في العمق

بقلم
عبدالنّبي العوني
العبور ... متى ... وكيف؟
 تحقّقت اللّحظة الفارقة في تاريخنا الوطني التي انتظرها الجميع، تمّت إزاحة الرّأس، رأس، نظام قمعي واستبدادي هجين، فاسد ومفسِد. نظام بأذرع أمنية متشعبطة ومتشابكة، وأوجه حزبيّة ذات سحنات قصديريّة وثرثارة، عائليّة وإعلاميّة، وأجهزة نخرتها المحسوبيّة والزبونيّة والسّمسرة والفساد المالي والقيمي.
الإزاحة تمّت بطريقة بركانيّة وسريعة، بفوران شعبي سلمي وفطري (التحقت بها قبل إسدال السّتار جوقة الأجهزة والقوى) لم يُشهد من قبل لها مثيلا، من حيث التّجاوز والانضباط  والتّجميع الشّعبي بالرّغم من افتقادها لمنظّرين أو قادة أو آباء إلاّ من منتحلّي الصّفة من اليمين والوسط واليسار. 
تمّت العمليّة القيصريّة بصفة تلقائيّة، عفوية ومتسارعة وكأنّها عُدِّلت بساعة بيولوجيّة اجتماعية، وبأدنى رصيد من الدّم بالمقارنة مع مثيلاتها في الزّمان والجغرافيا، ولولا بعض التّجاوزات المنظّمة والهادفة إلى إجهاض المسار التّراكمي الشّعبي لكانت بحقّ أنصع ثورة بياضا.
كانت فتحة لكوّة في جدران منظومة قائمة، قاتمة ومعطّنة، وفاتحة ليس لها نظير، إنهار خلالها أنموذج الدّولة القمعيّة العربيّة التي يجوع فيها الكلّ من أجل رفاهيّة زمرة حاكمة بأمرها، وتفتّت حائط الاستبداد والفساد وبقيت صوره وشخوصه وأثاره أعماقه نعاني من ارتداداتها لحدّ الآن.
تمّ انخلاع الرّأس في العراء والهروب إلى الخلاء في صحراء الرّبع الخالي، ووقع التّخلّي عن النّموذج المستنسخ بحثا عن استقرار في المنطقة مع مراعاة للتّراكمات والتّفاعلات الدّاخلية، وإعادة مركز الثّقل والتّوازن لجسم الشّعب المقهور.
اُسْتُجمعت القوى بفعل الحركة والاحتكاك وبالتّأثر والتأثير، وحصل الانسجام المؤقت بين التّطلعات والطّاقات الجمعيّة بطرق عفويّة نابعة من الأعماق كعيون صافية، وتداعت له بقيّة من الأطياف بالسّهر والحمّى، وككرة «البلياردو» تدحرج رأس النّظام الفاسد، ولم يصدِّق أحد دويّ سقوطه الفجائي، تفاجأ هو نفسه من سقوطه الكاريكاتوري كسقوط ذيل بعض السّحالي بعد اللّمس.
استنشقت الطّاقة المخزونة والمكلومة نسمات العزّ والحرية، تحرّرت الإرادة وخرج الشّعب من القمقم  يتنسّم حرّيته على أنقاض الخراب الذي تركته منظومة الفساد، طاقة جمعيّة خام ومنفصلة تجمّعت في لحظة نادرة الحدوث، فكّت أغلالها بيديها المكبلتين وحطّمت محبسها واستجمعت قواها المعلنة والخفيّة والمتجمّعة، وغسّلت شهداءها بدمائها وعرقها، ولمّا أن نضجت الثّمار وحان قطافها، أسرع حصّادون، حفاة، عراة يحتفلون بها على المنابر المزركشة على عجل في يوم للزّينة، وتركوا الحيارى في عرسهم الشّعبي البهيج ينثرون بقايا دم على شهدائهم بماء مخلوط بالغاز المسيل للدّموع. 
