في العمق

بقلم
أ.د.احميده النيفر
الوحدة والاختلاف في نهج التفاهم القرآني
 الفصام النكد 
تنطلق الحركة الإحيائية التي يشهدها عالَم المسلمين اليوم والمعروفة باسم « الصّحوة» من اعتبار أنّ للتراث الإسلامي كلّ القدرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضاريّة الحديثة التي يمارسها المركز (الغرب) على الأطراف المتخلّفة حضاريا. هذه المقولة المعتمِدة على التّراث وحده، على أهمّيتها، واقعة في حالة فصام تاريخيّ. إنّها من جهة أولى لا تلتفت إلى طبيعة التّغييرات الاجتماعية والاقتصاديّة والمعرفيّة الهائلة التي عرفها عالم الإنسان منذ الثّورة الصناعية والتي تسارعت وتيرتها بصورة غير مسبوقة مع الثّورة المعلوماتيّة. يتمثّل إعراض الإحيائيّة الإسلاميّة أساسا في رفض استيعاب الخلفيّة  الفكريّة والمبدئيّة لتلك التّغييرات ممّا جعلها في قطيعة معها وعجز عن تطويرها أو تجاوزها رغم إقرارها العمليّ بأنّه لا مفرّ من التّعامل معها في مستوياتها الحضارية التّقنية.   
من جهة ثانية استفادت حركة الصّحوة من حالة ثقافيّة سائدة في عموم البلاد الإسلاميّة تتيح فاعليّة خاصّة للتّصوّر الدّيني ممّا يجعل الإنسان في تلك المجتمعات يبقى كائنا متديّنا حتى وإن عبّر عن تنكّره لتعاليم الدّين وشعائره. لكنّ الملاحظ هو أنّ الاستفادة من تلك الحالة الثّقافية لم تبلغ حدّ إكساب التّديّن الكامن في البنية الثّقافية طبيعةً و فاعليّة معاصرتين. ظلّ التديّن- في الغالب الأعم- شكليّا وعاطفيّا، فهو لا يكاد يبالي بالتّناقضات السّلوكية التي يقع فيها ولا يحسن الالتفات إلى المقتضيات الاجتماعيّة والفكريّة والقيميّة التي يفرضها الإيمان باعتباره منطلَقًا يشهد به المؤمن على النّاس ويكون به فاعلا في الواقع الإنساني المتجدّد.   
نحن بذلك نشهد حالة فصام مثـنّـى يغذّي كلُّ طرف منه الطرف الآخر بما يعقّد حالة المسلمين بصورة خاصّة ويجعل البعض يفسّر ذلك باستحالة دخول المسلمين جديّا الأزمنة الحديثة.
ذلك هو الفصام النّكد على الحقيقة، فصامٌ جاء نتيجة ردود فعل مأزومة لم تنته إلى ضبط أساس فكري وموضوعي لموقفها. لذلك فلا مناص من طرح السؤال المثنّى: 
كيف يَـتِمّ الخروج من حالة السّخط على الأزمنة الحديثة ؟ 
كيف يمكن تجاوز ذلك التديّن الخام بتحويله إلى فاعليّة ومعاصَرة ؟
للإجابة يتوفر أكثر من مدخل لكن تلك المداخل تتجمّع في محور هو «الإنسان»: ما هي طبيعته وما هو موقعه في الوجود وكيف يكون تعبيره عن ذلك الموقع؟
سواء اتّجه الحرص إلى الوعي المدنيّ وما يرتبط به من عقد اجتماعي أو كان المنطلق هو إعادة النّظر إلى الذّات والإقبال على فهم الآخر أو ارتكز الاهتمام على البعد الإيماني وأثره في رؤية العالَم وما يقتضيه ذلك من معالجة التّعددية الثّقافية والدّينية، أيًّا كان المدخل فإنّ «الإنسان» هو منتهى كل المقاربات العلاجيّة لمعضلة المسلمين الحضارية. 
