الإنسان والكون

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
إشكالية الإلحاد والعلوم الطبيعية - حلقة الأخيرة
 ولدت الكميات اللانهائية في الميكانيكا السماوية
كان كل شئ على ما يبدو متّسقا مع المنطق عندما كان التّعامل يتمّ منذ أيّام اليونانيين مع الخطوط المستقيمة. لكنّ الإشكال حصل مع المسائل المتعلّقة بالحركة، أي مع دخول الفيزياء على الخطّ. كيف تضبط مسار أو مدار كوكب ما، أو خط سير قذيفة؟ الإشكال هنا أنّهما يقطعان مساراً منحنياً. وهنا نشأت فكرة التّفاضل والتّكامل، بعد استخدام نظام الإحداثيّات الهندسي الذي جاء به «فيرما» ومعاصره «ديكارت» في آن معاً. الحقيقة أن المشكلة تتعلق في الأساس بالصّفر. فليس أكثر إشكالاً في الرّياضيات من الصّفر، واللاّنهاية. وفي حساب التّفاضل والتّكامل تجد نفسك أمام مشكلة القسمة على الصّفر، أو على كمّية مقاربة جداً الى الصّفر. وهناك فرق بين الحالتين، لأنّك لا تستطيع القسمة على الصّفر بينما تستطيع القسمة على كمّية مقاربة الى الصّفر.  كطريقة عمليّة معقّدة لترويض القسمة علي الصّفر. كأن نقول هنا إنّ نهاية الكميّات المتناهية الصّغر هي الصّفر. فأصبح في وسع الرّياضي أن يقسم المقدار على الكمّية المتناهية الصّغر عندما تصبح نهايتها صفراً. وبذلك يتلافى مشكلة القسمة على الصّفر.
وفي أيام «نيوتن» و«لايبنتز»، مؤسسي التّفاضل والتّكامل، لم يكن التّمييز واضحاً بين الصّفر، والكمّية المتناهية الصّغر، المقاربة جداً الى الصّفر. في ما بعد حُلّ هذا الإشكال بإدخال فكرة النّهاية وتعدّ فكرة النّهاية من أعمق الأفكار التي دخلت الرّياضيات لينشأ عليها أساس علم التّحليل الرّياضي. لكن هذا الغموض لم يهضمه «بيركلي»، فألف كتابه «المحلل»[1] في الهجوم على الرياضيين «الكفرة»، على حدّ قوله. ووضع عنواناً جانبياً لهذا الكتاب، هو: «مقال موجّه الى رياضي كافر»، من حيث أنّ الأشياء، والمبادئ، والاستدلالات في التّحليلات الحديثة يمكن إدراكها أو استنتاجها بوضوح أكثر من الأسرار الدّينية ومسائل الإيمان. والرّياضي الكافر كان عالم الفلك «إدموند هالي»، مكتشف المذنّب الذي سمّي باسمه مذنّب «هالي»، والذي دفع تكاليف طبع كتاب «نيوتن» الشهير «Principia». يقول بيركلي: «إذا رفعنا القناع يقصد الدّين ونظرنا تحته... فإنّنا سنكتشف مزيداً من الفراغ، والظّلام، والشكّ، كلّا، إن لم أكُ مجانباً الصّواب، إنّها حالات مستحيلة ومتناقضة على نحو صارخ. إنّها ليست كميّات متناهية، وليست كمّيات متناهية الصّغر، كما إنّها ليست لا شيء مع ذلك.
وقد نشأت فكرة التّفاضل والتّكامل من خلال دراسة الحركة، في علم الفيزياء. ولوحظ هنا أنّ المماس يعتبر حجر الزّاوية في دراسة هذا الموضوع. والمماس هو الخطّ المستقيم الذي يمسّ أيّ منحني في نقطة واحدة وواحدة فقط. وفي القرن السّابع عشر أوجد عدد من العلماء الأوروبيين، مثل «إيفانجلستا توريتشيللي»، و«رينيه ديكارت»، و«بيير دي فيرما»، و«إسحاق بارو» أستاذ «نيوتن» وسائل عدّة لدراسة المماس لأيّ نقطة على المنحني. فكان ولا بدّ من الاستعانة بالهندسة التّحليلية. وفيها يتمّ التعبير عن الخطوط المستقيمة، والمنحنية، الخ، بواسطة المعادلات، وذلك من خلال استعمال نظام الإحداثيّات. هنا يمكن تحويل المنحني مثلاً إلى معادلة، وبعكس ذلك، يمكن تحويل المعادلة إلى منحني.وقد اصطدموا جميعهم بمسألة الكميّة المتناهية الصّغر. 
ومع دراسة المماس تأتي دراسة الانحدار (الميل). والانحدار هو قسمة المسافة العموديّة على المسافة الأفقيّة. وبما أنّ المماس يلامس المنحني في نقطة، فإنّ كلاً من المسافة العموديّة والأفقيّة ستصبح صفراً في هذه النقطة. وبذلك يصبح الانحدار مساوياً إلى صفر على صفر. إن قسمة صفر على صفر يمكن أن تساوي أي رقم من الكون. فهل هناك معنى لانحدار أي مماس؟. إنّ دراسة المماس، وحساب المساحة تحت أي منحني، أو حساب حجم برميل، دعت الرّياضيين إلى أن يتعاملوا مع الصّفر واللاّنهاية. وهنا يبدو أن الصّفر واللاّنهاية هما المفتاحان الأساسيان لفهم الطّبيعة.
