للنقاش

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
مقاربات في استراتجية التأويل: كيف نتعامل مع النص القراني؟
 التقديم
«الإصلاح الديني» أو الاجتهاد بكيفية أعمق هو ما يحتاج اليه «العقل الاسلامي» في التعامل مع النّصوص الدّينية لاسيما النّص المركزي أي القرآن الكريم، أن نسعى الى التأسيس الى أفق أرحب في عمليّة فهم النّص.                        
لاشكّ أنّ موضوع التأويل يعدّ أهمّ الموضوعات ذات الصّلة «بالإصلاح الدّيني».  إنّ عملنا يتركّز هنا حول التّنظير لتأويل النّص القرآني. لقد كان هدفنا الحسم في كثير من العوائق، في دوائر عدّة منها العقدي والبلاغي والفكري. فما هي أهم ملامح استراتيجية التّأويل. 
 - 1 -  القرآن محور العملية التأويلية اين يكمن الاشكال
«القرآن» الكتاب المحوري الذي ما فتأ يثير كثيرا من الإشكالات ويسيل كثيرا من الحبر، لقد كان محطّ اهتمام كثير من العلوم وهو كتاب شديد الحساسيّة بالنّسبة للمسلمين وغير المسلمين . إنّ السؤال الذي نطرحه اليوم ينبع من المفارقة التالية: «هل أن أحكام القرآن هي أحكام الاهيّة أم هي أحكام بشريّة موصوفة اعتباريّا أنّها الاهيّة»؟ إنّه سؤال جد خطير ومحفوف بالمخاطر سنحاول الإجابة عليه. 
إنّ القرآن كلمة الله العليا، فهو ذو مصدر الاهي وهو يشكّل لحظة تواصل بين الأعلى والأسفل،  بين الله والكون والانسان.  إنّه يجسّم تلك الحركة العموديّة ويشكل الرّابط بين عالم الغيب وعالم الشّهادة، بين عالم المقدّس وعالم المدنّس.  إنّه لحظة حلول المتعالي في الكون أي في الدنيا .
   إنّ القرآن كذلك عبارة عن«مصحف» على حدّ التّعبير الأركوني انتقل من مرحلة المشافهة الى مرحلة التّدوين  وهو مكتوب باللّغة العربيّة، هذه اللّغة هي لغة بشريّة  وهي لغة الأقوام العربية البدويّة الذين يسكنون على هامش الصّحراء، فهو كتاب معدّ أن يفهمه هؤلاء النّاس بما عهدوه من محمولات الألفاظ وبمعاني عايشوها. 
إنّ القرآن حتى هذه اللّحظة خليط بين الانساني والالاهي، لكن على أيةّ جهة سيحمل؟ 
إذا أخذنا أنّ القرآن هو حكم الله وهو ما يعني أنّ آياته تحمل معاني توقيفيّة قبلية منتهية فما على البشر إلاّ استهلاك تلك المعاني بشكل تسليمي. غير أنّ قبول هذه المصادرة يلاقي كثيرا من الاعتراضات. فإذا كانت الأحكام الاهية فلماذا اختلف النّاس حول نصوص القرآن ولماذا تقاتل الصّحابة ولماذا اختلف الفقهاء فيما بينهم؟ ألا يدلّ ذلك على أهمّية دور البشر في تطويع النّصوص وفق سياقاتهم الاجتماعية والتّاريخية؟ 
فالأمر إذا  يحتاج الى مزيد من التّحليل وهو ما سنقوم به من خلال معرفة أهم الدّوائر التي يتحرّك فيها هذا الإشكال ومن أهمها أصل اللّغة. 