الإنسان القرآني و العصر  
بالنظر إلى النّص القرآني المؤسّس لحضارة المسلمين نجد أنّ «الإنسان» طرف أساسيّ فيه وهو من جهة البناء القرآني وخاصيته الدّلالية يبرز كمصطلح مفتاحي له علاقة ترابط مع جملة من المفاهيم والثنائيات التي تشكّل فيما بينها تكاملا ونظاما مفهوميا واحدا. الله والإنسان، النبيّ والتاريخ، الشريعة والأمة، العالَم والآيات، آدم والخليفة... تشكّل جميعُها شبكة مفاهيمية واحدة تجمع بين مفرداتها صِلاتٌ ترابطية تمثل العنصر القاعدي الموجه في كامل الخطاب القرآني. يطبع هذا العنصر بصبغته الأصيلة كل عبارة أو مفهوم أو مصطلح متضمّن في ذلك الحقل الدّلالي. لكنّ أهميته تتجاوز هذا المجال المفاهيمي لتحدّد الحامل المنهجي القاطع مع الفهم التّجزيئي الذي يتخبّط فيه المسلم المعاصر في مواجهته لكبريات القضايا الحضاريّة المطروحة عليه وعلى الإنسانيّة. 
المقاربة الدّلالية لمفهوم «الإنسان» في اللّغة القرآنيّة تضعنا أمام أبعاده الجديدة التي تنضاف إلى المعنى العادي للإنسان والتي يكتسبها من النّظام المفاهيمي والتّرابط الذي يوجده البناء العام للقرآن الكريم. مفهوم الإنسان في المعجم القرآني مختلف نوعيّا عما هو عليه في الاستعمال القديم أو الحديث. في السّياق القرآني لا تتناقض دلالة «الإنسان» مع التعاريف القديمة والحديثة لكنها متميّزة عنها في آن. ذلك أنّ الدّلالة القرآنية لا تُستَمَد من ذات العبارة فحسب لأنّ الاقتصار على لفظ الإنسان غير كاف باعتبار أنّه ليس من أهم الألفاظ القرآنية تداولا. بهذا فإنّ «الإنسان» في المعجم القرآني مخاطَبٌ بالوحي فهو «الخليفة»، خليفة الله، وهو بمقتضى هذه الصفة الأساسية :
- كائنٌ متميز في سُـلّم الموجودات بالإرادة وبإمكان الوعي بمسؤوليته في عالَم هو موضوع المعرفة وأحد مصادرها. 
- كاشفٌ لذاته، يرتقي بها بصفتها مجالا أعمق من نفسّية الفرد العادّية معتمدا في ذلك على تجربة حيويّة تنطلق من توقه إلى ذات الحقّ العليا. 
- بانٍ لتجارب واقعيّة متمثلة للخطاب القرآنيّ بما يجعل إنسانيته في صيرورة مبدعة ومتفاعلة مع أعمق رغبات العالَم المحيط به. 
بعبارة واحدة الإنسان القرآني كائن متجدّد باستمرار في رؤيته لذاته وللآخر المختلف  وللكون اللامتناهي. 
كيف يمكن للإنسان القرآني أن يتنزّل في هذا العصر؟ و ما هي أبرز التحديات التي ستواجهه في المستويين العقدي والعملي نتيجة هذا الحضور؟ 
كيف يمكنه أن يتمثّل مبدأ الاستخلاف المؤسّس لوجوده قرآنيّا ضمن سياق حضاري مبدأه المساواة في الحقوق والواجبات والداعم للقانون والمؤسّسات والحريات؟
 كيف يمكن للإنسان القرآني أن يجيب عن سؤال العصر ومعضلته: العيش سويّا ومختلفين ؟ 
هل يتيح الخطاب القرآني إرساء حداثة إسلامية تطرح قضيّة « التّعددية» بصورة فاعلة تجعل حظوظ الأمّة أوفر بفضل التّعايش المثري بين المنظومات الثقافيّة والدّينيّة والفكرية المختلفة؟
اللاتكافئ  و التحيين الثقافي 
للإجابة لا بدّ من التّنبيه على أنّ خطاب القطيعة الرّافض للمعاصَرة  المعتمَد في عموم التّوجه « الإحيائي»  يُسقط من تقديره أنّ الإنسان القرآني  لا يمكن أن يولد اليوم بصورة ذاتيّة تنكر تحوّل الذّات وتعرض عن فهم الآخر. هو لذلك مطالب بالتّخلّص من الرّؤية التّقليدية للهويّة أولا ومدعوٌّ  ثانيا إلى تمشٍ تأسيسي لمشكلة العلاقة بالآخر المختلف. 
