نقاط على الحروف

بقلم
محمد العشّي
الثعالبي من التوثيق المكتوب إلى التوثيق المرئي
 في أهميّة الأشرطة الوثائقيّة
اتجهت السّينما بقوّة منذ نشأتها الأولى إلى أشرطة التخييل les films de fiction (أو الأشرطة الرّوائيّة) وهي الأشرطة المعتمدة على قصّة متخيّلة، سواء كانت تلك القصّة كوميديّة أو تراجيديّة أو بوليسيّة أو من نوع الخيال العلمي... وقد وجد هذا النوع من الأعمال إقبالا كبيرا من قبل جمهور المشاهدين منذ نشأته في أواخر القرن 19 إلى أيّامنا الحاليّة، غير أنّ نجاح الأشرطة الروائيّة المتخيّلة لم يمنع بعض السينمائيّين منذ بدايات القرن العشرين من تجريب نوع آخر من الأعمال السينمائيّة وهي الأشرطة الوثائقيّة التي تسعى إلى كشف الحقيقة لا إلى إثارة الخيال. وعقدها مع المشاهد لا يتمثّل في إبعاده عن الواقع اليومي وإمتاعه بالتّحليق في عالم المتخيّل، بل في دفعه إلى التعرّف على تخوم الواقع التي لا يعرفها أو يعرفها بشكل سطحي، فيصبح فعل المعرفة سبيلا إلى متعة المشاهدة.
و هذا التفريق بين الروائي والوثائقي هو محاولة لتأطير كلا النوعين و ليس أمرا حديّا حاسما، لأنّ التخييل لا يمنع التوثيق والتوثيق لا يمنع التخييل. ومن هنا فإنّ القسمين الكبيرين للسينما يلبّيان حاجتين ملحّتين لدى المتلقّي وهما حاجته إلى مزيد فهم الواقع عن طريق الأشرطة الوثائقيّة وحاجته إلى التخفّف من ضغط الواقع عن طريق الأشرطة التخييليّة.
و قد بدأ الاهتمام بالشّريط الوثائقي يكبر في السّنوات الأخيرة لأسباب عديدة لعلّ من أهمّها تطوّر وعي الجمهور وتنوّع اهتماماته وأذواقه ومنها تطوّر فنيّات الشّريط الوثائقي نفسه، بحيث صار يعتمد أكثر على التقنيات الحديثة في التصوير والعرض كما صار في الغالب يطعّم المادّة الوثائقيّة الخام بجرعة من الخيال الروائي أو من التلقائيّة في التعامل مع المادّة المرئيّة، مكّنته من شدّ المتفرّج وتحقيق قدر أعلى من نسب المشاهدة لم تكن متاحة له من قبل. 
ومن الشواهد على نجاح الأعمال الوثائقيّة تمكّنها من اقتحام قاعات العرض السينمائي التجاريّة و تحقيقها لنسب إقبال محترمة. ونذكر على سبيل المثال نجاح السينمائي الأمريكي «مايكل مور» في تحقيق إيرادات عالية من خلال شريطيه «فهرنهيت 11/09» (2004) الذي سخر فيه من سياسة بوش في العراق و«سيكو» (2007) الذي تحدّث فيه عن نظام التأمين الصحّي فــــي أمريكا. وفي تونس نجحت بعض التّجارب الوثائقيّة في استقطــاب نسبة محترمة من جمهور القاعــــــــات على غرار شريط «كحلوشة»(2006) لنجيب بالقاضي وشريط «الشلاّط» (2014) الوثائقي الرّوائي لكوثر بن هنيّة.
شريط الثعالبي نموذجا 
كان لي شرف كتابة سيناريو وإعداد شريط وثائقي عن الشيخ المناضل عبد العزيز الثعالبي أنجز في تونس، وتمّ بثّه لأوّل مرّة على قناة الجزيرة الوثائقيّة يوم 03 -07- 2015 . وقبل الحديث عن حيثيّات الشّريط أودّ الإجابة عن سؤال مهمّ وهو: ما الفرق بين التّوثيق المكتوب والتوثيق المرئي؟ وإذا كان الموضوع المختار قد تناولته دراسات عديدة بالبحث والتّمحيص، فما الذي يضيفه أن نحوّله إلى شريط مرئي؟
بداية نقول إنّ التوثيق بكلّ أشكاله وأسناده supports عمليّة مهمّة ولا يغني أحدها عن الآخر، غير أنّ تلك الأسناد تتمايز من عدّة نواح، لعلّ أبرزها:
- اختلاف السندين (المكتوب والمرئي) من حيث الجمهور المستهدف. فإذا كان المكتوب يتوجّه إلى نخبة ضيّقة نسبيّا من الدارسين المهتمّين بالموضوع، فإنّ المرئي يتوجّه إلى الجمهور العريض بكلّ فئاته وبكلّ درجاته التعليميّة ومكتسباته الثقافيّة.