 - 2 -  أصل اللّغة كإشكال تأويلي 
أصل اللّغة سؤال قديم متجدّد طُرح في السّابق ويُطرح الآن لاسيّما في السّياق العربي الاسلامي. لقد دارت مناقشات  هامّة في هذا الاطار لم تتوقّف عند علم الكلام أو العقيدة بل دارت رحاها أيضا في البلاغة والفقه ...إنّ هذا السّؤال كما عبّر عنه  الأستاذ «عبد السلام المسدي»(1) هو سؤال تأويلي  بامتياز. لقد كان شكل السّؤال هو التّالي هل أصل اللّغة توقيفي أم اصطلاحي؟ 
عمل أنصار التّوقيف على المسارعة الى غلق الأبواب أمام الصّفة الاصطلاحيّة للّغة فوضعوا النّصوص الدّينية كمرتكز في حجاجهم.  لقد استند هؤلاء وخاصة أهل الحديث(2) الى آية «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(3) وهذه الحجّة واهية وهشّة لافتقادها لأسس منطقيّة (كأنهم أرادوا غلق باب المحاججة). إنّ هؤلاء يدافعون في الحقيقة على وجودهم ووظيفتهم التّقليدية وهي احتكار فهم النّص. هذا في النّهاية تصوّر أهل التّوقيف لأصل اللّغة،  فماهي حيثيات الموقف الاصطلاحي؟ 
لقد كان الموقف الاصطلاحي أكثر صلابة وتنظيما إذ كان معزّزا بجملة من الحجج الهامّة حيث استند في معقوليته الى حجج تاريخيّة ولغويّة ومنطقيّة ...يقوم هذا التّصور على اعتبار أنّ المجتمع هو الذي يشيّد اللّغة و أنّ اللّغة ابنة شرعيّة للمجتمع فهذا الأخير هو الذي يهب المعنى للّغة وبالتالي تتحول الى كينونة ديناميّة لأنها تتحوّل في التّاريخ .
إنّ هذه المعقوليّة هي التي ستدفع في نظرنا حقّا للتّأسيس لمعقولية تأويل النّصوص الدّينية ولاسيّما النّص القرآني. 
لقد كان مأمولا أن تحسم المعتزلة الأمر لصالح الموقف الاصطلاحي على عكس موقف البلاغيين وبالأخص «عبد القاهر الجرجاني» والنحويين وتحديدا «ابن جنّي» الذي توقف عند حدود التّردد في الدّفع بالاصطلاح والتأويل.  لقد أرادت المعتزلة أن تحسم الأمر في ساحة النّظر للنّص القرآني وبالأخص لحلحة المعنى أو معاني القرآن،  بينما كان أهل التّوقيف يدافعون عن المعنى الظاهر والحرفي.     
إنّ أصل اللّغة لا يشكّل في الحقيقة الاّ مرحلة من مراحل الاشتباك الواسع والدّائم  بين أنصار التّأويل وأنصار التّوقيف وتعدّ قضيّة الحقيقة والمجاز أحد مظاهر هذا الإشكال 
 - 3 -  للحقيقة والمجاز معركة شكلها بلاغي وقاعها ايديولوجي    
تشكل قضية «المجاز والحقيقة» جانب من جوانب البرهنة على «قضية التاويل» والتوقيف أو التفسير» فهي جزء من استراتجيّة المحاججة و البرهنة والاقناع. لقد دفع تيّار التّوقيف إلى طرح المشكل من زواية أخلاقيّة معياريّة أساسها الكذب والحقيقة فكان الصّدق يعني الحقيقة والكذب يعني المجاز، فيستحيل هذا الأخير الى كذب على الله.
 دفع تيّار التّوقيف بالامور نحو أوهن الأوضاع وسوف يعمل على تصعيد صراعه. لقد تجسد ذلك بالخصوص في موقف «ابن تيمية» الرّافض بحدّة للمجاز إذ قام بدراسة فللوجية (إن صح التعبير) لمصطلح المجاز وهي محاولة موسومة بالتّسرع حيث عاد الى تاريخ كلمة المجاز واستنتج أنّ استعمال هذه الكلمة محدث في حين أنّ الواقع يفنّد ذلك بوضوح فقد استعملت الكلمة بصفة مبكّرة من قبل «ابي عبيدة معمر المثنى» (ت211هـ) وكان له كتاب بعنوان «مجاز القرآن» ثم «أبي عثمان الجاحظ» (ت255هـ) واستعمل الكلمة كما هي الآن في كتابه «البيان والتبيين». 
