محراب الإبداع

بقلم
بلقاسم الجدي
عواصف الوجع ... أن تكتب أو تموت
 أيها القارئ الكريم .. مرحبا بك في محراب الإبداع وفي طقس الكتاب .. أنت أيها القارئ جرعة من الأمل تبعثها في كيان جريح .. أيها القارئ أنت رئة ثالثة أستنشق بها رائحة الحبر وكيمياء الصبر ... ومع هذا لا أخفي عنك قلقي من تردّي وضع الكتاب في هذا البلد .. ولا سيّما ما كان منه إبداعيا ... .فلا أدري هل أحدثكم عما يدفعه المبدع من لحمه ومن سهر وجرحه وهو ينحت مولوده كلمة كلمة ....أم أحدثكم عن مغامرته بخبز عياله الهارب أصلا حتى يستوي هذا المولود على سوقه ... أم أحدثكم عن ماء الوجه الذي يريقه وعن أقدامه التي تتهرأ من معاندة الارض بين الانهج والازقة حتى يروجه ... 
الفنان في بلدي « فنان غلبة» بامتياز.. ومازال تحت تغريدة «الدوعاجي» يطلقها من تحت ذاك السّور ساخرة لاذعة « عاش يتمنّى في عنبه ....» .واعجبي في هذا البلد .. اعتصم أهله لكلّ الأسباب ولم يفتح أحد فاهه من أجل الكتاب ... .
الكتابة وجع أو لا تكون.. كتبي بعض عواصفي، في ماي من عام 2013 أصدرت دفعة واحدة وفي مشيمة واحدة ثلاثة مواليد.. مثلث لم تتساو أضلاعه وتلك علّة في الخلق... فلا الظلّ يستقيم والعود أعوج ولا العود يستوي والزّمن أعرج.. المهمّ أصبحت أبا لستّة وسابعتهم « ستّ».. ثلاثة هي عيال الله .. وثلاثة هي عيالي ... وعادت عيالي عالة على عيال الله والسّت ... تقتات منها بلا استئذان .... وما في الجبّة الاّ أنا وقرطاسي وقلمي يطوح بي بين مدارات عواصف المتابة بلا مرافئ، الاّ أذرعة القراء شواطئ ترسي فيها سفننا بلا ياطر .... .
كتبي بعض  عواصفي التي هزّت منّي الفروع وخلخلت في الأصول، فاذا أنا في جحيم الحبر أتلظّى فرعا فرعا وأصلا أصلا .. وهال من خيار غير السّباحة أنا .. والحبر .. ومعنا السّيد الصبر . هذه بعض حرائقي التي اشتعلت في كياني منذ أزيد من عقدين .. وامتدت الى ما بعد جمعة « أيّالنّار»  ذكَر الشهور .. كادت تذهب بأنفاسي الى المستطيل الأخير ... رشفت منّي مائي ونهشت من لحمي ومن عظمي ..فهرعت الى بنات الحلفاء ومذكر الأقلام أصبّ كبّة اللّهب والجمر والفحم والقهر صبّا على سطح الورق، متبرّجا عاريا الاّ من الصّدق .
