الأولى

بقلم
فيصل العش
أولوية الثقافي ودوره في الفعل الحضاري
 يزداد المرء يقينا يوما بعد يوم بأنّ مجتمعاتنا العربية الاسلاميّة تعاني من تخلّف كبير في جميع المجالات. وقد زادت الثورات والأحداث السّياسية والاجتماعية المتسارعة التي حدثت في السّنوات الأخيرة في تعرية هذا الواقع. 
إنّ ما نعيشه اليوم من الفرات إلى النيل ومن النيل إلى تخوم المحيط الأطلسي يعبّر عن مدى الانحطاط الذي غرقنا في وحله، انحطاط في التربية والأخلاق وانحطاط في مستوى التعليم ومخرجاته وانحطاط في القدرات الاقتصاديّة بالرغم مما حبانا به الله سبحانه وتعالى من خيرات الأرض (بترول، غاز، سمك، زيتون....) وانحطاط سياسي تجسّد في تعامل فظّ للحكام مع شعوبهم وصعوبةٍ في تحقيق انتقالٍ ديمقراطيٍ يغيّر العلاقات بين السّلطة والشّعب ويحوّل الإنسان العربي من عالم الرعيّة إلى عالم المواطنة ليكون مشاركا في الحكم وصاحب القرار. كما تجسّد هذا الانحطاط السّياسي في استفحال واقع التجزئة وترهّل الدولة القطريّة وضعفها وتبعيتها للخارج.
ليس هذا الانحطاط وليدَ اليوم كما يحاول التسويق له ثلّة من أشباه المثقفين والإعلاميين الذين يتباكون على ماض يدّعون أنّه مليئ بالاستقرار والأمن والأمان وإنّما هو نتيجة تراكمات أفكارٍ وممارساتٍ بدأت منذ تحوّل الحكم إلى ملك عضوض وهيمنة عائلات  أو قبائل بذاتها على مقدرات الأمّة وتحكّمها في مصيرها وامتدت طيلة قرون من الزّمن إلى وقتنا الحاضر بما في ذلك فترة الاستعمار المباشر وفترات «الدولة الوطنيّة» التي أنتجت حكما فرديّا مستبدّا (زعيما أو حزبا) وكرّست واقع الاستبداد والتبعيّة للمستعمر القديم بتعلّة الاستفادة من قوّته وتقدمه في مختلف المجالات.
ومع العوامل الذاتية التي تسبّبت في هذا الانحطاط ، هناك عوامل خارجيّة لا تقلّ أهميّة ساهمت في ما نحن عليه من تخلّف وهي عوامل متأتية من رغبة الهيمنة التي تحكم العقل الغربي المستعمر والذي حاول عبر مختلف الوسائل أن يكرّس واقع الانحطاط ويفرض نمطا واحدا للتفكير والعيش عبر عولمة كاذبة تدمّر خصوصيات الشعوب وتنوع ثقافتها. 
  إصلاح ثقافي لتغيير ناجح
تأكد للجميع - إلاّ من أخذته العزّة بالإثم - بأن تغيير هذا الواقع إلى الأفضل أمر في غاية الصّعوبة والتّعقيد ويتطلّب فهما عميقا لطبيعة مجتمعاتنا وللعوامل الدّاخليّة والخارجيّة المؤثّرة فيها. ولأنّ ثقافة الشّعوب هي التي تحدّد قابليتها للتّطور وقدرتها أو عجزها على استيعاب ما يحدث من حولها من تغيّرات في مختلف مجالات الحياة ومن ثمّ التفاعل معها والتأثير فيها، فإنّ ما نعيشه اليوم في البلاد العربيّة وما نلمسه من تحوّلات محلّية ودوليّة يدعو إلى ضرورة إحداث تغيير كبير في ثقافة هذه المجتمعات حتّى تتحرّر من العوامل المكبّلة لعمليّة نهوضها وتنميتها وتقدّمها. فالمسألة الثقافية كما يقول رضوان السيد «تقوم أساسا على البنية الثقافية للمجتمع حيث تحدّد هذه البنية إلى درجة كبيرة واقع ومستقبل المجتمعات العربية والاسلاميّة بل أن معظم الإشكالات تعود أساسا إلى أسباب ثقافية بالدّرجة الأولى»(1). فلا مجال لحدوث نقلة اقتصاديّة واجتماعيّة معتبرة للشّعوب العربيّة تحرّرها من التبعيّة وتضمن لها موقع الفاعل في الحضارة بدل المفعول فيه من دون إيلاء المسألة الثقافية الاهتمام اللاّزم والانطلاق في إصلاح ثقافي عميق يشمل تغييرا في السّلوك والاتجاه والقيم ومفاهيمنا للعمل، والوقت، والنظام، والسّلطة، والمؤسّسات.