إنّ المجاز هو حقيقة من الحقائق الأساسيّة ويعرف على أنّه معنى غير متطابق مع اللّفظ لكنّه على علاقة به. إنّ هذا التعريف –ويمكن تطوير المفهوم- يتيح على الأقل الانعتاق من اللّغوي الى الميتالغوي ويشكّل بوابة لدخول عناصر أخرى في القبض على المعنى من أهمها العرف والواقع ..وهذا منعرج هام في حلّ أزمة العلاقة بين النّص والواقع .
لقد شكّل المعتزلة في التّاريخ الماضي بداية نور حيث دافع هؤلاء على التأويل وكان لهم إسهام نظريّ في هذا المستوى فقد دافع «القاضي عبد الجبار» (ت415هـ) أحد أبرز المعتزلة عن التأويل وقرنه بمستويين «العقل» و«قصود صاحب النّص» وكان يمكن لهذا الاسهام أن يكون محلّ ترحيب لكن نصيبه كان التنكيل والتهميش.
لقد شكلت هذه المحاولات بداية عمل هام يتجاوز تلك التّفاسير القديمة التي امتهنت «رتابة المعنى» لانّها قائمة على مناهج «محاكاة اللّفظ» أو الاستناد للرّواية .(نشير هنا خاصة الى تفسير الطبري).
إنّ المطلوب هو أن لا يكون المجاز مجرّد فرع كذلك بل هو شئ قائم الذّات يوازي الحقيقة. هكذا نصل الى ضرورة التأسيس للمجاز في فهم النّص،تأسيس من شأنه أن يعمل على كسر الجمود الذي طالما أصاب النّص (بالاضافة للمجاز وهو يعدّ القاعدة العامّة نضيف الاستعارة والتّورية والاشتراك والعام والخاصّ والمطلق). لكن الإشكال لا ينتهي عند هذا الحدّ فله ظلال أخرى أهمها موضوع الإعجاز، فكيف ذلك؟ 
 - 3 -    الاعجاز أي قراءة ممكنة؟ 
كيف يمكن أن ننظر للإعجاز في إطار هذا الإشكال التأويلي؟ سوف نعمل على نقد المنظور السّائد ثم نبيّن رؤيتنا للموضوع.
لقد قام الطرح الإعجازي على مفهوم البيان وهي نظريّة وضّحها بالخصوص «الامام عبد القاهرالجرجاني»(ت471هـ) ونظريته المعروفة «بالنظم» التي تضفي على النّص القرآني صفة التّعالي. وهذه الأطروحة وغيرها جعلت من النّص القرآني نصّا ممتنعا عن البحث وزادت من حدّة العوائق الابستمولوجيّة لمعرفة كنهه وأغواره .
لقد قدمت المعتزلة «نظرية الصّرفة» ورغم أهمّية هذه النّظرية فإنّها غير كافية .
تعد«نظرية المباينة» التي قدمها الامام المعتزلي «أبي الحسين البصري»(ت436هـ) نظرية هامّة في هذا الإطار. فقد تحول الإعجاز من خلال البصري الى تقديم القرآن لرؤى وتصوّرات مختلفة عمّا هو موجود في ذلك العصر خاصّة على مستوى القيم.
مفكّر آخر هو أكثر جرأة من البصري ونقصد به «ابراهيم النظام» (ت221هـ) الذي اعتبر أنّ لغة القرآن مقدور للبشر الاتيان بمثلها. وهذا التصور يعدّ خلخلة للتّصور الإعجازي القديم الموسوم بالعاطفية .
