بهدوء

بقلم
محمد الطرابلسي
أزمة النخب السياسية في تونس
 مقدمة:
شهدت تونس مثل العديد من البلاد العربية منذ سنة 2011 تحولات سياسيّة متسارعة، في إطار ما يسمى بالربيع العربي الذي انطلقت شرارته الأولى من مدينة سيدي بوزيد. ومن أبرز مظاهر هذه التّحولات بروز أحزاب سياسيّة عديدة فاق عددها المائة. ويبدو الأمر عاديّا في البداية بإعتبار أنّ النّخب السّياسية كانت متعطّشة لإستثمار هذه «الديمقراطية الناشئة». لكن هذه الأحزاب أقحمت الجميع في صراعات إيديولوجية وسياسية، فانتشرت الخلافات التي تغذّي الفتن، وانقسمت النّخب السّياسية التي كان يفترض أن تكون عنوانا لوحدة الصّف، إنّه صراع المواقع وهوس السّلطة والحكم. فماهي مظاهر أزمة النّخب السّياسية؟ وماهو البديل الأمثل للمحافظة على السّلم الإجتماعي؟
(1) مفهوم النخبة و النخبة السياسية : 
(1-1) مفهوم النخبة:
تبدو كلمة «نخبة» من أكثر الكلمات شيوعا بين النّاس، وهي تعني مجموعة من الأشخاص عرفت بتفوّقها العلمي والمعرفي في المجتمع. هي «الصفوة» كما عبر عنها الكاتب «علي حرب» في كتابه «أوهام النخبة أو نقد المثقف». هذا التّفوق الذي تتمتّع به النّخبة على سائر أفراد المجتمع يؤهلها في إعتقاد البعض للتّسيير والقيادة وإدارة الشأن العام بإعتبارها صفوة المجتمع. ويمكن التّمييز في هذه الحالة بين أصناف مختلفة من النخب منها السّياسية التي تتفوّق على الجميع بقدرتها على تسيير شؤون الأحزاب والبلاد والعباد، والدّينية التي تشمل صفوة الباحثين في الدّين وفي العلوم الشّرعية وأكثر النّاس علما بأمور الدّين ومنهم الدّعاة والفقهاء والأئمة وأساتذة الفكر الديني. كما نجد إلى جانب هؤلاء النّخب المثقّفة، الأشخاص الذين يتربّعون على عرش الثّقافة بمختلف فروعها وأشكالها، هم صفوة النّاس في مجال الكتابة والفكر والأدب والفن والنقد والتأويل، ولكن سنقتصر في هذا المقال على موضوع النّخبة السّياسية وأدوارها المختلفة.
(1-2)  النخبة السياسية:
تعتبر نظريّة النّخبة السّياسية من أهمّ الموضوعات في علم الإجتماع السّياسي، الذي أسّسها كل من «كارل ماركس» و«ماكس فيبر» من خلال دراستهما لتطوّر النّظريات السّياسية وصلة ذلك بالمجتمع. 
والنّخبة تعني المختار من كل شيء، باللّغة الفرنسية «Elite»، وتشير هذه الكلمة إلى الفئة الإجتماعية التي يعتقد أنّها الأفضل والأهم من بين غيرها بفضل امتلاكها السّلطة أو الثروة أو مهارات عقلية مثل النّخبة الحاكمة، والنخبة المثقفة...
وينظر إلى النّخب السّياسية على أنّها تختلف في طبيعة تأثيرها وفقا لما تتمتع به من قوّة نفوذ، لذلك فإنّ أقوى هذه النّخب وأشدّها نفوذا هي تلك النّخبة التي نطلق عليها «النخبة المركزية» والتي تتكوّن من كبار رجال الدّولة في أجهزتها التنفيذية والتشريعيّة والقضائيّة، وتندرج في تصنيف هذه النّخبة المركزيّة نخب سياسيّة عديدة من بينها النّخب الحزبيّة التي تتكوّن من قادة الأحزاب، والنّخب السّياسية في المدن والقرى المكوّنة من الزّعماء المحليين وأعضاء المجالس المحليّة والقادة المحلييّن.
النّخبة السّياسية هي أقلّية حاكمة تتحكّم في كلّ مفاصل الدّولة وتقابلها أغلبيّة محكومة تسيطر عليها الأقلّية الحاكمة بأساليب قد تكون شرعيّة أو لا تكون كذلك.