 سقط الرّأس وحيدا عاريا حتّى سوءاته وخائبا، بعد أن أكلت دودة الفساد مِنسأته، وتبرّأ منه الصّديق والقريب والسمسار ومتعهدي حفلاته وأصبح كالجرَبْ يخاف من شؤمه المارون والعابرون، وفي خضم المنازلات والتنازلات، كبرت الأحلام والآمال بتغذية من المنابر والورق، بولادة رشيدة نيّرة ومفعمة بحيوية الوجود، وغابت الألوان والتكوينات والأطياف لفترة لم تطل، أصبح التّصنيف بعدها بالرّجوع إلى النّقاء الثّوري والماقبل والمابعد ثورجي.
كانت بحقّ لحظة فارقة، تجمع فيها النّاجون من المحرقة، الإخوة والرّفاق وحتّى من كان إلى آخر أيامه مساهما في دسترة مرحلة العهد (وفيما بعد دسترة أكبر البقايا)... حلم الجميع بعدها بعبور آمن هادئ ومتوازن، حالم وشاعري، إلى ضفّة صناعة الحياة وصناعة وطن يأمنون فيه من جوع ومن خوف، وطن معافى من الوهن والعجز، وطن حّر عزيز وكريم، وصياغة نموذج أصيل لمجتمع مدني تعدّدي فاعل في محيطه، متأصل في أرضه وثقافته ومتطلّع رياديّ بعد أن تخلّص من الأثقال والسّلاسل التي كبّلت روحه وأجهضت ولاداته، وطن أسسه ثابتة ومناراته في السّماء عالية ومرشدة للتّائهين والثّائرين والحيارى.
لكن متى...؟
متى يحصل العبور إلى هذه الضّفة المنشودة، بعد أن تحقّق الانجاز والولادة القيصريّة الأولى، متى يتمّ تجاوز التّلاشي والتشظّي المركّب والانقسام حول المبادئ الأساسيّة والتنازع والفرقة والتفرقة حول الأصول الأوليّة للمجتمع؟
متى يُتوفّق في استجماع البقايا الرّوحية  للقفزة الثّورية الأولى، أين تماهت التّطلعات والأحلام والانتظارات والإنتصارات على الذّوات وانسجمت، وأين اختفت من السّاحات اليافطات والأعلام والنزعات الفئويّة والحزبيّة وصراع الطّبقات وديكة الايديولوجيات الثقفوتيّة، ومتى يستطاع تنزيل التّوازن بعد تحقّق الطّفرة والقفزة الثوؤية الأولى بشراكة جميع المضطهدين. 
متى تُتجاوز خيارات الوأد والانقلابات والاغتيالات وانتفاضات العيّارين (فترة بني العبّاس) وخيالات وخيارات المجازر المجاورة والمنافي والسجون والاختناق الجماعي؟..
متى تعود نوارس ثوابتنا الوسطيّة المتوازنة إلينا التي شكّلت معالم شخصيتنا الفرديّة             والجماعية والجمعيّة؟ متى ينجز العبور التّاريخي إلى ضفّة المشروع (ليس مشروع «الموازي» في كلّ حال) وصناعة الوجود، ومتى نقدّم نموذجا خاليا من تلوّث الصّور جراء إخلالاتنا المابعدية واختلافاتنا الهامشيّة وصراعاتنا الصبيانيّة ونزاعاتنا الفئوية.