- اختلاف السندين من حيث طريقة المعالجة، فإذا كان المكتوب يركّز على الفكرة المجرّدة ويعوّل على مخيّلة المتلقّي (القارئ) فإنّ المرئي يركّز على الصورة المحسوسة ويوجّه مخيّلة المشاهد ويكيّفها انطلاقا من المادّة المعروضة.
- اختلاف السندين في الأدوات المستعملة، فالمكتوب يستند بالأساس إلى اللغة المكتوبة ممّا يجعله قريبا من خانة الأدب، أمّا الشريط المرئي فيستند إلى التصوير والموسيقى والتجسيم التمثيلي ممّا يجعله مصنّفا في خانة الفنون.
- يضاف إلى ما ذكرنا أنّ الدراسة المكتوبة تعبّر عادة عن رأي واحد في الموضوع المطروق هو رأي المؤلّف في حين يسمح الشريط الوثائقي بتعدّد الرؤى لأنّه لا يعتمد على مصدر واحد للمعلومة ولا على رؤية واحدة في التحليل. وذلك ما يجعله يسلّط الأضواء على الموضوع من زوايا متعدّدة تسمح برؤية أشمل للمسألة الواحدة.
- ومن نقاط الاختلاف أنّ البحث المكتوب قد يطول ليشمل مئات الصفحات ممّا يتطلّب ساعات طويلة من القراءة والتركيز أمّا الشريط المرئي فهو في العادة محكوم بزمن محدّد للعرض (لا يتجاوز الساعة الواحدة في الغالب) ممّا يجعله مطالبا بالتكثيف واجتناب المسائل المعقّدة التي يتداولها المختصّون، ولا يستفيد منها عامّة المشاهدين.
  ويمكن القول أخيرا أنّ الأعمال الوثائقيّة المرئيّة لا تعدّ نفسها منافسا للأعمال المكتوبة بل هي امتداد لها ومحاولة لتوسيع دائرة المهتمّين بقضاياها عن طريق السند السمعي البصري القادر على الوصول إلى كلّ البيوت والتوجّه إلى كلّ العقول.
  والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه هو : لماذا تمّ الاختيار على شخصيّة «عبد العزيز الثّعالبي» دون غيرها من الشخصيّات؟
 يمكن القول أوّلا إنّ اختيار الثّعالبي يأتي في إطار أعمّ وهو حاجة المجتمع التونسي حاليّا إلى إعادة الاعتبار لعشرات الشخصيّات العظيمة التي لعبت دورا بارزا في تطوير فكره وأدبه وفي كفاحه من أجل التحرّر والانعتاق من هيمنة الأجنبي سياسيّا واقتصاديّا و فكريّا. ونخصّ من بين شرائح المجتمع المختلفة فئة الشّباب المتّسمة بالاندفاع والحماس والسعي إلى التّغيير... ولكن التّغيير في أيّ اتجاه؟ هل هو في اتّجاه بناء الشّخصيّة الوطنيّة الرّاسخة في هويّتها والمنفتحة على القيم الإنسانيّة والمتطلّعة للعمل والإنجاز وتجاوز رواسب الاستبداد السّياسي والحيف الاجتماعي والتخلّف الفكري أم هو اتجاه الارتماء في أحضان الحراك الجهادي بأفقه السّلفي العدمي أم هو اتجاه الذوبان في مشاريع ثقافيّة حداثيّة لكنّها لا تستجيب لخصوصيّات مجتمعنا وتطلّعاته؟
   إنّ العودة إلى نماذج الشخصيّات المميّزة في تاريخنا القديم والحديث من شأنه أن يساعد المجتمع وخاصّة فئة الشباب منه على الخروج من دائرة التّيه وعلى تحديد الوجهة المطلوبة للاستجابة لتحدّيات المستقبل. ولا يكون ذلك بتكرار تجارب السابقين مهما علا شأنهم لأنّ لكلّ تجربة سياقها التاريخي الخاص ولكن بأن نستلهم منهم حماسهم في التمسّك بقيم الحقّ والعدل والخير وتمسّكهم بثوابت الشخصيّة الوطنيّة وباستقلاليّة القرار الوطني وسعيهم الدؤوب للإصلاح وتطوير أوضاع المجتمع، كما نستلهم من أخطائهم في الاجتهاد والتقدير. ومن أبرز تلك الشخصيّات التي كان لها أثر في تاريخ تونس الحديث خير الدين التونسي وبيرم الخامس ومحمد السنوسي وسالم بو حاجب والبشير صفر والخضر بن حسين وعلي باش حانبه وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحدّاد وأبو القاسم الشابي والقائمة تطول...
