الكلمة الحرّة

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
ثورة الفوضي تجريف للوعي وفقدان اختياري للأمة
 مقدمة
تجتاح الفوضي عالمنا الإسلامي وخاصة العربي، تستبيح العشوائية حياتنا على كل المستويات، بدءً من المستويات المادية الحسية البحتة مرورا بالمستويات الخلقية وحتى المستويات المعنوية والفكرية، فوضي على المستوي الفردي والمستوى الجماعي. يختلط الحابل بالنابل، وكما يقول تيموثي ميتشل في كتابه «استعمار مصر» [1] نقلا عن جوستاف فلوبير في رسالة أرسلها الأخير من القاهرة في عام 1850 م «وها نحن الآن في مصر. فما الذي يمكنني قوله عنها؟ وما الذي يمكنني أن أكتبه لك فحتى الآن لم أكد أتجاوز الانبهار الأولي ... وكل تفصيل يبرز لكي يمسك بك، ويبرحك، وكلما زاد تركيزك عليه قل استيعابك للكل، ثم شيئا فشيئا يصبح كل ذلك متناغما، تتكامل الأجزاء من تلقاء نفسها وفقا لقوانين المنظور. أما في الأيام الأولى فيشهد الرّب أنّها فوضي ألوان محيرة ....» ثم يكمل جوستاف فلوبير وأنا أختصر اختصارا غير مخلّ، إن القاهرة اضطراب بصري، عصيّة على الوصف إلاّ بوصفها فوضى  ترفض التّشكّل في صورة، لهجات غريبة وغرباء يتدافعون في ملابس غريبة وألوان غير عادية وأصوات وروائح غير مألوفة. انتهي،. هذا كله في عام 1850م أمّا الآن فلا يوجد عاقل يقول إنّ الصّورة تحسّنت، فمن رأى القاهرة في بدايات القرن العشرين كان يتملّكه الانبهار مقارنا بوضعنا الحالي.
الفوضي بانعدام المسافات الفاصلة 
وبإمعان النظر وبشكل تحليلي في منهج الفوضي الذي نمارسة بشكل اعتيادي يومي نخلص إلى أنّه لا يوجد مسافة فاصلة بين المشهد والمشاهد وهي مسافة ضروريّة لفهم أبعاد المنظر. ففي عالم عربي فقير مزدحم بذرّاته البشريّة، في مصر مثلا، عبورك للشّارع في وسط القاهرة يمثّل مغامرة بحياتك، ركوبك سيّارات النّقل العام يمثّل تنازلا اختياريا عن جزء من آدميتك، ذهابك لمستشفى حكومي مخاطرة بصحتك، نقاشك مع أصحابك وخلافك معهم تهديد بفقد صحبتهم، أنّى توجّهت فسترى الفوضى تحيط بك، وكأكاديمي عربي يكاد لا يختلف معي أحد أنّه لا يوجد صبر عند معظمنا في مناقشة القضايا الجادّة، ونهرع بسرعة الضّوء لشخصنة المسائل الخلافيّة حتى في أعمق الموضوعات الأكاديمية. الفوضي بين الأكاديميين تتمثّل في أنّه لا يوجد بيننا محاورات بنّاءة، الفارق بين الأكاديميين في وطننا وبين الأكاديميين في الدول المنتجة للعلم الحديث فارق لا أظن أننا نستطيع تجاوزه في المستقبل المنظور. حتي أن الفارق  بين بيئتنا العلمية الحالية والبيئة العلمية في الغرب في بدايات عصر النهضة «جاليليو، نيوتن، لايبنتز....» منذ ما يزيد على ثلاثة قرون