من أوّل مقتضيات الإجابة عن سؤال: كيف يمكن أن نعيش سويّا ومختلفين؟ ضرورة تأسيس عقدي وفكري لقضيّة الوحدة والاختلاف لمواجهة الخطاب الذي لا يرى في التّعدد إلاّ مجرد عَـرَض طارئ يمكن الرّضا به مؤقّتا في الواقع الاجتماعي – السّياسي الذي ينبغي تجاوزه لا محالة. مؤدّى القول بهذا التّأسيس هو اعتبار أنّ ولادة إنسان أصيل أي فاعل في العصر مرتبطٌ عضويّا بمسألة العلاقة بالآخر بما يحوّلها إلى قضيّة مفصليّة تتنزّل ضمن رؤية معتمَدة ومحكَّمة منبثقة من قراءة منهجيّة للنّصوص المؤسّسة. 
أول العناصر الفكرية المحقّقة لهذه القراءة تبرز من خلال ضرورة معالجة ظاهرة التمركز الثقافي في الفضاء العربي الإسلامي. تمثّل هذه الظّاهرة عقدة ثقافيّة اجتماعية ينبغي التّوقف عندها عند استحضار معضلة الفكر الإحيائي السائد ومحوريّة قضيّة الإنسان بالنّسبة إلى مختلف التّوجهات الفكريّة والعقدية العاملة في ذلك الفضاء. ذلك أنّ ظاهرة التّمركز الثقافي تعدّ حائلا معطّلا يمنع بلوغ حدّ التكافئ الإنساني والفكري بين الذّات والآخر. مثل هذا التّمركز، الذي ليس احتكارا على عالمنا، يجعل أنساقنا الثقافية وآلية تفكيرنا وطبيعة خطابنا ورؤيتنا لذواتنا ولغيرنا مُحَمَّـلة بمعان ثقافية لم يشملها أي تحيين جذري فظلّت لذلك ضاربة في التّنميط وفي اللاّتكافئ.   
مثل هذا الجانب الثّقافي يعدّ عنصرا حاسما قبل الشّروع في مباشرة الجانب العقدي والتأصيلي لمبدأ الاستخلاف ضمن التحوّلات الحضاريّة العميقة التي تشهدها الإنسانيّة اليوم.
يقتضي الشّروع في قراءة دلاليّة تركيبيّة لمسألة التّعدد في الخطاب القرآني إدراك تلازمها مع تمثّل دقيق لخصوصيات البنية الثّقافية التي أرساها النّص القرآني وعلى أيّة قواعد إيمانيّة أسّسها لندرك بعد ذلك ماذا اعتراها من عطب وكيف تتأتى معالجتها. من هذه الإضاءة الثّقافية لطبيعة الخطاب القرآني يتمكّن تأصيل الاختلاف من تفعيل الذّات بتمثّلها المثري لما بلغه الفكر المعاصر من قيم التّنظيم الاجتماعي والسّياسي. 
بعد هذا يمكن أن تطرح الأسئلة المباشرة التّالية:
كيف يمكن انطلاقا من نصّ الوحي في ضوء الاعتبار الثّقافي الذي وقعت الإشارة إليه الإجابة عن سؤال العصر؟ وكيف أفصحت  آيات القرآن الكريم عن مفهوم الاختلاف؟ وهل تتوفّر للآيات القرآنيّة موجهات منهجيّة لهذه المسألة؟
إن بدأنا بجانب المضمون فإنّ مسألة التّعدد ترد في القرآن الكريم ضمن حقل دلالي واسع تحدّده عبارات مرتبطة بمقصد الخلق وما اتصل بمجال الإيمان والكفر من معاني «التعارف» و«العفو» و«الإكراه» و«التذكير» وما ارتبط بسنن التاريخ وحراك المجتمعات. تتقاطع ضمن هذا الحقل الممتد جملة من الدّوائر مجسّدة قيمة جديدة بالنّسبة إلى مجتمعات قديمة كانت لا تفصل بين التّدين والرّوابط الاجتماعيّة المقيِّدة مُنَـزّلـةً مفهوم الإنسان ضمن خطاب امتثالي يقصره على فرديّة آسرة وعشائرية طاغية.