إنّ القرآن هو كلام الله وهو الحافظ له، فكيف نخاف عليه من البحث العلمي الذي لم يزد المسلمين الاّ استفادة . إنّ الدفاع عن مفهوم لغوي خالص للإعجاز والاكتفاء بالإعجاب هو موقف يخدم فقط السّدنة التي ترى في كلّ بحث مساسا بالقداسة وهو ما حال دون ظهور مشاريع هامة من شأنها أن تصلح أمر الدّين والدّنيا.
هذه لمحة سريعة لموضوع صعب نرجو أن نكون قد وضّحنا ما يخدم هذه الدّراسة لنمر فيما بعد لموضوع لا يقل أهمية وهو إشكال العقل والنقل .
 - 4 -   إشكالية العقل والنقل 
بدا هذا الإشكال كلاميّا ثم انتقل الى الفقه وقد اسهمت فيه بالخصوص المعتزلة ومن بعدها الاشعرية واسهمت الماتريدية في الموضوع (4)
اذا كان لابدّ لنا من الانتصار لموقف، فإنّ موقف الاعتزال يشكّل موقفا نوعيّا حيث يحسب الذهاب الى «أنّ العقل أولا» لأهل الاعتزال والعقل هنا يحظى بنفس الأهمّية مقارنة بالنّص، وهو ليس مجرد تابع بل يقوم بدور المشرّع ولا يقوم بدور الفهم فقط أو ذلك الدور الرّتيب التكميلي الذي يحلو لكثير من الفقهاء ترديده. فدورالعقل ها هنا خلاق وتاسيسيّ. أمّا المواقف الأخرى فقد عملت على وضع العقل في مكان هامشي ووضع آليات أخرى تؤكّد على النّص كالإجماع والقياس والأحاديث الضعيفة وحتّى تلك الموضوعة وقد أدّت هذه الوجهة في تقديرنا إلى مزيد من الجمود. وقد مثل هذا الموقف الأشاعرة الذين أطبقوا على أنفاس المعتزلة وأضعفوا روح العقلانيّة في الحضارة العربية الاسلاميّة، فأورثوا الشخصّية العربيّة روح السّلبية والانهزاميّة وانتظر العقل هيمنة روح التّصوف حتّى يعلن وفاته. 
مع ذلك يمكن اليوم البناء على تلك المحاولة الاعتزالية من أجل التأسيس للعقل في فهم النّص والوحي لأننا نرى أن ذلك هو السبيل الوحيد لبناء روح العقلانيّة في الدّين. والمقصود هو علاقة ندّية مبنيّة على التحالف بين العقل والنقل لا على التبعية. 
إنّ النّظر الى ما انتجه العقل البشري بعيدا عن الوحي يجعلنا نؤمن بقدراته وبدوره. وقد حان الوقت بالنسبة للمسلمين أن ينصتوا جيّدا لصوت العقل لأن الاكتفاء بالنّص وحده معناه اختيارهم  البقاء في حياة السّكون والسلبية. 
خاتمة
لقد قادتنا القراءة للتّراث الى ضرورة إعادة بناء مناهج النّظر للنّص. ولن نؤسس إصلاحا حقيقيّا الا عبر الدّفع نحو التأويل فهو السبيل الى بناء دينامية حقيقية بين النّص والتّاريخ أو الواقع .
الهوامش 
(1) عبد السلام المسدي باحث في الجامعة التونسية له اهتمام باللغة وتاريخها 
(2) اهل الحديث تقدم هذه الفئة دائما النصوص للدفاع عن موقفها التوقيفي
(3) سورة البقرة الآية 31
(4) الماتريدي أبي المنصور وهو صاحب موقف وسطي بين الأشاعرة والمعتزلة ومشروعه يقوم على أسس فقهيّة متأثرة بالامام أبو حنيفة النعمان ت150ه
----
- باحث - قبلي تونس
imedfawzi14@yahoo.fr