ألفيت نفسي في هذا الخضم كفرططّو «الهادي الجويني» الفنان .. وما أروعها من صورة شعريّة تراجيديّة تدمّر الذّات لكنّها تخلقها كالعنقاء من جديد .... هذا «الفرططو» يتّجه رأسا الى النّار التي تحرقه، وكأنّه يصرخ فيّ : «هذه الأوراق جنّتها النّار وجحيمها الحبر»، فتذكّرت ما فعله التّوحيدي بكتبه .. فكدت أفعل لولا بقيّة عشق لعسل الحبر ... وروائحه العتيقة .. ضلعان من المثلث نحتّهما والأصنام تتهاوى والأعلام تتعالى ..دفء الحبر من نار الدّماء ... سيولة ذاك من سيل هذا ..أمّا الضلع الثّالث وهو «وجع الفولاذ» فبدأته سنة 1992 وانهيته 2012
الضلع الاول : المجموعة الشعرية 
تقدم .. فشاطئ الفجر ينادي ..اذا الفجر ناداني أن تقدم، فتذكّرت ابن الجريد وصبحه الجديد .. رآه على بعد أكثرمن ثلاثين حولا ضوئيّا ايمانا بالشعب المريد ...فلماذا لا يحق لي أن أرى ما يرى ؟؟
رأيت التونسي عملاقا يتقدّم ... ثم عرّيت من يأكلون مع الذّئب ويبكون مع الرّعاة ... وعدّت الى دفء ذاك الشّتاء . وحبلى السّنابل وملأى القنابل .. والى فرعوننا الذي قال «خميس ثم سبت وكفى» .. وأنطقت زيتونة جدّي « حرقة بالنّار ولا مطره في أيّالنّار» لكنهّا أمطرت .. وتذكّرت المرأة التي كادت أن تكون أمّي لولا حائط مهجور والاه رحيم زمن الخبزة .. واعترفت أنّي بكيت مرّتين .. ورسمت الخطّ الأسود .. ورثيت العصفورة البكماء التي قنصوها .. وأعلنت ُ أنّ الكراسي كالأرقام القياسيّة تتحطّم أيضا .. ونحتُّ «توبيا» عنوانا للأخوة مع جيراننا الجنوبيّين.. ولم أخْف خوفا على المولودة فصرختُ «أخافها تدوّي بلا مطر» قفلا للمجموعة.. ثماني عشرة قصيدة احتفت بقيامة السّابع عشر وطوفان أيّالنّار... أضفت رقما لأنّ الفجر ينادي.. ولا حائط الاّ الصّبح ..
الضلع الثاني : مسرحية  «لا معة»
«لامعة» ابنة جميلة.. ماسرّها ؟.. لمعت من فحم التّاريخ.. كتاب فأخشاب .. «قمر 14» عرس الجمال والتّاريخ.. فتحت فيها جراحا زمن الكرة والأرجنتين وزمن الخبزة.. طفلا وشابا في مهب العاصفة.. تلميذ بمدينة « السياب» والاسفلت والاسمنت .. وطالبا بمدينة الجنون والفنون والسجون.. بل عدّت الى الخمسينات والسّتينات .. وصاحب النظّارات المستديرة.. خطوة الى الوراء.. وحسيب خطوة الى الأمام... وقبلها «الخمسه اللي لحقو بالجرّه وملك الموت يراجي»... وبعدها أصوات الرّاديوهات تدوّي «بني وطني يا ليوث الصدام».
«لامعة» صحيح أنّها تأخّرت.. لكنّها وصلت الأولى... «لامعة» تصرخ وسط الجمهور، امسحوا عيون فلسطين الدّامعة... «لامعة» تولد فتحبو فتسرّ فتمشي فتطير ... ومن يدري فقد... ولكن سؤالا ركح في كياني فاتحا فاهه كالتّنين « وإذا لامعة سئلت بأيّ ذنب قُتلت»؟؟؟؟
الضلع الثالث : وجع الفولاذ
والفولاذ.. ما حكايته؟ والحكاية أيّ فولاذ قُدّت منه؟ وجع النّص.. ونصّ الوجع ..من دهاليز الجسد ومن صدإ الرّوح.. من صلب التّاريخ ومن ترائب الجغرافيا ... أتى الفولاذ مضافا اليه... ولست أفهم كيف لأوراق نحيلة أن قدرت على حمل أوجاعي وفولاذي؟. شهقت بالرّواية مرّتين.. عقدين من المخاض.. ولحظة من الولادة انزاحت عن صدرها دقّات الآلات الميكانيكية.. فأتت في جلبابها الأسود.. ووجه أرهقته السّنون العشرون .. فكان في لون اللّيم.. كنت أنا والرّواية في خطّين متوازيين ومتعاكسين.. هي تزّيّن وتأخذ زخرفها وأنا أهرم ويطير غرابي.. اشتد ساعدها فرمتني...