 لقد كان مبدأ « لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ »(2) خطوة حاسمة تحدّى بها الخطاب القرآني النسق الثّقافي والدّيني السّائد سواء أكان متمثّلا في الوثنيّة أم في النّصرانية أم في اليهوديّة أم في غير ذلك. أساس هذا المبدأ الجديد، زمن النزول وفي كل آن، يرتبط بمفهوم الاستخلاف وبالخصائص الأساسيّة للإنسان المستخلف التي سبق ذكرها. يتعلق مبدأ «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ » بجملة من القيم الجديدة أو المجدّدة المتّصلة بالأفراد وبالجماعات والتي تتعيّن في قضية صميميّة هي مفهوم «الحق». تكشف هذه القضيّة جانبا مؤسّسا في البنية القرآنيّة حين نقرأ : «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ»(3) . تتدعّم قيمة التّعدد واحترام الاختلاف في دوائر أخرى مثل قوله تعالى: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ »(4)  أو قوله «وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»(5). أمّا في جانب العلاقات بين المجموعات فالآيات التي تؤكد على مساواة النّاس أيّا كانت معتقداتهم لافتة للنظر. من ثمّ يتقرّر مبدأ التّعددية من خلال قوله تعالى: « وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ»(6) أو قوله«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»(7).  
التكريم و شرعية إيمان الآخر
أبرز ما تثبته هذه الدّوائر المفاهيميّة المتحلّقة حول إشكاليّة « الحقّ» هو أنّ الإيمان وإتّباع الحقّ لا  ينفصل عن الصيرورة التّاريخية، ذلك ما يشرح التّركيز القرآني على  تعدّد الرّسالات الإلهية وصلتها العضويّة بسياقاتها التّاريخية. يتّضح هذا في الآية : «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا»(8) بما تعنيه من الدّعوة إلى تجنّب « الحصريّة» وروح الطّائفية. ثم يتأكّد هذا  أيضا من خلال آيتين مدنيتين :  
- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (9) .
- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »(10) .
لذلك فإن الإقرار بمبدأ تعدّد الرّسالات الإلهيّة التي ُتختَم برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم يفضى إلى أنّ الخطاب القرآني جعل معاييرَ لحقيّة أيّة رسالة: إنّها الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح.
آية مدنيّة ثالثة تؤكّد هذا التّوجه: «لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» (11) . 
تحقّقت هذه المعالجة القرآنيّة لمسألة الاختلاف خاصّة في المرحلة المدنيّة بالنّظر إلى المقتضيات الدّينية والاجتماعية المتعيّنة في ذلك الوضع. في ذلك الإطار الذي كانت للمسلمين فيه يد طولى ظلّت المعالجة متأنية وواضحة للتّعامل مع إشكاليّة «الحقّ» على اعتبار أنّ داء «الحصريّة» الذي تنحسر معه الرّحمة في حدود ضيقة يظلّ متربصا بأتباع جميع الرّسالات دون تمييز. هذا ما يفسّر الرؤية القرآنية لمعضلة الحصريّة التي يغذّيها التّمركز الثّقافي المفضي إلى الإيغال في الحرفيّة واللاّتكافئ بما يؤكّده الوحي من أنّ تلك المعضلة لا تستثني أحدا حتّى حاملي رسالة التّوحيد الخاتمة.
الحصرية، في الخطاب القرآني، لا تتيح معالجة سويّة لإشكاليّة « الحقّ» لأنّها تقضي على العلاقة التفاعليّة بين الوحدة والاختلاف لكون الحصريّة فيما ترسيه من اعتقاد أنّ الخلاص والنّجاة حكرٌ لدى ملّة بعينها لا تتجاوزها لغيرها تُـفرغ الاستخلاف من كلّ حسّ تاريخي ومن فاعليته التّجديدية. 
ما ينبغي إضافته هو أنّ معالجة الوحدة والاختلاف ضمن إشكاليّة الحقّ وما يرتبط بها من مبدأ الاستخلاف في ضوء المفهوم المحوري للإنسان لم تظهر في الفترة المدنيّة فحسب. لقد تناولت الفترة المكّية من القرآن الكريم ذات الإشكاليّة عندما أسّست قيمة التّعارف وتقدير الاختلاف من مداخل عقديّة مختلفة. كانت في ذلك تتوخّى مسالك تتناسب والوضع التّاريخي الذي كانت تعيشه الجماعة المؤمنة الأولى ونوع التّحديات التي تواجهها. لكنّها كانت في ذلك تستبطن أيضا في تلك المعالجة أصولا قابلة لمواجهة المستجدّات التي تنتظر الأمّة في سياق إنساني مفتوح من جهة ثانية. 