  ويمكن القول إنّ الثعالبي هو أكثر شخصيّة  تعرّضت للظّلم من بين الشخصيّات التي ذكرت، لأنّ خلافه مع الحبيب بورقيبة في آخر الثّلاثينات من القرن الماضي حكم عليه بالنّسيان وحكم على أنصاره ومحبّيه والعارفين لقدره بالسّكوت، إلى أن تعاقبت الأجيال ودخل بورقيبة نفسه إلى دائرة التاريخ، عندها فقط بدأ إحياء تراث الثعالبي، وبدأت الكتب والدراسات المهتمّة بدوره الفكري والنضالي تبرز للوجود. وهي في مجملها أعمال مكتوبة وليست سمعيّة بصريّة ممّا أكّد الحاجة إلى إيلاء شخصيّته ما تستحقّه من اهتمام و إلى إعادة الاعتبار لدوره التاريخي الحقيقي من خلال شهادات المختصّين ومن خلال الوثائق البصريّة المتاحة ليدرك كلّ المتابعين في تونس وخارجها الحجم الحقيقي للرجل والدور الذي لعبه محليّا وإقليميّا ودوليّا في نصرة قضايا التحرّر والإصلاح. 
في حيثيّات الشريط ( الاختيارات الفنيّة و صعوبات الإنجاز)
  من المؤسف حقّا أنّ الشريط أنجز بعد أن توفّي كلّ الذين كانوا مقرّبين من الثعالبي في المرحلة الأخيرة من حياته (توفي الثعالبي في 1 أكتوبر 1944) وخاصّة الدكتور أحمد بن ميلاد والحبيب شلبي اللّذان ظلاّ أوفياء له إلى آخر لحظات حياته. ومن المؤسف أيضا أن ضاع الجزء الأكبر من مذكّراته التي أملاها وهو على فراش المرض، ممّا حجب الكثير من تفاصيل تجربته.
  كلّ ذلك لم يمنع من وجود مادّة ثريّة متمثّلة في كتابات الثّعالبي سواء في شكل كتب أو في شكل مقالات صحفيّة، والشهادات المكتوبة لبعض من عاصروه مثل عمر بن قفصيّة وأحمد بن ميلاد، ووثائق الأرشيف الوطني والمكتبة الوطنيّة ومركز التوثيق الوطني والمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنيّة ومركز التميمي للدراسات، يضاف إلى ذلك ما صدر من كتب و دراسات حول الثعالبي بداية من تسعينات القرن الماضي. ومثّل كلّ ذلك المادّة الأصليّة الخام التي خوّلت لنا فهم شخصيّة الثعالبي وإعادة بناء مراحل حياته ومتابعة التطوّرات في فكره وفي فعله النضالي.
  وتمثّلت الصعوبة الأساسيّة بعد الاطلاع على الوثائق واستيعابها وإعادة تنظيمها في طريقة التصرّف فيها استجابة لمقتضيات العمل الفني السينمائي، فالمتفرّج في شريط وثائقي ليس مستعدّا لقراءة المقالات المطوّلة والاطلاع على فحوى الكتب المصوّرة على شاشة العرض، وإنّما يقبل على الشّريط المرئي للحصول على المعلومة بأيسر السّبل وأوضحها وبشكل يحافظ على جماليّة الفنّ ولمسة الإبداع. وقد وقع التغلّب على هذه الصعوبة بالتّعاون مع المخرج انطلاقا من بعض الاختيارات الفنيّة التي نوجزها فيما يلي:
أوّلا: إيجاد خيط ناظم بين مختلف أجزاء الشّريط ممثّلا في شخصيّة الباحث عن تاريخ الثعالبي الذي يتنقّل من مكان إلى آخر ومن شخصيّة إلى أخرى ليجمّع شتات المعلومات المتعلّقة بمراحل حياته وشخصيّته وخصائص فكره... ومن وظائف إدراج هذه الشخصيّة التقليص من رتابة الإدلاء بمعلومات متتالية، وتقريب التوثيق من التّخييل لضمان متابعة المشاهد وتفاعله مع المادّة المعروضة.