(2)  أزمة النخب السياسية:
كانت النّخب السّياسية قبل ثورة الحرّية والكرامة مكبّلة ومقيّدة، وتعرّضت لإنتهاكات جسيمة من قبل النّظام السّابق الذي رفض كلّ أشكال المعارضة والإختلاف في الرّأي.       ومنحت الثّورة قدرا لا بأس به من الحرّية والحقّ في المشاركة السّياسية لهؤلاء السّاسة. وهي فرصة لم يكن يتوقّعها أحد منهم. فقد صنع الشّعب معجزة لم يستطع هؤلاء السّاسة تحقيقها طيلة عقود من النّضال في المهجر أو داخل البلاد. لكن هذه النّخب تعيش اليوم أزمة متعددة الأشكال:
(2-1) أزمة الثقة:
عاشت تونس في 23 أكتوبر 2011 أول إنتخابات حرّة ونزيهة بشهادة كلّ الملاحظين، أفرزت مجلسا تأسيسيّا جمع مختلف الأطياف السّياسية وحكومة مؤقتة ورئيس جمهورية توافقي. وقدّم هؤلاء السّاسة في ذلك الوقت برامج اقتصادية واجتماعية بدت للبعض طموحة وواقعيّة في حين أنّها وهمية، الهدف منها استبلاه المواطن. فمنهم من تحدّث عن توفير 400 ألف موطن شغل، ومنهم من تحدّث عن الصّحة المجانية والتّعليم المجاني والنقل المجاني وكأنّهم يملكون عصا سحريّة لهذا البلد. 
ولكن بعد الإنتخابات تغيّرت المعطيات وأصبحوا يبرّرون فشلهم في الوفاء بالوعود بأنّهم انتخبوا من أجل إعداد دستور جديد للبلاد في مدّة لا تتجاوز السّنة، وأصبح الكلّ يتحدث بأنّهم لا يملكون عصا سحريّة كثيرا ما صدعوا رؤوسنا بها أثناء الحملة الإنتخابيّة. وبذلك أصبحت ثقة عموم النّاس في ممثليهم تتلاشى تدريجيّا إلى أن أصبح السّياسي في نظرهم رمزا للكذب والمغالطة والمماطلة. وتسارعت الأحداث زمن حكم « الترويكا»، وتجاوزت المدّة المتّفق عليها، فتعدّدت الصراعات الإيديولوجية والمناكفات داخل المجلس التأسيسي وخارجه بين من يمثّل اليسار ومن يمثّل اليمين ومن يمثّل الوسط، « فيكفي أن نقرأ الجرائد أو نشاهد البرامج الحواريّة الصّاخبة حتى نكتشف ما فيها من خطابات مشحونة بالعنف والتّعصب، مملوءة بالكره والتّباغض، موسومة بشيطنة الآخر المختلف»، بدل الإنكباب على مشاغل الشّعب الرئيسيّة التي من أهمها التّشغيل والتّنمية.
وأصبح الخطاب السّياسي في تونس مشحونا بمشاعر الحقد والكراهية، يعتمد على منهجيّة الشّيطنة وتبادل التّهم، وكانت الحكومة عاجزة على إدارة الخلافات والإختلافات. واقتصر دورها على تسيير الأمور أو تسوية وضعيات مهنية موروثة. وهذا الأمر يقودنا حتما إلى الحديث عن أزمة في الخطاب السّياسي عزّزت حالة انعدام الثّقة بين السّياسي وعامّة النّاس. فقد كشف البارومتر السّياسي لشهر جوان 2015 الذي أنجزته مؤسّسة «سيغما كونساي» أنّ 71 % من المستجوبين يرون أنّ البلاد تنتهج الطريق الخطأ، فيما عبّر 69.3 % منهم عن عدم رضاهم على الطّريقة التي يتمّ بها تسيير شؤون البلاد.
(2-2) أزمة الخطاب السياسي:
عرف عن الشّعب التونسي عبر التاريخ، الوسطيّة والإعتدال والتسامح، وحتى ثورة 17 ديسمبر تمّيزت ببعدها السّلمي، ولكن أغلب النّخب السّياسية لم تكن في مستوى الحدث بإعتبار أنّ خطابها المحكوم بالشعبويّة وشيطنة الآخر لم يرق إلى تطلّعات الشّعب. وبدأ العنف السياسي يأخذ منحى خطيرا في البلاد، كانت حصيلته دموية، إغتيالات وإرهاب ذهب ضحيتها بعض الرموز السياسية لعل أبرزها « شكري بلعيد» و«محمد الإبراهمي» ورجال أمن وعسكريين. وإلى حدّ الآن لم يقع مصارحة الشّعب بحقيقة ما حدث.
