مشاغبات

بقلم
الحبيب بلقاسم
إِعْلَامُنَا بَيْنَ مُتَفَجِّرَاتِ البِلْجِيكِيِّ وجَرَاثِيمِ الألْمَانِيَّةِ قِسْمَةٌ ضِيزَى
 يَذْهَبُ قَوْمُ إِلَى أنَّ الصِّحَافَةَ هِيَ السُّلْطَةُ الرَّابِعَةُ، والشُّرْطَةُ الرَّادِعَةُ، وقَدْ صَحَّ قَوْلُهُمْ، وصَدَقَ زَعْمُهُمْ، بَلْ أكَادُ لَا أُخَالِفُ مَنْ يَزْعُمُ أنَّهَا السُّلْطَةُ الأولَى، وبِخَاصَّةٍ فِي زَمَنِ مَا بَعْدَ الثَّوْرَةِ، وأوَّلُ وَلِيدٍ تُنْجِبُهُ الثَّوْرَةُ الحُرِّيَّةُ، وبِغَيْرِهَا لَا تُبْنَى الأُمَمُ، ولَا تَرْقَى الدُّوَلُ، غَيْرَ أنَّ لَهَا عِنْدَ العُقَلَاءِ، حُدُودًا وضَوَابِطَ، وشُرُوطًا ومَحَارِمَ، والشُّرُوطُ لَا تُنْتَقَضُ، والمَحَارِمُ لَا تُنْتَهَكُ، ولِأنَّ العَرَبَ حَديثُو عَهْدٍ بِالحُرِّيَّةِ، وكَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِمَثَابَةِ الحُلْمِ الطَّائِرِ، غَلَوْا فِي اِسْتِعْمَالِهَا غُلُوًّا فَاحِشًا، واَنْفَلَتُوا اِنْفِلَاتًا عَجَبًا، لَا تَزَالُ شَوَاهِدُهُ بَيِّنَاتٍ، وعَوَاقِبُهُ نَيِّرَاتٍ، ولَا شَكَّ أنَّ لِكُلِّ أجَلٍ كِتَابًا، وأنَّ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مَنْطِقًا، ولَا بُدَّ أنَّ الأيَّامَ سَتُنِيرُ أمَامَنَا حَقَائِقَ جَدِيدَةً، تُصَوِّبُ المَسَارَ، وتُرَشِّدُ الخِيَارَ، وتَضَعُنَا فِي وَضْعٍ جَدِيدٍ، تُحَدَّدُ فِيهِ المَفَاهِيمُ، وتُعَدَّلُ فِيهِ المَوَازِينُ.
إِنَّ للِصِّحَافَةِ خَاصَّةً، وللْإِعْلَامِ عَامَّةً، تَأثِيرًا قَوِيًّا فِي المُجْتَمَعِ، وفِعْلًا مُؤَثِّرًا فِي وَاقِعِهِ، وسُلْطَانًا مُبِينًا فِي أحْدَاثِهِ، وتَوْجِيهَا مُبَاشِرًا لِمُتَقَبِّلِهِ، وبِإِمْكَانَهِ بَمَا تَوَفَّرَ فِيهِ مٍنْ بَرِيقٍ وهَيْمَنَةٍ وجَاذِبِيَّةٍ، أنْ يُرْسِيَ الثَّقَافَةَ الَّتِي يُرِيدُ، وأنْ يَصْنَعَ الشَّخْصِيَّةَ الَّتِي يُرِيدُ، ويَكُونُ ذَلِكَ فِي غِيَابِ الصَّوْتِ الآخَرِ، أوْ فِي فُقْدَانِ المُنَافَسَةِ الشَّرِيفَةِ، ولِذَلِكَ غَدَا المُغَنُّونَ والمُغَنِّيَاتُ، والمُمَثِّلُونَ والمُمَثِّلَاتُ، ولَاعِبُو الكُرَةَ واللَّاعِبَاتُ، هُمَ العَبَاقِرَةَ المَشَاهِيرَ، والأسَاتِذَةَ النَّحَارِيرَ، وغَدَا الطُّغَاةُ الأوْغَادُ والبُغَاةُ الأرْذَالُ، هُمُ الحُمَاةَ الأمْجَادَ والبُنَاةَ الأبْطَالَ، هُمُ الجَهَابِذَةَ الأفْذَاذَ سَادَةَ الأوْطَانِ.
