القرآن والسماء

بقلم
نبيل غربال
الثوابت الفيزيائية والتقدير الإلهي (1)
 في سلسلة المقالات التي اخترنا أن نعنونها بـ«القرآن والسّماء» سيكون الجهد منصبّا على التّفاعل العلمي مع الآيات القرآنية التي تشير إلى الظّواهر الطبيعية والكونية وخاصّة تلك التي أصبحت موضوعا للبحث العلمي وتقدّم العلم أشواطا في دراستها. ليس الأمر بالنّسبة لي اختياريّا بل لديّ قناعة بأن ذلك واجب عقلا حتى يطمئن القلب للاعتقاد بأنّ الله موجود. وهذه ليست بدعة إذ أني اعتبر نفسي سائرا في الطريق التي خطّها إبراهيم عليه السّلام. فرغم صعوبة المقارنة بين تجربتي الإيمانيّة المتواضعة وتجربة إبراهيم الخليل الأكثر عمقا وثراء والأوسع أفقا، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع أبو الأنبياء أن يطلب من الله دليلا حسّيا على بعث الموتى. فكما يمثل بعث الموتى لإبراهيم دليلا على وجود الخالق وقدرته على كل شيء، فإنّ عدم تناقض الآيات القرآنية مع الحقائق العلميّة واستيعاب معانيها للفتوحات العلميّة المتجدّدة دليلا من نوع آخر على المصدر الإلهي للقرآن وبالتالي على وجود الله وذلك بالنّسبة لإنسان القرن الحادي والعشرين. 
(1) الموضوع
موضوع هذا المقال يتمحور حول الجزء الثّاني من قوله تعالى:«ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (سورة الرعد - الآية8) أي (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ). اعتماد ذلك الجزء من الآية ليس الهدف منه إخراجه من سياقه بل أخذه كعينة من جملة آيات أخرى تتناول خلق الله تعالى «كل شيء بمقدار» وهي الآيات 2 من سورة الفرقان والآية 49 من سورة القمر و الآية 3 من سورة الطلاق. 
يقول ابن عاشور في تفسير «التحرير والتنوير» في الآية موضوع المقال أنّها « انتقال إلى الاستدلال على تفرّد الله تعالى بالإلهية، وأنّها متّصلة بجملة (الله الذي رفع السماوات)» وهي الآية الثّانية من نفس سورة الرعد.» ويضيف أن«هذه الجملة استئناف ابتدائي.» موضّحا ذلك بالقول « فلمّا قامت البراهين العديدة بالآيات السّابقة على وحدانيّة الله تعالى بالخلق والتدبير وعلى عظيم قدرته التي أودع بها في المخلوقات دقائق الخلقة انتقل الكلام إلى إثبات العلم له تعالى علماً عاماً بدقائق الأشياء وعظائمها، ولذلك جاء افتتاحه على الأسلوب الذي افتتح به الغرض السابق بأن ابتدئ باسم الجلالة كما ابتدئ به هنالك في قوله: «اللّهُ الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها». فكيف يسعفنا العلم الحديث بالدليل على أن الله تعالى له علم عام بدقائق الأشياء وعظائمها؟
للإجابة على السؤال سنبدأ بمدخل لغوي يتعلّق بالمعاني الأصلية لكلمتي شيء ومقدار حتّى تتّضح الصّلة بين الآيات القرآنيّة والآيات الطبيعيّة بعلاقة بعلم الله بدقائق الأشياء. إنّ  كلمة الشّيء في المعاجم العربية تمثل إسما لأيّ موجود ثابت متحقّق سواء أكان حسِّيًّا أم معنويا ويصحّ أن يُتصوَّر هذا الشيء او يُخبر عنه. كما يُطلق هذا الاسم على المذكَّر والمؤنث ويجمع بأشياء. أما كلمة مقدار فتعني في اللّسان العربي بِقَدَرٍ وَاحِدٍ لاَ يَتَعَدَّاه، لا يجاوزه ولا ينقص عنه. وجذر كلمة مقدار يتكون من ثلاثة أحرف هي القاف والدّال والرّاء أي قدر وهو، كما جاء في مقاييس اللغة، أصلٌ صحيح يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته.
(2) الشيء في المفهوم العلمي
ذكرنا في المقالات السّابقة أنّ العلم الحديث يعرف الكون على أنّه مجموع كلّ شيء موجود محكوم بقوانين. ويحدّد ذلك بالقول بأنّ كلّ شيء يعني المادّة والطّاقة والفضاء والزّمن وهي موجودات حسّية ثابتة ومتحقّق منها ومتفاعلة مع بعضها البعض بفضل أربعة قوى أساسيّة متحقّق منها أيضا وهي :
- قوة الجذب ألثقالي وهي قوة جذب بين كتل الأجسام.