إنّ أزمة الخطاب السّياسي يلخّصها محمد عابد الجابري في كتابه «بنية العقل العربي» بأنّها أزمة صراع بين الأصالة والمعاصرة وبين الشرق والغرب قائلا :« إنّ السّاحة الثقافية العربية الرّاهنة التي يتكوّن فيها العقل العربي المعاصر ساحة غريبة حقّا، وأن القضايا الفكريّة والسّياسية والفلسفيّة و الدّينية التي تطرح فيها للإستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرة لنا، إمّا قضايا فكر الماضي بكلّ سلطاته وقيوده، أو قضايا فكر الغرب التي قطعت من أصولها وأخرجت من ديارها وأصبحت متشرّدة وأحيانا لقيطة تفتقر إلى كل الذي يعطيها معناها». هذه الخلفية الفكريّة التي تبرّر أزمة الخطاب السياسي، تزامنت مع دعوات لإجهاض التّجربة الديمقراطية في تونس خاصّة بعد الإنقلاب الدموي الذي حصل في مصر. وحتى الحوار الوطني الذي كان ينتظر منه الشّعب إجراءات عملية، كان حوارا أعرجا وإطارا عامّا لإنقلاب أبيض. ونتيجة للخطاب السياسي المتأزم، أصبح الناس يعتقدون أنّ همّ السّياسي الوحيد هو الكرسي الذي يجلس عليه في الحكومة أو مجلس نواب الشّعب. ولقد ازداد الخطاب السياسي سوءا بعد نجاح نداء تونس في الإنتخابات الأخيرة، حيث اتضح للجميع بعد أن دبّ الخلاف داخله أنّه حزب برنامجه الوحيد الإستحواذ على السلطة، وليس تقديم بدائل للنهوض الإقتصادي والإجتماعي. إنها نخب سياسية مفلسة تخوض صراعا من أجل التموقع الدائم في سدّة الحكم  لا غير .
III – رسالة مفتوحة إلى كلّ السياسيين:
إن الأحداث الأخيرة التي عرفتها تونس، والتي انطلقت شرارتها الأولى هذه المرّة من القصرين، هي دليل واضح على فشل خطابكم السّياسي، فقد تزعزعت الثّقة التي منحها لكم الشّعب،وأصبح الأمر خطيرا يهدّد تجربتنا الديمقراطية ولهذا السبب عليكم:
(3-1) بلورة المشروع الوطني على أرض الواقع الذي نص عليه الدستور الجديد:
بمراعاة الأبعاد التالية:
- البعد الفردي: وهو أن يجد الفرد ذاته المنفردة داخل هذا المشروع، فالفرد اليوم يعيش مأزق، لديه إحساس بالغربة في وطنه لأنّه لم يجد ما ينتظره من النّخب السّياسية.
- البعد الجهوي: وهو أن يجد الفرد في هذا المشروع محيطه الإجتماعي والجغرافي والثقافي والتاريخي والإقتصادي والسّياسي.
- البعد الوطني: وذلك بمراعاة خصوصية التونسي الثقافية والدينية والإقتصادية.
- البعد الكوني: بإعتبار أن التونسي جزء من هذا العالم المتغير، بعد يراعي تلاقح الحضارات والثقافات عبر العصور.
(3-2) عليكم بالبعد عن « الشعبوية»  في خطابكم السياسي :
وذلك بإعادة النظر في خطابكم السّياسي وتحويل شكله ومضمونه الجامد إلى خطاب حيّ يتماشى مع الزّمان والمكان الذي نحيا فيه والقطع مع الخطاب الخشبي الذي تعتمدونه من أجل مغالطة المواطن للفوز بصوته في الانتخابات.
تستعملون مفاهيم لا علاقة لها بهموم الشعب، مفاهيم عامة وكلام إنشائي لا يصلح إلا للتسويق الإعلامي، مثل مفاهيم التنمية المتوازنة والعدالة الإجتماعية والحداثة، مفاهيم نخبوية تفتقد للشرعية الإجتماعية، إنّ الشعب يريد أفعالا على أرض الواقع لا أقوالا. ولن يتحقّق ذلك إلاّ برد الإعتبار لمختلف الفئات الإجتماعيّة وخاصّة منهم خريجي الجامعات وصغار الفلاحين وصغار التجار والعامل البسيط حتّى نعيد بناء طبقة متوسّطة نتمكن من خلالها تحقيق التوازن الإجتماعي.
ولا تنسوا قول الكواكبي في طبائع الإستبداد: « يا قوم، أدعوكم إلى تناسي الإساءات  والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الإتحاد وأنتم المتنورون السّابقون، فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق وأصول راسخة للإتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والإرتباط السّياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها. فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعجام والأجانب: دعونا يا هؤلاء ندبّر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضرّاء، ونتساوى في السّراء، دعونا ندبّر حياتنا الدّنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمات سواء ألا وهي: فلتحيا الأمّة فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء». 
المراجع:
- علي حرب 2004: أوهام النخبة أو نقد المثقف، ط 3، بيروت، المركز الثقافي العربي.
- عبد الجليل الميساوي1999 : قيم الإصلاح والتحديث في فكر ابن أبي ضياف من خلال كتابه الإتحاف، تونس، دار الإتحاف.
- عبد الرحمان الكواكبي: طبائع الإستبداد، ط2 ، تحقيق محمد جمال طحان، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية.
- جوردون مارشال 1998 : موسوعة علم الإجتماع، ط2 ، المجلد الأول، جامعة أوكسفورد، نيويورك.
- سبر أراء سيغما كونساي 2015 و2016.
-----
- باحث
geographie_tunisie@yahoo.fr