هَذِهِ الأيَّامَ، حَدَثَ فِي بِلَادِي حَدَثَانِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الخُطُورَةِ، سَلِمَتْ مِنْهُمَا بِلَادِي سَرِيعًا، بِفَضْلٍ مِنَ الوَاحِدِ الدَّيَّانِ، الحَافِظِ السَّتَّارِ، وهَذِهِ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُقَادِرُ قَدْرَهَا إِلَّا التُّقَاةُ الثِّقَاتُ، المُهْتَدُونَ المُقْتَدُونَ، مِمَّنْ يَحْذَرُونَ الآخِرَةَ، ويُشْفِقُونَ عَلَى الوَطَنِ، الحَدَثُ الأوَّلُ هُوَ القَبْضُ عَلَى بِلْجِيكِيٍّ تَقَحَّمَ أرْضَنَا حَامِلًا مَعَهُ شَاحِنَةً أوْ مَجْرُورَةً حَافِلَةً بِالسِّلَاحِ المُدَمِّرِ، مِنْ صَوَارِيخَ وقَاذِفَاتٍ ورَاجِمَاتٍ، والحَدَثُ الثَّانِي مُتَمَثِّلٌ فِي القَبْضِ عَلَى ألْمَانِيَّةٍ جَاءَتْ بِلَادِي عَارِضَةً عَلَى شَبِيبَتِنَا ونَاشِئَتِنَا وفِتْيَتِنَا جَسَدًا مُلَوَّثًا بِالجَرَاثِيمِ القَاتِلَةِ، فَكَيْفَ تَصَرَّفَ إِعْلَامُنَا فِي الحَدَثَيْنِ والحَادِثَتَيْنِ والكَارِثَتَيْنِ والبَلِيَّتَيْنِ والرَّزِيَّتَيْنِ ؟
وَا أسَفَاهُ، ويَا وَيْلَتَاهُ، لَقَدْ كَانَتْ القِسْمَةُ ضِيزَى، والمِيزَانُ جَائِرًا، والتَّقْدِيرُ مُتَفَاوِتًا، إِذْ عُقِدَتْ لِمُتَفَجِّرَاتِ البِلْجِيكِيِّ نَدَوَاتٌ ومَجَالِسُ، ولِقَاءَاتٌ ومَنَابِرُ، ومُنَاوَشَاتٌ ومَوَائِدُ، طَالَ فِيهَا عَنْ حَدَثِ الحَادِثَةِ حَدِيثٌ، واَرْتَفَعَ الصَّوْتُ والسَّوْطُ، واَشْتَدَّ بَعْدَ الجَذَلِ الجَدَلُ والدَّجَلُ، كُلٌّ يُبْدِي رَأيًا وتَحْلِيلًا، ويُعْلِنُ فكْرَةً وتَعْلِيلًا، ويُعْلِي صَخَبًا وصُرَاخًا، ويَقُولُ مِنْ بَعْدِ نَقْضٍ نَقْدًا، وكَانَ لَا بُدَّ أنْ تُعْقَدَ هَذِهِ المَجَالِسُ، وتُدَارَ هَذِه المَوَائِدُ، ويُدْعَى إِلَيْهَا أهْلُوهَا مِمَّنْ لَهُمْ الرَّأيُ السَّدِيدُ، والرُّؤْيَةُ الثَّاقِبَةُ، والطَّرْحُ القَوِيمُ، والفِكْرَةُ البَانِيَةُ، وكَانَ لَا بُدَّ ألَّا تَقَرَّ لَهُمْ عَيْنٌ، ولَا تَسْكُنَ نَفْسٌ، ولَا يَهْنَأَ بَالٌ، ولَا يَهْدَأَ حَالٌ، ولَا يَخْمُدَ صَوْتٌ، حَتَّى تُرَى الحَقِيقَةُ عَارِيَةً سَافِرَةً، وتُعْرَفَ كُلُّ التَّفَاصِيلِ، فَبِهَا – أزْعُمُ – يُكْشَفُ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا غَيْرَ مُسْتَطَرٍ، ويُفْضَحُ مَا كَانَ مَخْبُوءً يَكِيدُ للْوَطَنِ الجَمِيلِ، حَسَنًا فَعَلَ القَوْمُ عِنْدَمَا كَانَ مِنْهُمْ عَزْمٌ عَلَى الخَوْضِ فِي الكَارِثَةِ، وحَزْمٌ فِي التَّعَاطِي الجَادِّ مَعَ هَذِهِ القَضِيَّةِ الخَطِيرَةِ، وأَحْسِبُ أنَّ البِلْجِيكِيَّ لَوْ بَلَغَ غَايَتَهُ، دُونَ أنْ تُبْصِرَهُ عَيْنٌ، لَشَهِدَتْ بِلَادِي مَآسِيَ جدِيدَةً، زَادَتْ مِنْ أوْجَاعِهَا، وعَكَّرَتْ أوْضَاعَهَا، وعَطَّلَتْ قَافلَةَ نَمَائِهَا، وعَقَّدَتْ سِيَاسَةَ دَوْلَتِهَا، وعَمَّقَتْ جِرَاحَ نُخْبَتِهَا، وتِلْكَ غَايَاتُ المُفْسِدِينَ الخَوَارِجِ، وأمْنِيَاتُ الحَاقِدِينَ اللِّئَامِ، وهَذِهِ مُهِمَّةُ الإِعْلَامِ، ووَظِيفَةُ الصِّحَافَةِ، حَرِيٌّ أنْ تُدِيرَهَا بِإِتْقَانٍ، وتَقُومَ بِهَا خَيْرَ قِيَامٍ.
