محراب الإبداع

بقلم
بلقاسم الجدي
حلوى السؤال
 عفوا أبي .... لقد اخترت أمي.
لازلت أذكر في طفولتي الاولى بعدما صرت أميز بين خفي حذائي الأيمن والأيسر وأفرق بين طعم الملح وطعم السكر وأعدّ الى الخمسة دون خطإ.. أذكر أن جارتنا العجوز «أم السعد» كانت تسألني نفس السؤال - وكأنها لا تعرف الا هذا النوع من «البيداغوجيا» .. تسألني «من تحب أكثر أمّك أم أباك»؟، فأجيب دائما نفس الاجابة وأنا أنفلت منها « كيف كيف».. لأنها كانت تريد أن تسمع مني أن أنطق الكاف تاء فتضحك مني ..وتعطيني عصا من حلوى العيد المزينة التي تحتفظ بها على مدار الحول في صندوقها الخشبي ..فألتهمها وأضحك من ضحكتها ومن فمها الأدرد ... ألتهم الحلوى وأمسح آثارها بكم يدي المتسربل حتى لا تتفطن الي أمي. دائما نفس السؤال ... نفس الاجابة ...نفس الضحكة .. نفس الحلوى ... 
بعد خمسين سنة يهتف هاتف من أعماقي يبعث في ذاك السؤال من دهاليز النسيان ..«من تحب أكثر أمك أم أباك»؟ ..هذه المرة ليست أمّ السعد هي السائلة ... وحلوى السؤال هذه المرة مصير بلد بأكمله ..وضحكته ليست عبثا .. والاجابة تئن بها الجبال وتَشرق بها البحور .. لكن لا مفر من الكلام ...أصرخ بلا خجل : نعم .. لقد اخترت .. نعم اخترت أمي بلا حلوى .. لقد اكتشفت أن أبي قد برد عشقه لأمّي كسكّة محراث جدّي ..لقد ارتمى في أحضان تجّار الأرض والعرض .. لقد طلّقها وهو يجاهد في مناكحة مخنثي المدينة ...                       
صحيح يا أبي أنّك كنت مظلّتي زمن الحَرّ وزمن القرّ .. وما عصيت أوامرك يوما..وقبل جمعة أيّالنار مشينا معا وحرثنا الشّوارع بالهتافات .. ثم - معذرة يا أبي - أقول لك أفّا .. وأنهرك لأنّني اكتشفت أنّك بدأت تمارس البغاء السّري وأحيانا العلني ..وتغازل عشيقات من كلّ الأطياف والألوان .. لِمَ لمْ تلتفت وعلى مرمى حجر فقط ... لترى أمّي تنزف دمعا ودما؟ لماذا أصبحت يا أبي تجوّعنا بلا مبرر؟ 
أبي...أتذكر كيف كنّا أسرة مثاليّة لم تتحطم أركانها ... ؟ وهل تنسى كيف وقفت جنبا الى جنب مع أمّي في وجه مغتصبيها ؟ .. ونزفت دماء رجالاتك على أسفلت شوارع مدنها وعلى أديم مسارب قراها.. أبي ..عد إلينا أرجوك .. نحن وأنت وأمي جبّتنا واحدة .. أرجوك لا تمزّقها ..حتى لا نُصلب كالحلاّج .. نحن أبناؤك الشّرعيّون.. نحن بطن هذه الأرض وأفخاذ تلك الجبال .. دعك من زناة الغرب وجناة الشرق ...
أما أنت يا أمّاه .. فامك أجل من أوصيك وأعلى .. قد تجوعين نعم .. ولكن لن تأكلي من ثدييك أبدا... أنت الأرض والعرض .. أنت أصلاب التاريخ وترائب الجغرافيا .. صحيح قد تعيشيــن بلا بعل في زمن الأحمرة ... فبعلك ترياق الصّبر وكيمياء الوفاء واكسير التحدي ... صحيح سيشتهيــك الرّجال ولكن سيموتـــون على ظمإ.. وأنت المطر الزّلال .. تأكّدي أنّ أحلامهم ستشنق على أسوار مدائنك العتيقة ... 
أبي بقدرما أعشق حشّاد وعاشوروالبقيّة .. فإنّي أحذرك أن تفتح مصارع أبواب أمّي من الدّاخل ليدخل إليها زناة العالم .. عندها يا أبي - بلا حياء شرقي .. وقسما بحلوى أم السّعد - فإنّ غلابى هذه الأرض وفقاع الفقراء سيطلقون عليك رصاص الرّحمة .. ويرجمون الزّناة والجناة في أبار البلد المعطلة.
أخيرا .. أمي .. أهمس اليك .. صحيح أنّك قد تعيشين أرملة ثكلى .. ولكنك ستعيشين واقفة .. قد تهب ّ عواصفهم من كلّ الاتّجاهات ولكنّك ستظلّين شامخة تنتظرين عريسا في رداء الفجر .. وتصغين الى دعوات أمّ السعد التي تنهال عليك كزخّات المطر ...
------
- باحث و كاتب