ثانيا: وفي نفس السّياق السّابق من معاضدة التّوثيق بالتّخييل وقع تجسيم بعض المشاهد بطريقة تمثيليّة مثل تجسيم الثعالبي وهو طفل يتعلّم القرآن الكريم ثمّ وهو شاب يتردّد على جامع الزيتونة والخلدونيّة ثمّ وهو كهل يكتب المقالات ويقابل شخصيّات عصره... ومن شأن تلك المشاهد الممثّلة أن تعزّز الجانب الفني الإبداعي في العمل وأن تجعله أقرب إلى استساغة المتلقّي.
ثالثا: وقع الاستعانة بزمرة من المختصّين في حياة الثعالبي وفي تاريخ الحركة الوطنيّة مثل الدكاترة محمد مسعود إدريس وأحمد خالد وفتحي القاسمي وأحمد الطويلي والمؤرّخة قمر بن دانة والباحث الشاذلي البخاري... وكلّ هؤلاء استطاعوا بفضل حسن اطلاعهم على الموضوع أن يلخّصوا للمشاهد ما يتطلّب منه الساعات لقراءته واستيعابه. وقد مثّلت تدخّلاتهم أفضل تعليق على الوثائق المرئيّة ممّا لم يحتج معه إلى تعليق إضافي خارجي.
رابعا: وقع البحث عن بقايا عائلة الثعالبي من حفدة أخيه لأنّ ابنه الوحيد حميد الدين مات ولم يخلّف عقبا. وفي ذلك تأكيد لواقعيّة العمل وتأكيد على تواصل التاريخ وعدم انقطاع الأثر بموت صاحبه، فكما أنّ كتب الثعالبي ونضالاته تشهد على قيمة الرجل وعلى أثره في التاريخ فإنّ بقايا عائلته تشهد على تواصل الحياة وعلى ضرورة الوفاء للشخصيّات العظيمة التي أسهمت في بناء المجتمع المدني التونسي وفي مدّه بالفكر التنويري وبالأدوات النضاليّة المساعدة على مواجهة التحدّيات وبناء الشخصيّة الوطنيّة المرجوّة. 
  وتبقى مسألة مهمّة وهي مدى التزام الشريط بالموضوعيّة في تقديم الشخصيّة دون تضخيم ولا تقزيم، ودون توجيه إيديولوجي مسبق، وفي هذا الصدد يمكن القول إنّ الموضوعيّة المطلقة في الأعمال الفنيّة أمر غير وارد وغير مطلوب لأنّ اختيار حجم اللقطة أمر غير بريء واختيار الإضاءة كذلك فضلا عن اختيار المتدخّلين وانتقاء الجمل والصور المصاحبة... فالعمل الفنّي يعبّر بالضرورة عن اختيار وعن موقف يكون غالبا واعيا وقد يصدر جزء منه عن لاوعي المبدع.
  وكما أشرنا سابقا فإنّ الشريط يهدف إلى إعادة الاعتبار لشخصيّة الثعالبي وإلى رفع مظلمة اللامبالاة والإهمال التي لحقت شخصه دون وجه حقّ، غير أنّ إعادة الاعتبار لا تعني تزييف التاريخ ولا تعني أن ننسب للشّخص بطولات وهميّة، وهذا ما حرصنا على تحقيقه من خلال التحرّي في المعلومة ومراعاة الدقّة في سرد الحقائق وفي دعمها بالوثائق حتى نكون أقرب ما يكون للأمانة التاريخيّة و لوصف الشّخصيّة بما هي له أهل. ونرجو أن نكون قد وفّقنا في ذلك.  
ملاحظة 
الشريط معروض على موقع اليوتيوب ويمكن مشاهدته أو تحميله عبرالرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=jm3ztTgP2bI
-----
- أستاذ وكاتب تونسي
med.echi15@gmail.com