اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
الواقع الاقتصادي وآفاقه(1) «النمو الاقتصادي»
 تمهيد
سنهتم في سلسلة من المقالات المتتالية بالحالة الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا وسنعتمد منهجيّا على كلّ من التّقارير التي أعدّتها المنظمات الدّولية والدّراسات التي قامت بها الجهات المُختصة واستطلاعات الرّأي لنقف بشكل فيه قدر كبير من الموضوعيّة عند الحالة الاقتصادية والاجتماعية التونسية واتجاهها  مُستقبلا وإذا أضفنا لذلك شيئا من المُقارنة مع سنة نتّخذها مرجعا نكون قد نسّبنا الحالة بما يدفعُنا إلى البحث فيما يجب فعله إزاءها.
أما مضمونا فإنّنا سنُسلط الضوء تباعا على مؤشّرات اقتصاديّة وأخرى اجتماعيّة نقديّة ماليّة وجبائيّة وسنتّخذ السّنة التي اندلعت في آخر أيامها الثّورة التّونسية سنة مرجعا حتى نقف عند تطور الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة طيلة الخمس سنوات الأخيرة لنستخلص ما يجب على جميع الأطراف تحمل المسؤولية تُجاهه وفعل ما يجب فعله حفاظا على هذا الوطن وعلى ثورته التي مكنت الجميع وبدون استثناء من الحرية.
وتُعتبر الحرية عند الجميع (إلا من أبى) الإطار الأمثل  للعمل قولا وفعلا بما يُحقق ما لم تقدر الأنظمة السّابقة على تحقيقه من مُصالحة مع الذّات ومناعة ضد المخاطر المُحدقة بنا داخليّا وإقليميّا ودوليّا وإنتاج الثّروة القادرة مع عدالة توزيعها على مُحاصرة كلّ من الفقر والبطالة.  
النّمو الاقتصادي : 
يعكس النّمو الاقتصادي القيمة المُضافة التي يُولّدها النّشاط الاقتصادي سنويّا من خلال الجانب الكمّي لعملية الإنتاج سلعا وخدمات وقد سجّلت نسبة النمو السّنوي ببلدنا تراجعا حادّا سنة 2011 ما لبث أن تخلّص منه الوضع الاقتصادي سنة 2012 ليعود لمستواه الذي سجله سنة 2010 بمعدل فاق 3.5 % مما عكس إرادة سياسيّة قوية حينها لرفع تحدّي النّمو الاقتصادي في زمن قياسي كما برهن عن قُدرة اقتصادنا على سُرعة التعافي.
وأبت الإرادة المُضادة (إرادة الهدم) إلاّ أن تقلب الأوضاع وبسُرعة ليبدأ مسار التّراجع ثانية حتى وصل سنة 2015 إلى نسبة لم تتجاوز 0.8 % حسب المعهد الوطني للإحصاء.
أما ما يخُصّ قادم السّنين فقد اعتبر صندوق النّقد الدولي في تقريره الأخير سنة 2016 سنة صعبة نظرا لأنّها هي الأخرى سنة انتقالية وقدّر أن نسبة النّمو فيها لن تتجاوز 2.5 %.
 كما قدّر أن نسبة النّمو طيلة السنوات الأربعة القادمة (2017-2020) ستُسجّل قفزة بمعدل 4.3 % سنويا وذلك بمستوى 4 % سنة 2017 و4.6 % سنة 2018 و 5 % سنة 2019 ثم 4.7 % سنة 2020.
وقد برهن صندوق النقد الدولي هذه التقديرات المُشجعة بما يلي :  
* التراجع الحادّ للسّعر العالمي لبرميل النّفط الذي بلغ نسبة 60 % والاتّجاه نحو الإبقاء على السّعر المنخفض بعد العودة المُنتظرة لمنتجين كبار لسوق النّفط كإيران والعراق وفقا لقاعدة العرض والطلب. 
* اعتبار الصّندوق أنّ ما تمّ من إعادة رسملة البنوك العموميّة وما صاحبه من تقوية للحوكمة والشّفافية وتعميق الإصلاح الجبائي والمتضمن في قانون المالية 2016 وكذلك سنّ قانون التّنافس وقانون شراكة العام والخاصّ(PPP) سيكون له أثر ايجابي على النّمو في بلدنا فضلا عن قوانين أخرى كمجلة الاستثمار من المُنتظر أن تُساهم بشكل فعّال في دفع عملية الاستثمار المُحرك الأول لإقتصادنا. 
* ما ينتظره الصندوق من قيام تونس بإصلاحات هيكليّة من شأنها أن تطوّر مناخ الأعمال وتحدّ من تدخّل الدولة في مجال الأعمال.