هذه الرّواية كدس من الأسئلة وصفر من الأجوبة.. لم أكتبها بقدر ما كتبتني.. غالبتني فغلبتني.. ذاكرة ممطرة.. أحداثها خيوط من مطر، ما حدث كأشطان بئر لا تتوقف متدفقة بلا ضوابط.. تنهال علي كصبّ المزاريب. هذه الرّواية كلّما أعدّت قراءتها الاّ وتأكّدت أنّ كاتبها لا أعرفه لكنّني أتذكّره.. أقرؤها من جديد، فأجدها جامحة لا تترهب كالصّخر.. لا تحطّها القراءة من عل.. لذّة كالمناجم والمنابع تعطي بغير حساب ولا تفنى بل تفتن قرّاء آخرين وتزداد تأهّبا للمعاشرة. «وجع الفولاذ» رواية برأسين.. في ظاهرها كتنّين الخرافات.. أمّا في باطنها فكأفعى ابن القارح تطارده بين العنبر والصّعبر.. وهو يهرول.. وهي تصيح هلم ّ إن شئت اللّذة ...
«وجع الفولاذ» تبرّجت للغرباء كعوبا طروبا لعوبا... تلتذ بقراءتها ولا تستطيع حكايتها.. هذه الرواية تُقرأ ولا تحكى.. سرّ دفين كشهرزاد الحكيم.. والذي كتبها إمام العاجزين عن حكايتها.. هي رواية البيان لا اللّسان.. لذيذة القراءة ممتنعة عن الحكاية.. تهمّ بروايتها فتموت الكلمات على شفتيك .. ويختنق الحكواتي فيك كأنها مقدودة من شبق صوف الحلاج .. لا يلتذّ به الاّ لابسه ولا يسعد به الاّ ممارسه شطحا وفتحا ..
«وجع الفولاذ» .. سرّها في خميرتها وتخميرتها ... ونكهتها في ترنيمتها .. تعاشرها قراءة وكفى ...أمّا غسيلها فلا ينشر .. هي رواية الجمع والمنع بلا تفويت .. هي رواية الجزر بلا مدّ.. هي رواية ممنوعة من الرّواية كسرّ الجسد يعاشُ ولا يُفشى .. وكيف لأحداث مهمّشة متسربلة أن تحكى؟ .. فقد تكسّرت أزمنتها على إسفلت التاريخ من آدم الى ما بعد عصر «الطرفاوي» .. ومن حواء الى ثقافة تلك العجوز .. تداخلت صُرّتها وذيلها ورأسها .. فبعل القارئ بالأمر وعجز عن روايتها .. وهل فيها رأس وذيل وصرّة حتى تُروى ؟ 
«وجع الفولاذ» .. ظفائر الحكي فيها كحبال شبكة السّنابل تتخانق وتحسبها تتعانق .. فكسّرت أسواري بلا رحمة .. وشرّدت مني إبلي .. ولا زلت أطلبها كلّ مغرب شمس. أفلتت مني وغلبتني، فتركتها على علّاتها... جذبت .. جذبت .. جذبت .. فأفلتت مني الخيوط. «وجع الفولاذ» ..إن قصفت سكونك يا قارئها بجمال توحّشها. وهي الشّرود.. ولها أكَر من نار .. فلا أملك الاّ أن أدعو لك السّماء .. .بطلاها «الطرفاوي» و«نزّال»... للطلرفاوي حكاية كادت أن تذهب بي الى المستطيل الأخير ... صحيح أنّ قيامة «أيّالنار» قد هزّت روحي لكن خاتمة «الطرفاوي» خلخلت في قفص الجسد وعصفور الرّوح سويّا .. فأفسدت علي لذّة نعيم تلك القيامة ... 
غلبتني حبال الحكاية كماغلبه حبل الماجل .. فأصبحت كالحيّات تسعى .. وقد تتشابك كمخاطيف شبكة السّنابل تحسبها ظهور العير تتخانق وهي تتعانق ... .ونزّال هذا انطلق بحّاث شغل فاستحال منشغلا بالبحث كمجرم الدوعاجي رغم ... فتاكا وما وعى .. نبّاشا في صلب تاريخ « أحرف» لأبيه وترائب جغرافيا أمه «الخضراء» وما نوى .. .ونزّال هذا أيضا ... له أيّام كتيار أبيه .. صعّاد للفعل .. فتيل من نار التهب في كامل الخارطة .. من صرّتها المسوّسة الى رأسها المجنون .. الى ذيلها اللّذيذ .. وله ولأبيـــه عشاق ... فتحت رماد تاريخهم لهيب ....فقد تنفخ فيه بعض الرّياح الأُخَرْ....