطوير المشاريع وإيجاد الضمانات الصّحيحة لتشجيع المشتركين وتوفير البيئة المشجّعة على تمويل المشاريع كلّ ذلك مع تطوير سوق رأس المال وتمكين المستثمرين من بيع هذه الصّكوك.