كبير جدا، الخطابات بين لايبنتز ولوبيتال مثلا  تدلّ علي العمق الرهيب في رصف المفاهيم التي أفرزت طرق العلم الحديث. ومحاربة الغرب الشّرسة لنهضة هذه الأمّة لا تتمثل في الخوف من مجاراتهم في التّقدم التقني بل في الخوف من قيام قطاعات عريضة من النخب الثقافية والعلمية الغربية في التّحول عن ثقافتهم إلى ثقافة الآخر بل وفي تبنّي ثقافة الآخر والدفاع عنها. ومنذ قرنين من الزّمان أو يزيد ونحن في تيه عميق، مراحل متعاقبة من الانكسارات والنكسات والنكبات ليس على المستوى العسكري فحسب ولكن على كل المستويات، الانبهار بحضارة الغرب نفسه أفرز هزائم نفسيّة حادّة لدى قطاعات عريضة من مثقفينا أدى إلى فقدان البوصلة الهادية إلى بلورة فكرة تتوحّد عليها القطاعات الشعبية الإسلامية، مثل فكرة مادّية الحضارة الغربية الحديثة التي بلورت الإنسان الغربي حول قانون المنفعة وإيمانه الشّديد بالقوة المفضية إلي الإيمان بالداروينية الاجتماعية في أقل تشكيلات الجغرافيا الإجتماعية المتمثّلة في الأسرة الصغيرة حتى أكبرها المتمثلة في الجنس البشري وبذلك عللوا الإمبريالية في أشدّ صورها فتكا. أما نحن فقد تشككنا في المنهج الذي يوحدنا مع علمنا إياه على مستوى الشكل فقط ولم نطوّر آلية فذّة من ذلك المنهج تتعامل مع كلّ جديد من قرائح أبنائنا أو وافد علينا من عقول عدوّنا التّاريخي. بل والعجيب أنّنا صرنا نقتات نقدنا لثقافتنا وثقافتهم وسياستهم وسياستنا من إفرازات مفكريهم هم وأصبحنا فقراء جدّا في عدد ونوعية المفكرين من الأوزان الثقيلة التي يسميها الفكر الغربي «أنبياء الحركة» ومن ثم دخلنا في تيه الفوضي الشاملة.        
وفي عالم فوضوي كهذا تصير العين فيه عضوا للمس بالإضافة إلى وظيفتها التي فقدتها أو كادت عضوا للرّؤية أيضا ولكن كوظيفة ثانويّة لها، فالنّاظر إليك لا يفصله عنك أيّ مسافة، فأنفه وعينه ولسانه يلعبان في فضائك الخاصّ، يدوران في جسدك في رأسك أنت، وحواسك أنت في رأسه هو، تعيش أنت فيه ويعيش هو فيك، اختزال وحشي للمسافات البينية لبني البشر ولو زالت وتلاشت المسافات البينية في العالم الذري أو المجري لانهار نظام العالم ونحن نعلم أن الذرة والمجرة بل الكون كلة معظمه فراغ، فالمادة المحسوسة لا تشغل إلاّ حيزا ضئيلا جدا جدا من الفراغ أما غير المحسوس فيشغل كل الفراغ تقريبا حيث المجالات. ولو زالت المسافات البينية في التركيبة الاجتماعية لأمة من الأمم لانهارت هذه الأمة ولقادت نفسها طوعيا إلي الفناء ولا يفهم من الكلام هذا أنني متحيز للطبقية لكن بعضها صحي جدا للمجتمع. لا أستطيع أن أصف تلك الفوضي إلا بأنها «غزو الجسد للجسد». فوضي  تعيش فينا ونعيش فيها. 
