وجهة نظر

بقلم
يسري بوعوينة
حركة الغاضبين متواصلة
 سئل يوما أحد الظرفاء: كان الخلفاء قديما ينادون بالواثق بالله والمتوكل على الله والمعتصم بالله فماذا نسمي خليفة زماننا؟ فأجاب «العياذ بالله».....والحقيقة أننا نعوذ بالله لا من وليّ أمرنا فقط بل من زماننا كلّه...صحيح أنّنا نعيب زماننا والعيب فينا أوّلا ولكن هذا الزّمان أيضا كان  قاسيا و شحيحا معنا ولم يترك لنا أي شيء تقريبا... أوطاننا تخرّب وأرزاقنا تسرق وأعمارنا تضيع وشبابنا يفنى والدّنيا أصبحت مظلمة شديدة السّواد حتّى صحّ فينا قول الإمام الغزالي « لقد عمّ الداء ومرض الأطباء وأشرف الخلق على الهلاك».
 إلى حدّ الآن تبدو الصّورة سوداويّة جدّا والحل الأمثل عند البعض لن يكون سوى الإسراع إلى الإنتحار قتلا أو شنقا أو رميا من شاهق... هذا السّواد لا يجب في المقابل أن يحجب عنا نقطة ضوء خافتة لكنّها مهمّة جدّا لا تخفى عن الأعين، لكنّنا نرفض أن نبصرها... نقطة الضوء الوحيدة هذه هي حسب رأيي الشّجاعة و ليس حرّية التّعبير لأنّ حرية التّعبير لا تحتاج إلى ثورة ولكن إلى شجاعة ليصدح كلّ فرد بما يجيش في داخله... إنّ الخوف الذي تفننت في زرعه الدّيكتاتورية لم يجد بعد طريقة لغزو القلوب من جديد رغم حجم الهرسلة الإعلاميّة التي يتعرّض لها المواطن البسيط المهدّد في سلامته (بالإرهاب) وأمنه الغذائي (بالغلاء والإحتكار) والإقتصادي (بتراجع الإستثمار وإفلاس عديد الشركات) وحتى «أمنه الدّيني» (من قبيل عزل بعض الأيمّة ولي عودة إلى بدعة  الأمن الديني هذه  في مناسبة أخرى)..
رغم كل هذا التخويف والتّهديد المبطن أحيانا والمباشر أحيانا أخرى، اندلعت خلال شهر جانفي إحتجاجات شبابيّة (على الأقل في بدايتها) لتكسّر حاجز الصّمت الرّهيب حول ملف حارق هو البطالة......قال الشّباب الغاضب نحن هنا...نعيش في بلد وليس في مقبرة..عاطلون ولكن ليس أمواتا بعد...هذه الإحتجاجات شوهّها الإعلام الموجّه عن طريق الدّينار بالتّركيز على الفوضى والسّرقات التي رافقتها، ورغم أنّ هذه الإحتجاجات كانت محدودة زمانا ومكانا لكنهّا حققت الكثير...
الحكومة التي تبجّحت ببرنامج الصّفر إنتداب في الوظيفة العموميّة عادت وأعلنت عن برامج إنتدابات جديدة وعن آلاف الخطط الشّاغرة ...الأحزاب التي تغطّ في سبات أهل الكهف والتي تعيش حروبا داخليّة على الهيئات التّأسيسية والمكاتب التنفيذية أدركت أنّها في واد وأن الشّباب في واد ويا ليتها تفهم الآن سبب عزوف الشّباب عن العمل السّياسي المباشر فتكفّ عن توجيه أصابع الإتّهامات إليه...لقد أعادت هذه الإحتجاجات ترتيب الأولويّات في تونس ليدرك الجميع أنّ لجم الأفواه حلّ قصير الأمد وأن إلهاء الرأي العام بجمعية شمس وركلة جزاء لم يمنحها الحكم في مباراة كرة قدم أو كلام الدّكتور الطالبي في الخمور ليست إلا خطّة فاشلة أيضا.
النقطة الثانية وبها أختم حدثت يوم 17 ديسمبر 2015 ومرّت مرور الكرام.....في ذلك اليوم من كلّ عام تنزل الدّولة ضيفة على مدينة سيدي بوزيد للإحتفاء بالثّورة أو ما يسمّى بالثّورة أو ما تبقى منها...في عهد التّرويكا وقع الإعتداء على الرّؤساء الثلاث فكان هذا درسا قاسيا لمن أتى بعدهم فأحجم الرؤساء الثّلاثة الجدد عن الذّهاب إلى مدينة تعجّ بالغاضبين...نعم إنّه خوف الحاكم من المحكوم وليس خوف المحكوم من الحاكم وأنا وإن كنت ضدّ الإعتداء على رموز الدّولة إلاّ أنّني سعيد أنّ الحاكم المطلق الإلاه الجبار الذي تذلّ له الرّقاب لم يعد له مكان في تونس...رئيس الجمهورية إختار إستقبال سيدي بوزيد في قصر قرطاج بدل الذهاب إلى هناك فأستقبل فخامته في مكتبه نواب مجلس الشعب عن سيدي بوزيد.....رئيس الحكومة ذهب في زيارة إلى ولاية القيروان وكأن هذه الزيارة لا تحتمل التأخير أو التأجيل...أما مجلس الشّعب (الذي انتخبه الشّعب والذي من المفروض أن يكون نبض الشّعب) فقد كلّف النائبة الثّانية لرئيس المجلس بالذهاب إلى سيدي بوزيد عوضا عن رئيس المجلس ونائبه الأول...إمرأة يبدو أنّها تملك من الشّجاعة أكثر مما يملكه الرّجلان...على كلّ كلّهم أوجدوا أعذارا ليفرّوا من مدينة سيدي بوزيد ويغيبوا أو بالأصحّ يغيّبوا قسرا خوفا من الجماهير الغاضبة.. إنّ حركة الغاضبين باقية وتتمدّد....وإخفاء مسؤولينا لرؤوسهم في الرّمال لن يفيدهم في شيء....فحتى الرّمال يمكن أن تكون متحركة.
------
- طالب مرحلة دكتوراة في العلوم السياسية
yosri.bouaouina@gmail.com