وجهة نظر

بقلم
د.نوفل سعيّد
لماذا غاب لدينا الأساس الاجتماعي لاحترام الذات ?
 ان الأساس الاجتماعي لاحترام الذّات هو في الأصل امتلاك مجموع المواطنين لشعور عميق بقيمتهم الخاصة إزاء بعضهم البعض وشعور جماعي بأهمية كلّ فرد في انتاج الخير العام والرّفاه المشترك وهو كذلك إحساس متأصل لدى عموم المواطنين بأهمية بعضهم البعض وباعترافهم ببعضهم البعض كشركاء أكفاء لهم القدرة على تحقيق الخير العام. 
الأساس الاجتماعي لاحترام الذّات يعني، أيضا، في جملة ما يعنيه، وجود مشروع جماعيّ للخير العام جدير بأن تعبّأ طاقات جميع المواطنين من أجل تحقيقه. هذا المشروع الذي من المفروض أن يتمّ اصطحابه ومرافقته من قبل النّخبة السّياسية التي يتمثل دورها،عندئذ، بصفة أساسيّة في بلورة الأدوات القانونيّة الكفيلة بتحقيقه.
لا يتمثّل إذن دور النّخبة السّياسية في الدول الديمقراطية ومن وراءها الدولة في إخضاع المواطنين وفرض إملآت عليهم بعنوان النّهوض بالمجتمع ودفعه – بصورة فوقيّة- نحو التّقدم والازدهار، بقدر ما يتمثّل دورها في ابتداع واجتراح الوسائل الكفيلة بتحقيق الخير العام كمشروع جماعي وضمان استمراريته وبقاءه و بالتّالي في تعميق الشّعور لدى مواطنيها بأهمّيتهم في صنع هذا المشروع .
إنّ الأساس الاجتماعي لاحترام الذّات باعتباره قيمة مؤسّسة لحياة اجتماعيّة إجابيّة وبناءة وسلميّة مرتهن الى حدّ كبير بمبادئ العدالة وبشعور المواطن العميق أنه، في المحصلة، سيجني بشكل عادل ثمرة مساهمته في صنع الخير العام.
إنّ الدّولة التي تنصب نفسها على أنّها الأداة المثلى والدائمة والوحيدة لصنع «فرحة الحياة» والنّهوض بالمجتمع والتّوزيع العادل للخيرات-أي باعتبارها آداة هيمنة رمزيّة- لا بدّ أن ينتهي بها المطاف الى التّموقع ضمن الصّراع الطبقي الى جانب الشرائح الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة ليتحوّل مشروع «فرحة الحياة» الى مشروع «بؤس الحياة» اعتبارا الى أنّ منطق الهيمنة - الذي بدأ رمزيّا لينتهي اقتصاديا- لا يمكن أن يصنع الّا الضّيم في توزيع الخيرات والوصاية ويعزّز الانتظاريّة والسلبيّة لدى عموم المواطنين وعدم إيمانهم بقدرتهم على صنع الخير العام باعتبار أنّ الدولة، التي عمّقت لديهم هذا الشعور، تصرّعلى تقديم نفسها على أنّها هي الجهة الوحيدة الكفئة التي يجب أن تدور نحوها الأعناق لطلب الخيرات. 
لقد عزز التوزيع العالمي للعمل للنّظام الرأسمالي العالمي الجديد هذا الدور لدى الدولة التونسية الحديثة اعتبارا الى أنّه قد دفعها الى الانخراط فيه – كدولة طرفية تقــع على تخومــــه – من خلال ما يسميـــه أهل الاقتصــاد بالتخصص في جلـــب الصناعات الذيلية(الطرفية) ذات المحتوى التقنـــي الضعيــف «Les industries de bout de chaine» التي لا تحتاج الى كفاءات علمية و تقنية عالية وهو الشىء الذي يفسر الى حد ما عجز النسيج الاقتصادي التونسي عن استيعاب الكمّ الهائل من أصحاب الشهادات العليا. إنّ مواصلة انخراط الدّولة في هذا الدّور لا يمكن إلاّ أن يفاقم عجزها على تحمّل تبعاته الاجتماعية الثقيلة من تفقير وتهميش لقطاعات شعبية واسعة ويكشف عجزها على قيادة التّنمية.
إنّ فشل المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية في صنع وبناء الأساس الاجتماعي لاحترام الذّات يمكن أن يردّ الى فشل المنوال التنموي المرتبط بتهالك دورالدّولة المركزي- بناءا على موقعها ضمن التّوزيع العالمي للعمل للنظام الرأسمالي العالمي الجديد- في صنع الخيرات والمنافع وتفاقم هذا العجز خلال العقود الأخيرة.
لم يبق إذن والحالة كما هي للمواطن الاّ البحث المحموم عن الخلاص الفردي بكل الوسائل المتاحة سواء كانت قانونية أو غير قانونية (انظر مسألة التهريب والاقتصاد الموازي مثلا) دون اكتراث ببقيّة المواطنين لاقتناعه بأنّ هؤلاء لا يمكن أن يمثّلوا لديه الاّعبئا وعائقا أمام رفاهته الخاصّة وخلاصه الفردي وليسوا أطرافا أكفّاء لانجاز الخير العام الذي يعتبره غير موجود وغير قابل حتّى للانجاز. كل ذلك يدفع الى تضخّم الأنانية بشكل مرضي ويولد شعورا عميقا بأنّ كامل المنظومة الاقتصاديّة والاجتماعية والسياسية والقانونية لا يمكن أن تصنع الا احتقار المواطن لبقية المواطنين وتعميق الشّعور الجماعي بالعجز عن ابتداع حلول بديلة تأخذ بعين الاعتبار الخلاص الجماعي لا الخلاص الفردي.