فوضي الرفاهية 
أما في عالم عربي غني، الخليجي مثلا فالفوضي من نوع آخر ذو رفاهية عالية، حيث تسكن الأدمغة فوضي الإنفاق وأنماط الاستهلاك غير المبرر، ففي الوقت الذي يقتات فيه مسلمون من المزابل، بل هناك من المسلمين من يطوف علي المزابل فلا يجد بها ما يسد بها رمقه ويسكت كلب الجوع بداخله نجد الخليج يلقي ببقايا أفخر أنواع الطعام أطنانا إلي المزابل وهي كثيرة، وعندما تسمع أن هناك كائنات «للزينة» لم تقدم للبشرية شيئا يذكر تنفق 35 مليار دولار سنويا علي مساحيق التجميل، تذوب هذه الزينة مع ضوء النهار وحرارة الشمس ومع ماء الوضوء لتذهب 35 مليار دولار إلي المجاري، ناهيك عن أثاث المنازل الذي يبدل كل عام، تدرك مدى الكارثة التي ستحلّ بهذه البلاد –العزيزة علي قلوبنا- بعد أن يحلّ الغرب مشكلة الطاقة لديه. ولا أستطيع أن أصف ذلك أيضا إلا بأنّه «غزو التّفاهة للعقل» ليجعل الجسد يدور حول التّفاهة والسّفه، وتهدر قيمة العقل في تنمية مهاراته. ولا يظن أحد أنّي أحرّم الزينة التي أخرج الله لعباده بل هي مطلوبة أحيانا بعد أن ينجز الإنسان شيئا من مهمته الرئيسية التي كلّف بها. ونستطيع أن نقول بمطابقة هذه الحال مع مقولة عبد الوهاب المسيري «حين تترك الأمم خصوصيتها، وتتجاوز كل القيم الرومانسية الخاصّة بالشّخصية القومية، لتدخل إلى عالم العموميّة الرائع الرهيب والأملس ... وهذا هو الطريق الذى سيجعل من بلادنا نسخة باهتة من سنغافورة، حيث الأوطان فنادق، والمنازل بوتيكات، والفردوس هو سوبر ماركت ضخم يحوى كلّ السلع الضّرورية والتافهة» [2].  أما باقي دول المنطقة فليس أحسن حالا من هذين المثالين بل بعضها ربما كان أسوأ حالا بكثير، فكل قطر فيه نوع فوضي تجتاحه بحسبه حتي النخاع فمن فوضي الأخلاق إلي فوضي الطائفية والعشائرية إلي فوضي  العلم والعمل والكسل والتكاسل، حتي أصبح كل شئ عندنا أشبه بامرأة عجوز شوهاء قبيحة المنظر تتستر وراء المساحيق لتبدو جميلة أمام نفسها وأهلها أولا ثم أمام الناس.   
والعجب أن هذه هي المنطقة الوحيدة في الدنيا التي تعكس رؤيتها للتوحيد والعدل التي كانت طاقة إيجابية في الماضي إلي نمط خاطئ تماما من توحيد الشعب في الظلم والقهر وتسميه عدلا وترفع مثلا شعبيّا يلف المنطقة بظلامه الدامس «المساواة في الظلم عدل».وهي الشّعوب الوحيدة التي تعلّم أبناءها منذ نعومة أظفارهم كيف يعيشون في الفوضي بدلا من تكسبها ثقافة التّرتيب والنّظام وأطرهم على الحقّ أطرا. هذه هي الشّعوب الوحيدة في العالم التي تستباح ولا تنتفض. وبالتّالي فهي لم تضف إلى رصيد البشريّة على مدى قرون أيّ شئ يذكر ينتفع به النّاس. لذلك أخلص إلى أن الفوضي العامّة عدوّ الثّورة.
الفوضي الخلاقة  Creative Chaos
 قد تكون الفوضي الجزئيّة الواقعة تحت السيطرة مفيدة أحيانا (وهو ما تم الاصطلاح عليه بالفوضي الخلاقة Creative Chaos  وهو مصطلح سياسي عقدي يقصد به تكوّن حالة سياسيّة بعد مرحلة فوضى متعمّدة الإحداث يقوم بها أشخاص معينون بدون الكشف عن هويتهم وذلك بهدف تعديل الأمور لصالحهم [3]. وقد نقلها من النظرية للتّطبيق المحافظون المسيحيون الجدد، بقيادة جورج بوش الابن في حرب الخليج بهدف بسط النّفوذ على المنطقة بشكل أوسع وجذري، وهي تتلخّص في إحداث اضطراب وعدم الاستقرار في المناطق الحيويّة بما يحقّق المصلحة في السّيطرة، إذ كانت الإدارات الأمريكيّة قبل بوش الأب تميل للمحافظة على الاستقرار الدّولي في هذه المنطقة. وقد بشّرت بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس في حديث صحفي مع جريدة الواشنطن بوست الامريكية... في هذا اللقاء الصحفي أذاعت كونداليزا رايس رسيماً نيّة الادارة الأمريكية نشر الديمقراطية في العالم العربي والتّدخل لحقوق المرأة وغيرها لتشكيل ما يعرف بالشّرق الاوسط الجديد، وهو كلام يروّج على المتأمركين وشركاؤهم والدّهماء في المنطقة. وقد أسّست رايس مشروعها في الفوضى الخلاّقة على كلام المستشرق البريطاني الأصل، اليهودي الدّيانة، الصّهيوني الانتماء، الأمريكي الجنسية، «برنارد لويس» والذي وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع عام 1983 م على مشروعه حدود الدّم Blood borders الذي يهدف الى تقسيم وتفتيت الدول العربية والإسلامية الى دويلات على أساس ديني ومذهبي وطائفي.