ولكن لماذا هذا الربط الألزامي بين الإصلاح الثقافي وامكانية النّهوض والإقلاع واعتبار الأول شرطا أساسيّا لتحقيق الثاني؟ ألا يمكن تحقيق التّطور الاقتصادي والرفاه الاجتماعي من دون المسّ بالمسألة  الثقافية؟    
للإجابة على هذه الاسئلة التي تتلخص في أولويّة الثقافي ودوره في الفعل الحضاري، نرى أن نعود مع القارئ الكريم إلى صفحات التاريخ لنقلّبها بحثا عن أسباب صعود أو سقوط الحضارات بما أنّ التاريخ لا يكذب ولا ينسى وهو مرآة الباحثين.
لنسأل التاريخ عن سبب نهضة أوروبا وسيطرتها على العالم. إنّه سيجيبنا بأن ذلك حصل بعد أن تحرّر الأوربيّون من هيمنة الكنيسة وتشبّعوا بأفكار رموز عصر التنوير من أمثال «إيمانويل كانط» (1724-1804) و«غوتهولد إفرايم ليسينغ» (1729-1781) عبر كتاباته ومسرحياته التي انتقد فيها  الدوغمائية الدينية، ودعا إلى التسامح والحريّة والمساواة بين مختلف الأديان ولقد تجلت أفكار ليسينغ بالخصوص في مسرحية «ناثان الحكيم»، و«جان جاك روسو» (1712-1778) الذي اعتبر أن مهمّة المثقفين والمفكرين هي مساعدة الناس على التحرر من الميتافيزيقيا، والظلامية الدينية، ومن طغيان النظام الملكي المطلق. أليس هذا فعلا ثقافيّا؟ ألم يكن هؤلاء المفكرون قادة ثورة ثقافيّة فتحت الباب على مصراعيه أمام الحضارة الأوروبيّة لتتربع على عرش الحضارات؟
ولنعد إلى الوراء ونستنطق التّاريخ عمّا فعله محمّد صلّى الله عليه وسلّم في قومه؟ ألم يكن العرب أذلّاء تابعين للفرس أو للرّوم؟ ما الذي جعل العرب يحكمون العالم في بضع سنين ويُعلنون ولادة حضارة جديدة هيمنت بسرعة البرق على الحضارتين الفارسية والرومانيّة؟ سيذكّرنا التّاريخ بقول محمد صلّى الله عليه وسلّم :«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ»(2) وقوله:«وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً»(3)ليؤكّد لنا أنّ مهمّة الرّسول صلى الله عليه وسلّم كانت بالأساس تغيير جملة الخصائص الروحيّة والنّفسية والأدبيّة والقيميّة لدى الإنسان، أليس هذا فعلا ثقافيّا؟ أليست الثقافة هي مجموع تلك الخصائص لدى الأمّة؟
لنسأل التّاريخ عن سبب سقوط الحضارة الإسلاميّة وتخلّف المسلمين. ستكون الإجابة بالتّأكيد نتيجة فعل ثقافي. مالذي حدث لكي يتحوّل الحكم من الشّورى إلى ملك عضوض وتصبح الثّروات ملكا لعائلات قليلة فرضت هيمنتها الاقتصادية والاجتماعيّة على الأمّة؟ إنّه تغيير الثقافة السّائدة. لقد عمد من بيده السّلطان إلى وضع يده على الدّين وعلى المؤسّسات الفاعلة في الأمّة ليزرع ثقافة الهلع والخوف في نفوس شعوبها وهي ثقافة لا تنتج غير مجتمعات من القطعان ليس بوسعها فعل شيء. سيذكرنا التاريخ بإحدى اللوحات الدّاكنة من الاستبداد التي رسمها أحد ولاّة بني أميّة وسردها الطبري (839-923) في تاريخه: «أيّها النّاس اعلموا على مَن اجترأتم ومن عصيتم، إنّه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين ليست فيه غميزةٌ ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على مَن عصى وسيفه على من خالف، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا» (4) ويذكّرنا بالقولة الشهيرة للحجاج بن يوسف: «أمّا والله إنّي لأحمل الشّر محمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. وإنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإنّي لأنظر الى الدّماء بين العمائم واللّحى قد شمّرت عن ساقها تشميرا»(5).
ولنسأل التّاريخ عن قصّة اليابان كيف عادت فيها الروح من جديد وأصبحت من أعظم الدوّل المتقدّمة بعد أن دمرت في الحرب العالميّة الثانية، ألم يكن للثقافة أكبر الأدوار في ذلك؟ واسألوه عن الثورة الثقافية التي لولاها لما قام لماوتسي تنغ حكم عظيم في الصّين.
ولنسأل التاريخ عن سبب فشل «حكومات ما بعد الاستقلال» في العالم العربي في بناء دول قويّة متقدّمة ونجاح حكومات أخرى في سنغفورة وماليزيا مثلا  حيث حققت تقدّما مبهرا بالرغم من فقدانها للثروات الطبيعيّة.  إنّها المكانة التي أولَوْها للمسألة الثقافيّة قبل كل شيء وكيفيّة التّعامل معها.
