قول الحق

بقلم
فؤاد بوعلي
المغرب الفرنسي
 عندما ثار «الطاهر بنجلون» ضد موجة التلهيج معتبرا أن العربية الفصحى تربط المغرب بعمقه العربي وداعيا إلى الاهتمام بتعليمها مع فتح الباب أمام الإنجليزية، كان يعي جيدا أن المغرب يعيش الآن استعادة كاملة لزمن الاستعمار بكل مقوماته السياسية والاقتصادية واللغوية. إذ لم يشهد مغرب ما بعد 56 فترة من الاستيلاب والانصياع والمبايعة التّامة للسّيد الفرنسي ما يشهده الآن، لأسباب عديدة منها ترهّل جدار الممانعة في الدّولة وغياب الرّؤية الاستراتيجيّة لوجود الوطن والأمّة التي كانت حاضرة على الدّوام عند سادة القرار السّياسي. 
 إذ عاد النقاش حول فرنسة التّعليم المغربي إلى السّاحة عقب المجلس الوزاري المنعقد بالعيون والذي تحدّث عن استعمال اللّغات الأجنبيّة في التّدريس والموازنة بين الانفتاح والمحافظة على الهوية الوطنيّة. وككل البلاغات الصادرة تستغل في التأويلات الإيديولوجية والحزبية التي ترى فيه انتصارا لجهة على أخرى. لكن البلاغ / الموقف يطرح العديد من الأسئلة: هل هو انتصار لفيلق الفرنسة الذي خرج منتشيا ومتخفيا وراء المؤسسة الملكية والذي دفع العديد من المنابر الإعلامية إلى الحديث عن نهاية التعريب في المغرب؟ وهل مصادفة أن يصدر القرار المتعلق بلغة التدريس في نفس صفحة الحديث عن تغيير مناهج التربية الدينية؟ ولم أسندت عملية تغيير مناهج التربية الدينية لوزيرين لم يخرجا من رحم الإرادة الشعبية والاستشارة الديمقراطية؟ وهل فعلا انتهى النقاش كما يزعم ويحلم وزير التعليم؟
 قد يسارع القارئ للحدث لتأويله على أنّه صراع سياسي حزبي بحمولات ثقافيّة، وقد يرى البعض فيه عودة للتّحكم الذي اختار التّدثر بكواليس تدبير الشّأن العام للإجهاز على ما تبقى من الانتماء العربي الإسلامي للمغرب،  لكن الرّؤية الصّائبة تحتاج إلى قراءة شاملة للقرار الوزاري في سياقاته المتعدّدة ومعرفة جوهر الانقلاب الذي نعيشه على الهويّة الوطنيّة. فمخطئ من يتصوّر أنّ القضيّة قضيّة لغات أجنبيّة (مصطلح يعوم به النقاش من أجل الفرنسيّة) أو جدليّة الانفتاح والانغلاق، بل القضيّة تتعلّق بصراع على وجود الوطن من عدمه في ظلّ العجز الرّسمي البيّن في الدّفاع عن الاختيارات الهوياتية الوطنيّة:
- قد لا نحتاج إلى نصوص من التاريخ الاستعماري الفرنسي، التي جمع بعضها الدكتور «عبد العلي الودغيري» في كتاباته، لتتبع مسار الهجوم على العربية وما تحيل عليه من قيم، بل يكفينا متابعة التقارير الصّادرة عن المنظمة الفرنكفونيّة. ففي تقريرها عن حال اللّغة الفرنسيّة لسنة 2014 تتحدّث عن أيام الزّهو التي ستعيشها في المغرب العربي، على اعتبار أنّ اللّغة الفرنسيّة سيتم اعتمادها كمادة لتدريس عدد من المواد العلميّة، وخصوصا في المرحلة الجامعيّة. وفي نفس الوثيقة نجد أنّ منطقة المغرب العربي هي التي تجمع أكثر من 44 في المائة من عدد المنخرطين في المعهد الفرنسي فيما النّسبة الأخرى تبقى موزعة بين مختلف المعاهد الفرنسيّة عبر العالم. وبالطبع فالأمر ليس توصيفيا بقدر ما هو استشرافي لسياسة انطلقت منذ زمن طويل والآن وصلت مرحلة استخلاص المنتج. ومنتجها الطبيعي وزيران للتّعليم في المغرب والجزائر حدّدت لهما وظيفة إنهاء الوجود العربي بالمدرسة الوطنيّة. ففي مقابل الاهتمام الشّرقي والإفريقي والعالمي بلغة الضّاد، وفي مقابل إصدار العديد من الدول العربية لقوانين تحميها(الأردن، السعودية، قطر، الإمارات...) يتفنّن المسؤولون عندنا في تحجيمها بغية القضاء النهائي على الانتماء العربي للمغرب. 
- قبل مدّة والنّخبة الفرنكفونيّة تحضر لتوطين الفرنسيّة قانونيّا. وإذا كان التّعديل الدستوري لم يسعفها لفورة الشّارع المغربي حينئذ ومساره الاحتجاجي، فإنّها انتظرت ساعة الهدوء النّسبي لتنطلق في فرضها خاصّة مع النّقاش الدّائر حول  مجلس اللّغات الذي أريد له من خلال اللّجنة المصنوعة على المقاس أن يكون معبدا للإيليزيه، تفرض فيه الفرنسيّة باسم اللّغات الأجنبيّة، وبقية الفصول هي هامش على المتن.
- عندما دافع بعض الفضلاء عن إزالة صفة «العربي» من «المغرب» في النّص الدّستوري ونافحوا عنها في المحافل الإقليميّة، كنا نعي حينها أنّ المقصود ليس المكوّن الأمازيغي للثّقافة الوطنيّة ولكنّه مسار نحو إخراج الوطن من فضائه الإقليمي نحو فضاء فرنكفوني اقتصاديّا وسياسيّا وثقافيّا. وهذا ما يحدث الآن. فلم يعش المغرب هجوما فرنكفونيا في تاريخه الحديث وانقلابا جذريا عن كل قيم ومبادئ الحركة الوطنية مثلما يعيشه الآن. لدرجة أن تتحول الفضاءات والندوات الجامعية إلى فضاءات ناطقة بلغة «موليير»، ويحتاج أعضاء مؤسّسة دستوريّة لمناقشة قضايا تهمّ المغاربة لمترجم يترجم لهم لغتهم الوطنيّة، ويأتي وزير الخارجية ليلقي كلمته أمام محفل رسمي ليس فيه غير المغاربة بلغة المستعمر، ويأتي من يفاضل بين موسى بن نصير وليوطي ويعتبر العربيّة لغة استعمار.... هل هناك انقلاب أكبر من هذا. إنّه الإصرار على جعل المغرب ملحقة فرنسيّة تأتمر بأوامر«الإليزيه»، وتعيد تعريف الوطن بمنطق المحميّة وليس بمنطق السّيادة. وإذا كان وزير التّعليم يتحدّث منتشيا أنّ النقاش قد انتهى الآن، فلنطمئنه بأنّ هذه هي البداية. لأنّ المغاربة لن يقبلوا، مهما فُرِض عليهم، بانقلاب على قيمهم التي استشهد أبناؤهم من أجلها. ولكلّ انقلاب نهاية، ونهايته عودة الشّرعية.
-----------
-  عالم لسانيات مغربي - رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية
fouadbouali5@gmail.com