الفوضي والاستبداد
أمّا الفوضى الكبيرة والعارمة فتؤدّى بسرعة كبيرة إلى استنفاذ الطّاقات والهمم واستبداد كلّ فرد بكلّ فرد بل استبداد الفرد لنفسه وبنفسه أحيانا. يعلّق البروفيسور «كريس بوسيشى» على دور الفوضى في الثورة الفرنسية قائلا: «في الثورة الفرنسية، تُضعف قضيّة زيادة الفوضى القضيّة التي كان رجال الثّورة يسعون جاهدين لخلق نظام اجتماعي جديد من خلال كتابة الدستور» [4]. 
هذه الفوضى لا تخلق أبدا ثورة بل ولا تنجح فيها ثورة وأقصى ما تخلقه الفوضى هبّة لا تلبث أن تضمحل وتزول بل لا أكاد أبالغ إذا قلت أنّ الشعوب التي تجتاحها الفوضى وتفكّر أن تقوم بثورة قبل إصلاح الفوضى -ولو بشكل أوّلي- أي الفوضى الحادثة في كيانات المجتمع هي بمثابة فقدان اختياري للأمّة، أكاد أجزم أنّ الفوضي هي مذهب الاستبداد، ووظيفته الأساسية هي جعل الأمّة في مجموعها لا تشعر بآلام الاستبداد بل ربّما سوقها ناحية الإحساس بأنّه هو الدواء. 
خاتمة
للخروج من هذا النفق التعيس،على الحكماء من الأمّة الاجتهاد في وضع آليّة للتقليل من حالة الفوضى التي تكتسحنا وتستبيحنا منذ قرون. إن نجحنا في هذا تكون أمّتنا بذلك قد وضعت قدميها على بداية الطريق الصّحيح. ولاستكمال هذا الطريق الشّائك لا بدّ لها من القيام بثورة من الذّرة إلى المجرّة، فأعداء الثّورات الدّاخليين غالبا أكثر من الأعداء الخارجيين وهؤلاء وأولئك لن يتركوا مصالحهم التي نمت في أجواء الفساد الفوضوي تضيع وسيحاربون من أجل بقائها لآخر قطرة من دمائهم. وأقول دائما إنّ الثورات حالة من التّثقيف الإجباري لشعب رفض أن ينتشل نفسه من براثن فوضى الجهل بطريقة سلسة على أيدي علمائه لزمن طويل، فأبي الله عز وجل إلّا ينقذه من جهله بسياط القهر بأيدي جلاديه وأظنّه في زمن ليس قصير.
الهوامش
[1] تيموثي ميتشيل «استعمار مصر» (1991)، ص 66 - مطبوعات جامعة كاليفورنيا، مدارات للأبحاث والنشر، ترجمة  بشير السباعي وأحمد حسان (2014)، مصر.
[2] عبد الوهاب المسيري، « العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة: (2002)  الجزء الأول: النظرية «،  دار الشروق، مصر.
[3]  ويكيبيديا:  الفوضي الخلاقة  https://ar.wikipedia.org/wiki
[4] كريس بوسيشى، «ثورة في البحث عن السلطة» (1991)
Chris R.Vanden Bossche, (1991), «Revolution in Search of Authority (Chapter 4)», University of Notre Dame.