-القوة النووية القويّة  وهي قوة جذب يقتصر مجال فعلها على نواة الذّرة
- لقوة النووية الضعيفة وهي قوة مسؤولة  على التحلل الاشعاشي للجسيمات مادون الذرية ومصدر الاندماج النووي في النجوم
- القوة الكهرمغنطيسيّة وهي قوة جذب أو تنافر بحسب نوع الشّحنات الكهربائية للأجسام المتفاعلة.
إن التنوع الهائل والذي لا يمكن حصره للأجسام المادّية التي نراها حولنا والتي رصدناها سواء في الفضاء القريب أو في أقاصي الكون المرئي (كواكب، أقمار، نيازك، شهب، غبار، غازات، نجوم، الخ...)  تعود كلّها حسب النّموذج المعياري في الفيزياء والمقبول من عموم المختصّين إلى مكونات تسمّى أساسيّة بحكم عدم قدرتنا على تجزئتها وهي «الكواركات» و«الالكترونات» و«النيوترينوات». هذا بالطبع إلى جانب حبيبات من الطاقة سمّاها العلماء «بوزونات» ويعتقدون أنّها حاملة للقوى الأساسية الأربعة السّابق ذكرها وتمثّل «فوتونات» الضوء المرئي أو الإشعاع التي ألفتها حواسنا إحدى تلك الحبيبات وهي ناقلة للقوّة الكهرمغنطيسية. 
يجب التّذكير بوجود نوع ثان من المادّة تسمّى المادّة المظلمة وقد لمح لوجودها الواسع الانتشار في الكون فريتز زفيكي(1898-1979) في ثلاثينات القرن العشرين. وسمّيت مادّة بحكم اشتراكها مع المادّة العادية في الجذب ألثقالي إذ بفضلها تحافظ مئات المليارات من النّجوم على تماسكها في المجرّات. أمّا وصفها بالمظلمة فيعود لسبب عدم بثها لأيّ نوع من الإشعاعات. 
أما أهم شيء يدخل في محتوى الكون الجملي من الطّاقة فهو الطاقة السّوداء التي اكتشفت عام 1998. لقد تأكد العلماء من أنّ وتيرة توسّع الكون (تمدّد الفضاء) ازدادت عندما بلغ عمره حوالي 8 مليار سنة. لم يعرف العلماء سبب تسارع التّمدد الكوني فأطلقوا عل تلك القوّة الطاردة اسم الطّاقة المظلمة. فمتى ظهرت تلك الجسيمات الأولية والقوى التي تتحكّم في تفاعلاتها وما هي خصائصها ؟
(3) موجز لتاريخ الكون
وفقا لنموذج «الانفجار العظيم» فقد ظهر كوننا ولم يكن شيئا قبل 13.8 مليار سنة. كان الكون ساخنا جدّا (درجة حرارة لا متناهية) ومكثّفا في حجم لا يمكن تخيّل صغره. وفي ظرف بعض الأجزاء من ألف جزء من الثّانية تضخم حجمه بسرعة لا مثيل لها وأصبح هائلا جدّا. بعد ثانية واحدة من الانبثاق من لاشيء تضاءلت درجة حرارة الإشعاعات التي كانت تملأ الكون ووصلت إلى حوالي عشرة آلاف مليون درجة وهي الحرارة التي تطلقها القنابل الهيدروجينية.
في تلك البيئة الحارّة جدا تحول جزء من طاقة الإشعاعات إلى جسيمات مادية وهي «الالكترونات» و«الكواركات» ثم أعطت الأخيرة «البروتونات» و«النيوترونات». لكل جسيم كتلة محدّدة وشحنة كهربائيّة خاصّة به. تمثّل كتلة كلّ جسيم وشحنته ثابتا فيزيائيّا حيث يعتقد العلماء أنّ مقدار كلّ ثابت فيزيائي قد حدّد نهائيا في ذلك الماضي السّحيق من تاريخ الكون. بعد مرور دقيقتين إلى ثلاث دقائق نزلت الحرارة إلى حوالي مليار درجة وانخفضت درجة هياج البروتونات والنيوترونات إلى حدّ لم يعد بمقدورها عنده الإفلات من جاذبية القوّة النووية الشّديدة وهو أوّل دخول لتلك القوّة إلى مسرح الأحداث الكوني. مكّن بروز القوة النووية القويّة إلى الوجود من ظهور نوى ذرّات الهيدروجين الثقيل (الدّوتيريوم) أي تكتل بروتون واحد ونيوترون واحد. كما تكوّنت نوى أثقل ذات بروتونين ونيوترونين وهي نوى الهليوم. 
