وجهة نظر

بقلم
لسعد الماجري
تونس في المحكّ : نحو رسملة التجارب المتراكمة حول الإرهاب
 في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها بلادنا بعد العملية الإرهابية بمدينة بن قردان الجنوبية والتي راح ضحيتها قرابة ثمانية عشر بين عسكريين وأمنيين ومدنيين والذي تكبّد فيه الإرهاب الداعشي ضربة قاسية على أيدي جنودنا البواسل بعد قتل قرابة 42 ارهابيا والقبض على 7 آخرين منهم وهذه حصيلة ثقيلة عليهم تعترينا مشاعر مختلطة من الألم والأمل : ألم على ضحايانا البررة وأمل في المستقبل بعد أن أثبت الجيش والأهالي أنّهم كانوا سدّا منيعا أمام البربرية والتوحش الداعشيّ! 
نلاحظ بعد ذلك موجة عبر الشبكات الاجتماعية والإعلام الرسمي والغير الرسمي فيها اعتزاز كبير بقوة الرد وبنجاح العملية العسكرية والأمنية. ونحن واٍن كنا نثمّن هذا النجاح فإننا لا ننساق في التصفيق رغم أنّ جيشنا يستحق أكثر من ذلك لأننا نعلم أن الإمكانيات المادية مازالت لا ترقى إلى المستوى المطلوب لمواجهة إرهاب أثبت أنّه ذو خلفية إقليمية ودولية وأن مقاومته تتطلّب ذكاء وحنكة وعقلا وإرادة سياسية واستراتيجيا فعلية بقدر ما نؤكّد على ضرورة الإسراع في اٍنجاز هذه الآليات والاستراتيجيات الوطنية الاستعجالية. وفي سياق هذا التفكير لا بد لنا من الإشارة إلى النقاط التالية :
(1) الابتعاد عن التعامل العاطفي
الابتعاد في التعامل مع هذه الظاهرة المعقّدة عن التعامل العاطفي الذي تتأجج فيه الأحاسيس دون الانضباط لاستراتيجيات واضحة المعالم تحدّد مجال التدخلات الأمنية الديوانية والعسكرية. فبالرغم من أننا نتفهّم اندفاع المواطنين وحماسهم للذود عن وطنهم فلا يمكن السماح بالتهوّر ومطاردة مدجّج بالسلاح من طرف أعزل فهو يعرّض نفسه للخطر المحقق ويعقّد العمليات العسكرية والأمنية على أصحاب المهمّة.
(2) الابتعاد عن التعامل ألحيني
الابتعاد عن التعامل ألحيني والمؤقت مع الظاهرة الإرهابية أي الوقوف عند ردّ الفعل. فنتحرّك عندما يظهرون ويبرزون إلى السطح وننسى إن اختفوا أو استعملوا التقية. علينا مباغتتهم وإرهابهم ومطاردتهم والتضييق عليهم والاستباق في التعامل معهم فالإرهاب يدعو إرهابا أكبر. لا يمكن أن نواصل في الوقوع عند رد الفعل دون المرور إلى الفعل. فهم يخططون وينفذون ويمرّون من حالة إلى أخرى متقدمة أكثر فأكثر. فأنا لا أظن أنهم جاؤوا هذه المرّة كما يحلو لكثير من السياسيين أو الأمنيين أو المحللين العسكريين لإقامة إمارة في بن قردان. إقامة إمارة في جزء من الوطن ليس بالأمر الهيّن الذي يقدر عليه خمسون إرهابي حتى واٍن كانوا مدجّجين بأحدث الأسلحة أو كانوا مجانين. لنتساءل  اٍذا لماذا هم هنا ؟ كيف تسلّلوا؟ لماذا اختاروا هذه المنطقة بالذات ليتحوّلوا من حالة إلى حالة ؟ 
كيف دخلوا ؟ 
تثبت لنا العناصر الأولية أن معظمهم تونسيون ومن أهالي هذه المدينة يرتادون بيوتها ولا يعلم الناس عن وضعيتهم الإرهابية شيئا. صحيح أن معهم بعض الجنسيات الأخرى ولكن دخولهم عبر الحدود الليبية سهل حتى من المعابر الرسمية بعد الاستظهار بجوازات مزوّرة. 
لكن كيف دخل السلاح ؟
ووصل تلك المخازن التي وقع العثور عليها مؤخرا والمملوءة أسلحة تبيد مدينة! علينا التساؤل وتقييم أداء الأجهزة الديوانية! ففيهم من هو غائب الضمير ولا يحضره الموقف الوطني ومن هو غير مبال بما في الحاويات بل همّه لهف الأوراق النقدية! لنحترس يا أيتها الأسلاك الحاملة للسلاح. نعم أكثركم رجال وطنيون لكن الغادر والتافه والأناني يعيش بيننا فاحترسوا قبل فوات الأوان.