هذه عيّنات من التّاريخ توثّق أهميّة المسألة الثقافيّة في نهوض الأمم وصعود الحضارات والأمثلة كثيرة لا تحصى ولا تعد تؤكّد على أن تحقيق التقدّم والرقيّ يتطلّب قبل كلّ شيء إصلاحا ثقافيّا. 
 عناصر الإصلاح الثقافي
ولأنّ الإصلاح الثقافي أو الثورة الثقافيّة كما يحلو للبعض منّا تسميته ليس عملا نظريّا أو مخبريّا وليست أفكارا على ورق بل هو عمل ميدانيّ مجال فعله المجتمع بما يحمله من تعقيدات وما تحكمه من علاقات متشابكة بين مختلف المجالات وما تحيط به من مؤثرات داخليّة وخارجيّة، فإنّ فهم هذا المجتمع ومكوناته ومدى قابليته للتغيير وتحديد العناصر المؤثرة فيه بالسّلب أو بالإيجاب أمر حيوي لبلورة رؤية ناضجة لمداخل الإصلاح الممكن وتحديد الخطّة المناسبة للفعل ولضمان نسبة معتبرة لنجاحه. 
إن الحديث عن عمليّة الإصلاح الثقافي يقودنا إلى الحديث عن عناصرها الأربعة الأساسيّة المتشابكة فيما بينها وهي :
- الثّقافة التي نريد.
- النخبة أو الكوادر التي ستنفذ العمليّة.
- الجماهير بصفتها العنصر الذي يقع عليه فعل التغيير/الإصلاح من ناحية وبصفتها مشاركا أساسيّا في صنع هذا التغييرمن ناحية أخرى .
- المجال والوسائل المعتمدة.
لكنّ الحديث عن هذه العناصر يتطلب تفكيكا دقيقا لطبيعتها وواقعها وتحديدا لنقاط قوّتها ونقاط ضعفها ليتمّ بعد ذلك استنتاج المتاح للفعل فيها ومن ثمّ وضع التصوّرات الممكنة والمرجوّة لمشروع الإصلاح الثقافي حتّى يكون مشروعا واقعيّا مخرجاته مقبولة وممكن تحقيقها. فليس الهدف أن نكتب وننظّر ونضع تصوّرات تفتقر إلى الواقعيّة والمصداقيّة فتوضع في النهاية في الأدراج ليكون مآلها النسيان.
ولهذا سنؤجل الحديث عن هذه العناصر إلى مقالات قادمة نعالج فيها كل عنصر على حدّة لنقدّم في الأخير تصوّرنا للفعل الثقافي وكيفيّة تحقيق الإصلاح المنشود.
الخاتمة
إنّنا نعتقد أنّ الأمّة العربيّة الإسلاميّة بصدد خوض معركة حاسمة من أجل البقاء وإنقاذ كيانها من التفكّك  والاضمحلال. معركة ضدّ الفقر والتّبعيّة الاقتصاديّة ومعركة ضدّ الجهل والأميّة ومعركة ضدّ الاستبداد والهيمنة الأوروأمريكيّة ومعركة ضدّ الصهيونيّة وما لفّ لفّها من جماعات ومنظمات هدفها تفتيت الأمّة ومنع أي محاولة لنهوضها من جديد.
وإذا كان لهذه المعركة وجوه عديدة وساحاتها مختلفة ومتنوعة، فإنّ المعركة الثقافيّة هي المعركة الرئيسيّة وهي التي ستحدّد مصيرنا ومصير الأجيال التي ستأتي من بعدنا. وبرغم حالة الوهن التي نحن عليها وفشل كل المحاولات السّابقة التي قادها المصلحون منذ قرنين أو يزيد فإنّ عوامل عديدة تجعلنا نتفاءل ونأمل عدم خسارة هذه المعركة. وبالرغم من تفاوت موازين القوى بيننا وبين أعدائنا من حيث الوسائل وطبيعة النخب ووعي الجماهير فإنّ علينا أن ندخل عليهم الباب ونبدأ بالعمل ونصبر على ما يمكن أن يعيق عملنا ولا نتعجّل.. أمّا النتيجة فلن تخرج عن سنن الله عزّ وجلّ الذي قال في كتابه العزيز وهو أصدق الصادقين : « وادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»(6) وقال أيضا : « كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(7). 
الهوامش
(1) د. رضوان السيد، المسألة الثقافية في العالم العربي الإسلامي، دار الفكر المعاصر بيروت - ص 12
(2) رواه مالك في الموطإ عن أبي هريرة
(3) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو
(4) تاريخ الأمم والملوك/ج6 .
(5) نفس المصدر
(6) سورة المائدة - الآية 23
(7) سورة البقرة - الآية 249