وفِي الوَقْتِ الَّذِي اُثِيرَتْ فِيهِ هَذِهِ القَضِيَّةُ الخَطِيرَةُ، وعُولِجَتْ بِمَا فِيهِ الكِفَايَةُ، وإِنْ كَانَتْ الكَفَاءَةُ عِنْدَ الكَثِيرِينَ غَائِبَةً، وقِرَاءَتُهُمْ خَائِبَةً، نَجِدُ أنَّ القَضِيَّةَ الثَّانِيَةَ مَوْضُوعَةً فِي الثَّلَّاجَةِ، كَانَ عَلَيْهَا حَظْرٌ ولَمْ يَكُنْ لَهَا ذِكْرٌ، رُغْمَ أنَّهَا فِي تَقْدِيرِي الخَاصِّ، تَبْدُو أشَدَّ خَطَرًا، وأكْثَرَ أهَمِّيَّةً، وأوْخَمَ عَاقِبَةً، إِذْ هِيَ تَسْتَهْدِفُ أمَّةً ودِينًا وحَضَارَةً وهُوِيَّةً، ونَاشِئَةً وشَبِيبَةً وطُفُولَةً وأجْيَالًا، وقِيَمًا ومَبَادِئَ ومُثُلًا ومَكَارِمَ، ولَيْسَ الاِسْتِعْمَارُ رَصَاصًا يُصَوَّبُ، وحِذَاءً يَدُوسُ، ومَدِينَةً تُحْتَلُّ، وإِنَّمَا هُوَ أيْضًا رُوحٌ تُضْرَبُ، وعَقْلٌ يُدَنَّسُ، وأخْلَاقٌ تُقْصَفُ، بُغْيَةَ فَسْخِ المُسْلِمِ مِنْ دِينِهِ، ومَحْوِ تُرَاثِهِ وتَارِيخِهِ، وهَدْمِ شَخْصِيَّتِهِ وعِزَّتِهِ، وفَصْلِ مَرْجِعَيَّتِهِ وهُوِيَّتِهِ.
عَجَبًا لِصِحَافَةٍ تُهْمِلُ رَزِيَّةً كَادَتْ تَزِيدُ الطِّينَ بِلَّةً، عَاهِرَةٌ ألْمَانِيَّةٌ تَحْمِلُ طَاعُونًا، تَأتِي بَلَدَنَا تَنْشُرُ وَبَاءَهَا، وبَلَاءَهَا، وعِدَاءَهَا، وعَلِمْتُ أنَّ سُلْطَةَ بِلَادِي رَحَّلَتْهَا إِلَى بِلَادِهَا، آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، لَمْ يُفْتَحْ تَحْقِيقٌ، ولَمْ تُعْقَدْ مَجَالِسُ، عَجَبًا كَيْفَ تَطُولُ الرِّحْلَةُ فِي رَصَاصَةٍ تَسْتَهْدِفُ فَرْدًا، وتَصْمُتُ الأفْوَاهُ عِنْدَمَا تَسْتَهْدِفُ طَلْقَةٌ طَائِشَةٌ مِنْ سَائِحَةٍ عَاهِرَةٍ وَطَنًا...ودِينًا...وأُمَّةً.
----
- عاشق الضاد
habib.belgecem.fattouma@gmail.com