متى نضع أهدافا عامة مشتركة تجمع ولا تفرّق، نرضى بها وترضى بنا، نعبر برفقتها جسر البناء ونسهم كونيّا في تقديم مرسومة شرقيّة وبسمة ياسمينيّة للعالم بعد أن أخذتهم رعشة ودهشة وهج الثورة؟
متى نعبر إلى الضّفة الأخرى بأقلّ الأضرار حتى لا نبكي وطنا نضيّعه كما لم يفعل الرجال؟
كيف نعبر...؟
كيف نعبر وقد حملنا في جرابنا وذاكرتنا تجاربنا الفاشلة الماضية، كيف ننجو ونبرأ من أمراضنا وصرعاتنا القديمة «قدم الأيديولوجيات العقيمة» المركّبة والعادمة. كيف نراجع زوايا رؤانا العاتمة ومواطئ أقدام أفكارنا الصدئة. وكيف نستأصل الزّوائد الدودية الإيديولوجية العقيمة التي لم تزدنا إلاّ تشتّتا وثرثرة وهذيانا؟
كيف ننجو من النّيران الصّديقة وشهب الفشل المملوكي التي تلاحقنا في أسفارنا والتي تراودنا للسّقوط فرادى وجماعات في وحل المنازعات والفساد والعذابات والسجون  والمنافي؟
كيف نجتمع ونلتفّ على كلمة جامعة وسواء بيننا، وكل منّا يجذب طرف الوطن إلى حزيبه، وكيف يا ربّ نتيقّن ونعتقد أنّ شعبا استطاع، بتوفيق منك، من أن يفتح الكوّة العليا لداموس الفساد ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو أسمى؟
كيف يا ربّ تتيقّن نخبتنا، أنّ صراع الديكة الذي تستمرئه وتمارسه سرّا وعلنا لا ينتج ولا يبني، بل تزكم روحنا صور إفرازاته الكريهة وهو على المدى المتوسط والبعيد خنجر في خاصرة التّجانس والوحدة والانسجام ولا ينشئ إلاّ الظمأ والعطش المزمن الذي يستهوي التّطرف والاغتراب والاستبداد؟
كيف يُنجز الاستحقاق، ما بعد التّحرر، في الاستقرار والوفاء بالعهد،( إنّ العهد عنه لمسؤولون) والعمل لتحقيق متطلّبات الطفل والصبي والكهل وابن الشهيد..؟
كيف يحلو العيش ونحن نمسي ونصبح على الشّتائم واللّعان ونتقاسم في دورنا، تاريخ الوطن وثرواته، ونتلهّى بالصراخ والعويل على الفاصلة والكلمة والعجُز، ونتغذّى من تناحر الفئتين، وأخطبوط الدولة العميقة في غفلة منّا أعاد التمركز والتموقع وتوزيع الأدوار فيما بين أجنحته، فهو الخبير بالدواليب والزواريب والأزقّة والممرات المغلقة وحتى مجاري الصرف الصحي، بينما أغلب الطوائف الثورية تتطهّر وتتزيّ ببزّة الأيتيكيت التلفزي وهي توزّع على أتباعها صكوك المغفرة والثورجيّة الهائمة كشخوص «الخبز الحافي»؟
كيف نطفو على جراحاتنا وصراعاتنا ونزواتنا ونزعاتنا السلطوية والتسلطية، وكل منّا يسهر على تنمية مستبدّ شرقي فقير في مناطق لاوعيه ووعيه؟.
كيف ينجز المتعبون والمنهكون والمنتهكة حقوقهم عبورهم، هم يشاهدون بوادر الهزيمة والعجز في النخبة المثقّلة بالصراع والجراح، والتي ما فتئت تفسد الأعراس الشعبية والأفراح والأعياد الوطنيّة بأن تبدلهم عوضا عنها أفلام النزوات والغزوات والدهاليز والشذوذ و تفرعاته؟
وعبر أيّ محطة سيتمّ العبور والعود إلى الذوات النقية لتفجير ينابيع العزّ والحرية وتجيمع الطاقة التي يستحقها أحلى وطن كي تُكوّن مفاخر اللحظات الإنسانية ؟.
 وكيف ندوم في الوطن ويدوم  الوطن وأكنافه فينا، وهو في عزٍّ وريادة؟.
----
- استاد و باحث 
ouni_a@yahoo.fr