في ضوء هذه العناية القرآنيّة التي تعمل على تجاوز  حصريّة الحقّ في طائفة أو ملّة يُستَـنبت الإنسان ليكون ذلك الكائن المتميز والمتجدّد باستمرار. إنّها ولادة تستدعي رؤية للذّات وللجماعة وللآخر المختلف تسمح بتركيز بناء حضاري مبدع ومفتوح على مختلف الجهود الإنسانيّة. هذا ما تفيده قصّة «آدم» في صياغتها القرآنية إلى جانب ما تعنيه قصّة ابني آدم وخصوصية العرض القرآني لنبئهما. هما قصّتان، متميّزتان في دلالتهما عما كان متداولا بين أتباع الرّسالات الدّينية الأخرى من معاني تينك الحادثتين اللّتين تؤسّسان في الخطاب القرآني منظومة للقيم مولّدة لإنسان جديد متشرّب لمعاني الحرّية والإرادة والمساواة. ذلك ما يثبته الخطاب القرآني ضمن دوائره المحايثة لمسألة «الحق» من خلال الأصل الجامع لآدم في بعده الانطولوجي المتعلّق بوجود الإنسان باعتباره كائنا مسؤولا أي فاعلَ ذاته.
على هذا تكون علاقة الوحدة بالاختلاف في الخطاب القرآني نابعة من تلك المعالجة الخاصّة لإشكالية الحقّ من خلال النّظر إلى النّاس باعتبارهم متساوين، كرّمهم الله تعالى بقوله « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»(12)  تكريما شاملا لكلّ النّاس. هو في ذات الوقت قطعٌ مع  الحصرية المنكرة لأية علاقة بين الوحدة والاختلاف وتجاهلٌ لمبدأ استخلاف الإنسان ومقتضياته الثقافية والدينية والفكرية. مؤدى هذا عقديا هو أن حل إشكالية الحق يتطلب الإقرار باحترام الآخر في اختيار طريقه إلى الحق و هو الإقرار المنبثق من تكريم الله للإنسان، وان احترام المختلف إنما هو تعبير عن احترام لمشيئة الله القائل: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(13). من ثم يكون الإقرار بشرعية إيمان الآخر المختلف المدخلَ المتيح للتعارف و التعايش و الإثراء المتبادل وفق التوازنات الأخلاقية و الاجتماعية والسياسية المناسبة لكل سياق. 
الإيمان في معناه الحضاري  
سبق أن ذكرنا أن آية « لا إكراه في الدين» هي مبدأ قرآنيّ مؤسّس مثّل بالنسبة إلى القرن السّابع الميلادي تحوّلا حاسما واجه به الخطاب القرآني الأنساق الثقافية والمنظومات الدينية السائدة آنذاك. لكنّه كان في ذات الوقت تحدّيا مفتوحا على قادم العصور بما يمثّله عنصر الإنسان القرآني من ركيزة كبرى لمرجعيّة التّوحيد بمعناها الشّامل الذي يجعلها مفعِّلة لكل المجتمعات وحاملة للمعنى الذي لا يفقد راهنيته ولا تستنفذ أغراضه. بهذا المعنى فمبدأ « لا إكراه في الدين» يفصح عن أن عالم الإنسان الباطن هو عالم الحرّية، وأنّه بوسع الأقوى إكراه جسد غيره، لكنّه لا يستطيع إكراه إرادته وفرض قناعاته عليه بالقسر والعنف. من ثمّ يتبيّن أنّ التّحدي القرآني الدّائم يتجسّد في خصوص موضوع الوحدة والاختلاف في كونه يعتبر أنّ لا حياة روحيّة واقعيّة من دون حرّية اختيار، وأنه لا حرية اختيار بانتفاء الحرية الدينية. 
مع ذلك فإنّ بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ هذه الآية منسوخة بآية القتال وهذا ما نبّه عليه دون أن يقرّه المفسّر أبو بكر ابن العربي صاحب أحكام القرآن. لكنّه مع ذلك وبالاستناد إلى المنهج التّجزيئي، قال بلزوم الإكراه على الإسلام، بالتّفريق بين الإكراه على الباطل والإكراه على الحقّ، معتبرا أنّ الأول مرفوض بينما الثاني واجب (14) . 