لماذا اختاروا بن قردان ؟ 
هم في الحقيقة لم يختاروها هي فقط بل تستهويهم كل المدن الحدودية ليسهل الاختراق والولوج والخروج. لا بد لهم من بوابة. فمثلا في سوريا كانت درعا الحدودية مع الأردن وكانت الرقة كما كانت عرسال الحدودية مع لبنان وهكذا هم دائما يخططون علميا. يبحثون عن موطأ قدم بين الحدود يسهل عبره الدخول والتهريب لأن لوجستيك التهريب موجود فعلا في بلداننا. فالمهرّبون موجودون بيننا يهربون السلع والآلات الالكترونية والمنزلية وغيرها وهاته اللوجستيا نفسها يقع تحويل وجهتها فتهرب السلاح أيضا لأن ديدنها هو الربح المالي ولا تفكر في العاقبة الوخيمة على الوطن. هم اختاروا بن قردان لأنها مدينة حدودية مع بلد يعيش أوضاعا متوترة وتغيب فيه سلطة الدولة وبالتالي يسهل فيه التحرك والتدرب والتحضير والانتشار والتمدّد. في مدينة القصرين أيضا مكثوا سنوات في جبالها وأرهبوا سكانها.
لماذا اختاروا هذا التوقيت؟
من الأرجح أنهم يبحثون عن نفس بعد ضربة مصراطة وهروب الكثيرين منهم بعد الضربة الجوية الأمريكية الأخيرة والتي لا نفهم سياقها وماذا تخطط له إلا إدخال المنطقة في دوامة. فهم قد يكونون وجدوا أنفسهم يضطرون إلى دخول التراب التونسي للاختفاء.
لماذا دخلوا ؟
الأرجح أنهم دخلوا ضمن التكتيكات الجديدة لهم والارتقاء بأدائهم من مجرد القيام بعمليات إرهابية قصيرة والفرار ولكن لتجربة جديدة أكثر قوّة وذلك لحصد حاضنة شعبية وهذا تثبته بعض العناصر المعلوماتية التي تؤكد محاولتهم إقناع البعض وتطمين البعض الآخر بأنهم يريدون الخير لهم: بعض الإرهابيين استوقف  بعض السيارات قائلا سننقذكم من الديوانة الضاغطة عليكم. هم يعرفون المنطقة ومشاكلها هم يبحثون عن حاضنة شعبية أو يظنون أن الناس هناك وهي تحت طائل غياب التنمية سوف تهلل لمجيئهم. ثم من ناحية أخرى أرادوا وهذا مؤكّد جسّ النّبض : نبض السّاسة ونبض الأمن ونبض جاهزية الجيش لمعرفة  نوعية الأسلحة المتداولة وطرق المكافحة والتدريبات المتطورة، هم أرادوا المباغتة من أجل البلبلة وجس النّبض للتحضير لعمليات نوعيّة أخرى في القريب قد تأتينا أخبارها.
(3) الابتعاد عن التراشق السّياسي
في هاته اللحظات بالذات على السياسيين الاستنكاف نهائيا عن لغة التراشق وتبادل الاتهامات والتخوين فالكلمات التي تفرق الوطن ليست محمودة الآن. يجب على العكس من ذلك أن تسود الوحدة الوطنية وتعمّ في المنتديات والنقاشات التلفزية والإذاعية لغة الجمع لا لغة التهييج والتفريق. 
(4) تدعيم قدرات الجيش
لابد من تعزيز قدرات الجيش بالعتاد الحديث والمتطور وإقحام الشباب العاطل عن العمل في الذود عن الوطن ضمن تخطيطات محكمة سريعة ومحاولة تكوينهم التكوين اللازم لجعلهم بسرعة ذوو مهارات مقبولة. فلا فائدة من جلوسهم في المقاهي ينظرون إلى الزمن وهو يمرّ دون أي مرد ودية.
(5) تأسيس إطار دراساتي استراتيجي
من الضروري اليوم أن يكون لنا في تونس إطار مؤسساتي وطني يهتم بدراسة ظاهرة الاٍرهاب دراسة معمّقة بعيدا عن كل تسييس تجتمع فيه إطارات تفكير وقامات وطنية ذات خبرة في المجال العسكري والأمني والاجتماعي والاقتصادي والحضاري والدولي تبحث عن الاهتمام بكل جوانب هذه الظاهرة المعقّدة تكتشف جوانبها الخفية الإقليمية والدولية وتعرّي خفاياها وأسبابها الثقافية والتنموية. بذلك وحده يمكننا تحصين وطننا في المستقبل وتأمين الجيل الجديد من الاستقطاب والدفع بعجلة التنمية على أسس صحيحة والقضاء على أسباب ترعرع هذه الظاهرة في بلدنا وليس مجرّدا الوقوف دائما عند النتائج والتبعات وإنما الولوج إلى الأسباب العميقة لمداواتها والقضاء على السرطان. لا بد من تكوين نوع من الرأسمال المعرفي (ِCapitalisation du savoir faire et du savoir agir) على أساس التجارب السابقة في مقاومة الإرهاب سواء التي وقعت في ربوع بلدنا أو في بلدان أخرى لأن التراكم يولّد المعرفة العميقة والفهم فننتقل من أمثلة واقعية ومعارف وسيناريوهات إرهابية وقعت إلى فهم كنهما وكيف تتحرك وماهو جوهر تكتيكاتها لنتقي منها ( Prévention du risque et Retour d’expérience).
----
د. في الاعلامية الصناعية وهندسة المعارف
mejrilassad@gmail.com