* تطوّر المناخ الدّولي ونسبة النّمو المُنتظرة والمُقدرة بـ 1.6 % سنة 2016  لدى المنطقة الأوروبية الوجهة الأهم للصّادرات التّونسية ممّا سينشط الصّادرات التّونسية المُحرك الثاني لاقتصادنا.
* انتظار عودة القطاع السّياحي لتألّقه وتراجع الأسعار العالميّة للمواد الغذائيّة والطّاقة ممّا يُنبئ بتنشيط الاستهلاك المُحرك الثالث للاقتصاد.
استنتاجات
-  لاقتصادنا قُدرة على سُرعة التعافي، 
-  الإرادة السّياسية القويّة مطلوبة لرفع تحدّي النّمو الاقتصادي،
- الحيلولة دون كلّ ما من شأنه أن يُعطل آلة الإنتاج،
- تقديرات صندوق النّقد الدّولي مُشجّعة على الاستثمار سواء الدّاخلي منه أو المُباشر الخارجي بصفة أخصّ والتّصدير خاصّة في اتجاه المنطقة الأوروبيّة وكذلك على الاستهلاك ممّا سيجعل اقتصادنا يتعافي ويسترجع نشاطه باعتبار أنّ كل من الاستثمار والتّصدير والاستهلاك هم مُحركات الاقتصاد. 
سؤال : هل أن إنتاج الثروة كاف لمُحاصرة الفقر والبطالة ؟
إنّ كان الاستثمار أحد المُحركات الرئيسية للاقتصاد وأحد عناصر فهم الزيادة في نسب النمو الاقتصادي وما تعنيه من إنتاج إضافي للثّروة فهل أنّ الدّول التي عرضت فُرصا هائلة للاستثمار والمستثمرين في بلدها وحقّقت نسب نمو مُرتفعة قدرت على مُحاصرة الفقر والبطالة؟
في سنة 1980 أُطلق ولأول مرّة «أنطوان فان أغتمايل»( Antoine van Agtmael) وهو اقتصادي هولندي من البنك الدولي  صفة «الصاعدة» على الدّول التي تعرض فُرصا هائلة للاستثمار والمستثمرين في بلدانها. وقد كان لكل زمن دولة أو دول صاعدة ، ففي أواخر القرن التّاسع عشر صعدت كلّ من ألمانيا لتصل بعد ذلك الصّعود إلى مرحلة التّنمية وكذلك الحال بالنّسبة لليابان في ستّينات القرن الماضي ثم عرفت العشريّة التي تلتها صعود التّنين الآسيوي المتكوّن من كلّ من كوريا الجنوبية وتايوان وهون كونغ وسنغافورا والتي اعتبرت منذ تسعينات نفس القرن ممّن توّجوا صعودهم بإحداث تنمية.
ولم تعد التّنمية اليوم اقتصاديّة فحسب بما هي عملية تُحدث «تغييرات ذهنية وهيكلية من شأنها أن تجعل الشعوب أكثر قدرة على الزيادة الدائمة لإنتاجها الحقيقي العام» كما عرفها الاقتصادي الفرنسي «فرانسوا بيرو» منذ خمسينات القرن الماضي، بل هي تنمية مستدامة تشمل البشر واجتماعه والبيئة التي يَحْيَى ضمنها ونشاطه الاقتصادي والثقافي...بما يضمن شروط الحياة الكريمة لهم من صحّة وتعليم وتلبية للحاجات المادية والمعنوية للإنسان وما يعنيه ذلك من احتواء للفقر والبطالة. 
وفي المقابل فإن صعود من عُرفوا بنمور آسيا سنة 1981 كماليزيا واندونيسيا والفيليبين والفياتنام وصعود مجموعة أُطلق عليها إسم «البريكس» (BRICS) سنة 2001 والمتكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وإفريقيا الجنوبية لم يُتوّج بإحداث تنمية.
استنتاجات
كما تُوّج صُعود دُول بتحقيق تنمية في بلدانها وما يعنيه من تمكنها من احتواء ظاهرة الفقر والبطالة لم تحدث تنمية في دول أخرى صاعدة مما يُؤكد حقيقة مفادها أن الصُّعود لا يعني بالضرورة تحقيق التنمية وبالتالي احتواء كل من الفقر والبطالة ويطرح تساؤلا جوهريا : «ما العائق الحقيقي وراء إخفاق الصعود ( زيادة في نسب النمو الاقتصادي عبر ما تعرضه بلدنا من فرص هائلة للاستثمار والمستثمرين) في تحقيق التنمية بما تعنيه من محاصرة للفقر والبطالة ؟ هذا ما سنوضّحه في المقال القادم إن شاء الله.
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com