إن حكاية المماس وحكاية المساحة هما شيء واحد في واقع الحال. إنهما يمتّان الى عالم حساب التفاضل والتكامل بصلة، ذلك العلم الذي يُعتبر أهمّ أداة لفهم الطّبيعة وتفسيرها. فإذا كان «التلسكوب» قد مكّن العلماء من اكتشاف الأقمار والكواكب والنجوم التي لم تشاهَد من قبل، فإنّ التّفاضل والتّكامل مكّن العلماء من إيجاد القوانين التي تتحكّم في حركة الأجرام السّماوية، والقوانين التي ستبين للعلماء كيف أنّ تلك الأقمار والنجوم تشكّلت أو نشأت. لقد كان حساب التّفاضل والتّكامل اللّغة الحقيقيّة للطّبيعة، ومع ذلك، فإنّ نسيجه كان متداخلاً مع الأصفار واللّانهايات التي كادت أن تقضي على هذا العلم.
بعد أن التحق «إسحاق نيوتن» في جامعة «كيمبردج» في السّتينات من القرن السابع عشر، توصّل الى طريقة رياضيّة لحلّ مسألة المماس. أصبح في وسعه أن يحصل على المماس لأيّ نقطة على المنحني. فكانت هذه العمليّة نصف علم حساب التّفاضل والتّكامل، وعُرفت بالتّفاضل. أمّا النّصف الآخر فهو عكس التّفاضل، ويُدعى التّكامل، وذلك من خلال حلّ مسائل مثل المساحات تحت المنحني، أو حجم البرميل. إنّ أهمية التّفاضل والتّكامل لا تقدّر بثمن، لأنّ الطبيعة لا تنطق بلغة المعادلات الاعتياديّة. إنّها تنطق بلغة المعادلات التفاضليّة التي تقاس فيها التّغيرات منسوبة إلى بعضها. وحساب التفاضل والتكامل هو الأداة التي تُحل بواسطتها هذه المعادلات التّفاضلية.
ومفهوم اللاّنهاية هو مفهوم نظري مجرّد قد يستعصى على الفهم ربّما ﻷنّ الذّهن يلجأ إلى المقارنة مع المعروف والمحسوس ولربما تخيلنا اللاّنهاية (في الكبر) على أنّها شئ كبير جداً وهذا خطأ، فمهما كبر الشئ فإنّه يبقى قريباً إلى العدم بالمقارنة مع اللاّنهاية، ففي الرّياضيات حاصل قسمة أي محدود على اللاّمحدود (اللانهاية) هو صفر. من ذلك أنّ سرعة الضّوء تبدو لنا هائلة وذلك بالمقارنة مع ما نعرف، وأظن أن سرعة الطاّئرة تبدو هائلة لمن لا يعرف غير سرعة اﻹنسان والحيوان. عملياً فإنّ كون سرعة الضّوء محدودة تعني أنّه يمكن أن نأمل الوصولَ إليها يوماً ما، تتطلب السّرعة اللانهائية استطاعة لانهائية لا يبدو أنّها في متناولنا.
في الاتجاه المعاكس، مهما بدت الذّرة صغيرة، فإنّها كبيرة جداً إذا نظرنا إلى المسافة بين إلكتروناتها السّطحية ونواتها، ولكن حتّى اﻹلكترون هو شئ ضخم جداً بالمقارنة مع اللاّمتناهي في الصّغر وفي الرّياضيات حاصل قسمة المحدود على اللاّمتناهي في الصغر (الصفر) هي اللاّنهاية (في الكبر).
اللاّنهاية قد تكون أحد أمثلة اﻷنظمة اللاّخطيّة، حيث أنّها تخضع لقوانين مختلفة، كما اكتشفت الفيزياء الكمّية أنّ اللاّمتناهي في الصّغر يخضع لقوانين مختلفة عن قوانين الفيزياء العادية. من غرائب قوانين اللاّنهاية خاصّة الثّبات، فحاصل جمع لاّنهايتين أو أكثر، وبشكل أعمّ ضرب اللاّنهاية بعامل ما هو اللاّنهاية ولا يمكننا القول أنّ الناتج أكبر من اﻷصل، فهي اللاّنهاية نفسها حتى لو ضربنا بلانهاية أو رفعناها إلى ما شئنا من القوى المتكرّرة وحتّى لو كانت هذه بدورها لا متناهية فالنّتيجة نفسها ولا يمكن أن نقول أنّها أكبر. بشكل أعم مقارنات اللانهايات لا معنى لها وحتّى إن تكلّمنا عن لانهايات متعدّدة، بعدد قد يكون لانهائي، فإنّها كلّها واحدة. الطّرح من اللاّنهاية يؤدّي إلى نفس النّتيجة، أمّا المعضلة فتظهر في التّقسيم: قسمة لا نهاية على لانهاية هي «كمّية غير معيّنة» وهذا بمعنى أنّها إمّا أن تكون غير موجودة أو أنها قد تحمل عدّة احتمالات.
الهوامش
(1) بيركلي، جورج، المحلّل، مقال موجّه الى رياضي كافر، ( 1734). 
-----
- أستاذ ديناميكا الفضاء  بكلية العلوم - جامعة القاهرة
أستاذ الرياضيات التطبيقية  بكلية العلوم - جامعة طيبة - المدينة المنورة  
f.a.abdelsalam@gmail.com