شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
جميلة بوحيرد
 امرأة من قسطنطينة، لم تعرف شفتاها الزينة، لم تدخل حجرتها الاحلام، لم تلعب ابدا كالاطفال، لم تغرم في عقد أو شال، لم تعرف كنساء فرنسا أقبية اللذة في «بيغال»... أجمل أغنية في المغرب، أجمل طفلة أتعبت الشمس ولم تتعب، يا ربي هل تحت الكوكب يوجد إنسان يرضى أن ياكل أن يشرب من لحم مجاهدة تصلب ... بهذه الأبيات الشعرية وصف نزار قباني ضيفتنا في هذا الركن المجاهدة الجزائريّة «جميلة بوحيرد» إحدى أبرز شخصيات سياسية طبعت القرن العشرين.
ولدت جميلة بوحيرد في حي القصبة بالجزائر العاصمة عام 1935، في عائلة متوسطة الحال من أب جزائري وأم تونسية كانت تغرس حب الوطن بداخل أبنائها السبعة وفي قلب وعقل ابنتها الوحيدة جميلة وتذكرها دوماً بأنها جزائرية ولست فرنسية!. وقد تلقت تعليمها في مدرسة فرنسية، لكنها سرعان ما انضمت لحركة المقاومة السرية عن طريق شقيقها. وكانت آنذاك فتاة باهرة الجمال وجريئة للغاية.
عند اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954 انضمت إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية للنضال ضد الاحتلال الفرنسي وكانت في العشرين من عمرها لتمارس حقها كأي إنسان محب لوطنه، ضاربة بعرض الحائط كل موروث ثقافي يحد من قدرتها على العمل، ولتقول بإشارة واضحة لكل نساء العالم: «إننا أيضا نحسم المعركة في الميدان».عملت «جميلة» خلال أعوام انطلاقة الثورة كمسؤولة ارتباط مع القائد «سعدي ياسف»، ثم التحقت بصفوف الفدائيين وكانت أولى المتطوعات لزرع القنابل في طريق الاستعمار الفرنسي، ففي 26 جانفي 1957 بدأت قصتها النضالية عندما فجرت قنبلة موقوتة في ملهى يتردّد عليه الشبان الفرنسيون الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في الجزائر وتتالت بعده الانفجارات، ونظراً لبطولاتها أصبحت من أهم المطاردين ولسوء حظّها سقطت في قبضة العدو، فقد في 9 أفريل 1957 اعتقلتها دورية للاحتلال بعد أن أصيبت برصاصة في كتفها الأيسر وضبطت معها وثائق ورسائل ومبلغ كبير من المال، واتهمت بزرع الكثير من المتفجرات والعبوات الناسفة في العاصمة، مما أودى بحياة الكثير من الفرنسيين. بدأت «جميلة» رحلتها القاسية مع عمليات تعذيب يصعب تصورها استمرت سبعة عشر يوماً متواصلة، فضربت وأحرقت بالكهرباء في مكان الجرح المصابة به وفي نهديها والعضو التناسلي وأصيبت بنزيف شديد أدى إلى انقطاع الحيض وبعجز عن رفع ذراعها اليسرى وأطلقت أثناء مراحل التحقيق معها مقولتها الشهيرة « أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام لكن لا تنسوا إنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة». ذلك ثمّ قدمت للمحاكمة في 16 جويلية 1957، فحكم عليها بالإعدام. وبعد 3 سنوات من السجن تم ترحيلها إلى فرنسا وقضت هناك مدّة ثلاث سنوات.
انطلقت التظاهرات الشعبية احتجاجاً على اعتقالها وتطورت قضيتها لتصبح قضية عربية وعالمية نتيجة حملة واسعة غطت العالم بزواياه الأربع قام بها محاميها الفرنسي «جاك فيرجيس» وكان من نتائج الضغط الكبير الذي مارسه الرأي العام العالمي وبعض الزعماء العالميين من أمثال جمال عبد الناصر والرئيس الهندي نهرو، والزعيم السوفياتي فورو شيلوف أثر حاسم في إجبار الفرنسيين على تأجيل تنفيذ الحكم بإعدامها ثمّ قامت السلطات الفرنسية بتخفيف حكم الإعدام إلى السجن المؤبد وكانت جميلة تقول: «كنت أفضل الموت على حياة المعتقل، ليتهم أعدموني لأستريح من العذاب الذي أعانيه الآن.» 
خرجت من السجن في العام 1962 وتزوجت محاميها «جاك فيرجيس» وشاركته في تأسيس مجلة تعنى بالثورات القومية الافريقية. وبعد الاستقلال، تولت جميلة رئاسة اتحاد المرأة الجزائري وقدّمت مع صديقتها المناضلة «زهرة دريف» بمشروع قانون متطور للأسرة، ونظمت تظاهرة نسوية لتحقيقه. كانت تلك التظاهرة الأولى التي تحصل بعد الاستقلال، لكنها فشلت في تغيير الموقف الرسمي.
وحدهم العظماء يعرفون معنى الصمت، لذلك انسحبت ببساطة وفي سكون تام كأي كائن جريح، هربت داخل مرايا النسيان واختارت الصمت الصادق، المخيف، الجبار، والجليل سنوات طويلة···هذا الإحباط الذي أصابها دفعها إلى أن تصرح في العام 1987 باسم المناضلات الجزائريات: «لقد تم نسيانهن قبل 25 عاماً».
كثيرون يعتبرون أن جميلة بوحيرد هي أبرز المناضلات من أجل الحرية في القرن العشرين. لكن المعلومات المتوفرة عن هذه البطلة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قليلة إلى حدّ كبير، ولأسباب غامضة للغاية. وفي الواقع، يبدو وكأن ستاراً يلقى عمداً عليها وحولها في محاولة لطمس اسمها ودفعها إلى زوايا النسيان. المعلومات حول دورها – على الرغم من أهميته – في ثورة التحرير الجزائرية تتكون في معظمها من سطور قليلة متناثرة هنا وهناك. 
قصة المناضلة الجزائرية (جميلة بوحيرد)، واحدة من مليون قصة لشهداء ثورة الجزائر، وهي قصة لا تقل في بطولتها عما قدمه المليون شهيد، لكنها بما احتوته من مآس وصمود ترتفع الى مستوى الرمز لتعبر عن كفاح الجزائر وتصبح مثلا على التضحية من أجل الاستقلال.