ولمّا بلغ الكون من العمر 380000 سنة، انخفضت الحرارة بفعل تمدّد الفضاء إلى آلاف من الدّرجات فقط وانبثقت إلى الوجود القوّة الكهرمغنطيسية التي مكّنت الالكترونات والنّوى (الهيدروجين والهليوم) من تكوين ذرّات الهيدروجين باتخاذ إلكترون مدارا يتحرّك فيه حول البروتون والهليوم باتخاذ إلكترونين مدارا لكل منهما حول النواة. كانت هناك أيضا قوة نووية ثانية توصف بالضّعيفة تفعل فعلها في تلك البيئة شديدة الحرارة. فبفضلها تتحول النيوترونات إلى بروتونات وغيرها من التحولات النووية التي تحدث في ما يسمى بظاهرة النشاط الإشعاعي. 
توقف توليد الهليوم والهيدروجين ولم يعد باستطاعة أي عنصر أخر من الظهور إلى مليون سنة بعد خلق الكون حيث استمر الكون في التوسع وواصلت درجة الحرارة الانخفاض. خلال تلك المدة ومنذ الثواني الأولى للكون برزت المادة المظلمة وبدأت بسحب وتحشيد المادة العادية (ذرات الهيدروجين والهليوم أساسا)، من خلال قوة الجذب ألثقالي، في ما يشبه الخيوط الكونية العملاقة والتي تحيط بفضاء فارغ ومتمدد. انهارت سحب عملاقة من الهيدروجين داخل تلك الأعمدة الكونيّة وتشكّلت نتيجة لذلك أوّل النّجوم. أدّى الاندماج النّووي داخل النّجوم إلى توليد عناصر أثقل فأثقل إلى أن ظهرت كلّ العناصر التي نعرفها الآن مثل الأكسجين والكربون والحديد وغيرها.  تجمّعت النّجوم في مجرّات والمجرّات في عناقيد على امتداد تلك الأعمدة الغير مرئيّة من المادّة المظلمة. وواصل الكون تمدّده بوتيرة كان العلماء يعتقدون أنّها تتباطأ بتأثير قوى الجذب ألثقالي للمادّة بمكونيها العادي والمظلم. إلاّ أنّ طاقة جديدة دخلت إلى مسرح الأحداث متمثلة في ازدياد سرعة التّمدد.  
(4) القوانين الكونية والثوابت الفيزيائية
قلنا في بداية المقال أنّ الكون هو كل شيء ثم بيّنا المفهوم العلمي للشّيء وركّزنا على المادّة والطّاقة والفضاء. أمّا الزمن فهو سهم يتحرّك في اتجاه واحد من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر، شهد الكون خلاله تمدّدا متواصلا في الحجم وانخفاضا متواصلا أيضا في الحرارة. وخلال تاريخ الكون الطويل تحوّل جزء من الطاقة (الضّوء طاقة) إلى مادّة وتشكّلت المادّة في بنى أعقد فأعقد إلى أن ظهرت كلّ العناصر المادّية والتي تكوّن كلّ الأشياء التي نعرفها وكان ذلك يحدث بالتّفاعل بين الجسيمات المادّية تؤمّنه قوى أساسيّة كانت هي أيضا تنبثق تدريجيا مع الزّمن. تفاعل المادّة بفضل تلك القوى هو الذي أعطى كلّ الموجودات وهو تفاعل تحكمه قوانين. فما القانون؟ لنأخذ قانون نيوتن للجذب ألثقالي كنموذج. الجاذبية أو الثقالة هي ظاهرة طبيعية تتجسد بميل الكتل والأجسام للتّحرك والانجذاب نحو بعضها البعض كما في الجاذبيّة بين الأرض والشمس. وبالنسبة لظاهرة الجذب ألثقالي بين الأجسام ذات الكتل الصغيرة والحركات البطيئة قياسا بسرعة الضّوء، فإنّ قانون نيوتن كاف لوصفها بالدّقة التي تبلغها أدوات ألقيس المتطوّرة.
يقول القانون أنّ كل كتلتان يجذبان بعضهما البعض بقوّة تتناسب شدّتها طردا مع كتلتيهما وعكسا مع مربع المسافة بينهما. ومما يؤكد نجاعة هذا القانون هو النجاحات الباهرة التي حقّقها العلم بالاعتماد عليه في مجالات عدّة مثل  إرسال المركبات الفضائية والأقمار الصناعية وغير ذلك. يشتمل القانون، وهذا ما يهمّ موضوعنا، على  نوعين من المقادير. مقادير فيزيائية قابلة للقياس وهي كتل الأجسام المتفاعلة والمسافة بينهما ومقدار ثابت لا يتغيّر يسمى ثابت الجذب العام بين الكتل. ويفترض العلماء أنّ هذا القانون صالح في كل مكان وزمان في الكون وهو ما لم يقع دحضه إلى اليوم . يوجد العديد من الثوابت الفيزيائية الأخرى في القوانين المتعلّقة بعدّة ظواهر طبيعية كقوانين اينشتين أين نجد مثلا الثابت ِC وهو مقدار سرعة الضّوء في الفراغ
  (يتبع)