قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
معركة الوطن
 (1)
أرادت «داعش» أن تقيم إمارة اسلاميّة في مدينة بنقردان على الحدود مع ليبيا ولكنّها خلّفت جثث أتباعها وأحزانا وشهداء وألما على طول البلاد وعرضها ولم تزد عن كونها أفسدت وخرّبت ولفت المدينة بالحزن الشديد.
(2)
أخذ المهاجمون المدينة على حين غرّة ولكنّهم انهزموا شرّ هزيمة ،غير أنّ العبرة ليست فى هزيمتهم السّريعة فقط ولكن العبرة في ما خلّفته الحادثة الأليمة من أسئلة أصبح من الضروري الإجابة عليها، لماذا يقاتل هؤلاء وطنهم ويقتلون أبناءه؟ لماذا يقتلون طفلة لم تبلغ الحلم بعد ولا تمثّل خطرا على أحد ويتركون لوعة فى قلب أهلها لا تنطفئ؟ لماذا يرفعون لواء الدّين وهم لا يعرفون من الدّين شيئا ؟ وهل تسمح لهم أعمارهم أو يسمح لهم تحصيلهم العلمي بفهم الدّين أو اتخاذه حجّة على النّاس؟ لماذا ينقادون كالبلهاء إلى موت حتمي وكأنهم بلا إرادة ؟ وهل يمكن إقامة إمارة فى أرض تحرسها الدّولة بمشروعها وشرعيتها ولا يرى مواطنوها مكانا للغرباء فيها؟ ولماذا يأتى هؤلاء الآن بمشروع  تدميري بعد ثورة ملؤها الأمل؟
(3)
إنّ من ينظر في المتغيّرات التى تشهدها الخارطة العربيّة منذ عقدين لا يمكن أن تخطئ عيناه محاولات التّقسيم والتفتيت التى تُحاك للعرب والتى لم تعد ترى فى تقسيمات «سايس بيكوا» سوى مرحلة وجب الآن انهاؤها وتعويضها بمشاريع أكثر تقسيما وتفتيتا، ولعلّ «داعش» لا تعدو أن تكون وسيلة أخرى من وسائل تنفيذ هذه المخطّطات والتى لا تستفيد منها أوطاننا شيئا ولعلّ ما يحدث في سوريا وفي العراق خير مثال.
لم تظهر «داعش» من فراغ ولم تأت بمشروع يمكن أن يستهوي أمّة ظلّت منذ ما يقرب القرنين تبحث لها عن طريق تسلكه نحو التّحديث والرقي واستعادة مكانتها بين الأمم. قرنان والمفكرون والعلماء والمناضلون والزعماء يصارعون من أجل استنهاض عزيمة الأمّة وتحريرها من الاستعمار ثم من الاستبداد واسترجاع ثروات الأوطان المنهوبة وإقامة دولة الحرّية والمواطنة. قرنان من المعاناة التى عاشتها فئات كثيرة من مختلف المشارب حتى انبلج فجر الحرّية أو كاد بعد الثّورات العربيّة المتعاقبة، وحين آمن النّاس بحقهم فى استرداد ما ضاع منهم، ظهر هؤلاء المتطرّفون ليسدّوا الأفق أمام الأمّة بأسرها ويعطوا كلّ المبرّرات  لكي تعود الهجمة على الأوطان من جديد ولكي تدخل الأمّة فى دورة جديدة من الظّلمات ولكن مع دمار للقيم والعمران وحتّى للدّين نفسه.
(4)
لم نعد إزاء ظاهرة دينيّة عابرة ولا إزاء أناس عديمي الفهم فقط وإنّما أصبحنا أمام ظاهرة تهدّد الوطن فى كيانه والأمّة في وجودها إذ لم يسبق لنا من قبل أن عرفنا أناسا يقتلون بني جلدتهم ودينهم من أجل أوهام فى نفوس مريضة وخدمة لأعداء الأمّة من دون مقابل، ولم يسبق لنا أن عرفنا هذا الصنف من النّاس الذي يتداعي إلى مقتله من دون أيّ أفق، خالي الذّهن من أي مشروع بل ربما كان يعرف أنّه يخدم أعداء الوطن ولا يبالي.
انفجر البلد كله صارخا فى وجه هؤلاء العابثين اللذين يتّخذون من الدّماء المحرّمة شرعا وقانونا وسيلة للتّمكين لأفكار لا قبل لها بالحياة. وضرب النّاس أروع الأمثال للدّلالة على عميق حبّهم لهذا الوطن الذى لم يتمكّن منه الاستعمار ولا الغازون من قبله،  بلد استعصت على غزاتها من قبل ولن تكون لقمة سائغة فى أيدى قلّة مهما كان الدّعم الذي تلقّته وتتلقاه. لقد قلنا من قبل أنّ هؤلاء غرباء عنا وعن ديننا وبأنّ اللّذين يريدون أن يسلكوا طريقا آخر غير طريق الحرّية والديموقراطية والتنمية العادلة لن يستطيعوا الانتصار مهما فعلوا لأنّ الشّعوب التي استفاقت من غفوتها تدرك من خلال تجربتها الطويلة أنّ من ثارت عليهم ليسوا إلاّ نموذجا من هؤلاء وإن تدثّروا برداء آخر وأنّ معركتها من أجل الرخاء ليست بمنآى عن معركتها من أجل الحرّية والابداع وأن هؤلاء لا يمكن أن يزيدوا الشّعوب إلا تفقيرا وهوانا وأنهم لا يملكون تجاه رغبتنا في التّحرر والرقي سوى السّيف يضربون به أعناقنا أو الخراب الذي لا مجال فيه لأيّ حياة انسانية بينها وبين الحضارة صلة واتصال. 
(5)
لقد كان من الحتمي الانتصار ليس فى معركة بنقردان فقط ولكن فى كلّ المعارك التى تخاض على امتداد الوطن. والخيار ليس بين النّصر والهزيمة وإنما هو بين النّصر والنّصر فنحن مجبرون على الحياة بمعناها السّامي كما كانوا هم دائما مجبرون علي الموت دون معنى. معركتنا معركة وطن عاني من الاستعمار وأذياله ومن المتآمرين عليه، كما عاني من الاستبداد والجور والظلم وهدر الكرامة، ولم يعد بوسعه التّسليم بالهزيمة لأيّ كان بعد أن دخل مرحلة التّحرر والحرية. إنّنا إزاء معركة فاصلة وفارقة ولن يكون بوسعنا العودة إلى الوراء لأنّ إشاعة الخراب و الفوضي سوف يكون مقدمة للكارثة ولن يكون نهاية لها وقد تعلّمنا من تجارب غيرنا أنّ الانهيار سهل ولكن النّهوض صعب والمعارك لا تخاض بالعنتريات ولا بأشباه العارفين ولا بالمشعوذين وبائعي الدّجل وإنّما بالحكمة والحزم والشدّة وبالحفاظ على الكيان سليما معافى مهما كانت التضحيات.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com