هل ينسجم ذلك مع ما نصّت عليه آيات متعدّدة، منها: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»(15) وآية «مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ»(16)  وآية « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(17)  ؟ 
يعيدنا هذا التّساؤل إلى أهمّية المنهج الذي ينبغي اعتماده في تفسير القرآن الكريم وضرورة التركيز عليه بخصوص مسألة الوحدة والاختلاف التي تشغلنا هنا. لذلك حريّ أن نسأل: كيف يمكن أن نفهم آيات تكريم الإنسان في إطلاقها وشمولها وما تقتضيه من تعارف وتقدير للآخر المختلف وبين الآيات المتعلّقة بإدانة تحريف أهل الكتاب والتّشديد عليهم ووسم سلوكهم بالكفر وقلّة الإيمان وما يلزم ذلك من إلغاء شرعيّة إيمانهم؟ ما ذكره المفسّرون القدامى في هذا الموضوع هام لكنّه على تنوّعه ينتهي إلى إحدى قراءتين: قراءةٍ تجزيئية وأخرى تركيبية. تتخيّر الأولى نصوصا فتعتمدها وتتغافل عن أخرى من أجل التوصّل إلى نوع من الانسجام في الدّلالات القرآنية. أمّا القراءة الثانية فهي تعتبر أنّ النّص القرآني يتميّز ببنية متكاملة تجعل منه معادلا  للوحي الإلهي في التّاريخ وبديلاً عنه في مرحلة ختم النبوة. 
اعتنى بمثل هذه القراءة بعض الدّارسين المحدثين مثل «فضل الرحمن» فأكّد في مطلع كتابه «الإسلام وضرورة التحديث»(18)، أنّ تعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة إنّما يرجـــع إلى «الافتقار إلى المنهــج الصالح لفهم القرآن نفســـه». هو بذلك يرجّح القراءة التركيبية للبنية القرآنية التي تكتسب مشروعيتها من استمرارية الحفظ الإلهي للنّص الموحى. هي قراءة ذات بعدين: بعدٌ يجعله موصولا بعصر النّزول وظرفيته في مستواه الآني بتقديم ما يستلزمه ذلك المستوى من حلول تناسبه. ثم هناك بعدٌ ثان لهذه البنية يتجاوز بها تلك الأحداث الظرفية للوصول إلى القيم الثابتة والمقاصد الموجّهة التي تصبح بمثابة التّكليف الذي ينبغي أن يسعى المؤمنون إلى مقاربته. لذلك فالمنهج التّركيبي يعتمد في مقاربته للنّص القرآني على أكثر من مستوى في الفهم : فهناك مستوى الزمن القرآني وهناك مستوى الكليات القرآنية . البنية القرآنية تاريخية من حيث معالجتها للحدث الظرفي القريب لكنها في ذات الوقت متعالية عليه منفتحة على مختلف الأوضاع والأزمنة وعلى المؤمنين أن يتحرّوا في تعاملهم مع تلك البنية الصّلة التقابلية الجدلية  لبلوغ ما هو أقوم وأزكى.  
هذا التعدّد في طبيعة البنية القرآنية يضع أساسا للحركة الفكريّة والاجتماعيّة التي تسعى إليها الأمّة وهي تنتقل من طور إلى آخر. عند الوقوف على المنطق الذي حكم  التّشريعات المنصوص عليها في فترة التّأسيس يتاح المجال لعلماء الأمّة في مستقبل الأيام وكلّما دعت الحاجة أن يتزوّدوا بما يمكّنهم من صياغة تعاليم القرآن ومنطقه بشكل حيّ وفعّال.
أما إهمال هذا المنهج فإنه يؤدي عند بحث موضوع الوحدة والاختلاف إلى انتهاك حرمة الإنسان الذي كرمه الله تعالى وذلك في مستويين اثنين: هو استخفاف بإيمان الآخر  وعدم احترام خصوصيته وهو في ذات الوقت إعراض للذّات عن وظيفة الاستخلاف التي تعتمد جدل المؤمن مع واقعه من جهة وحواره مع النصّ من جهة أخرى(19) .
أكثر الأمثلة تعبيرا عن ذلك المستوى الأول من التّعامل التّجزيئي المعرض عن طبيعة البناء القرآني وتوجهه في العلاقة مع الآخر المختلف نجده في طلب «البهلول بن راشد» في القرن الثاني الهجري وهو أحد كبار علماء إفريقية، من أحد أصحابه الذين اشتروا له زيتا من نصراني زاد في الكيل تبرّكا بالبهلول، طلب إرجاع الزّيت إلى النّصراني قائلا : «إني أخاف أن أجد في قلبي مودّة إلى ذلك الذمّي»؟     
مقابل ذلك فإنّ المدونة الفقهيّة التي تركها مثلا الونشريسي، الفقيه المالكي المغاربي في القرن العاشر الهجري سجلت تعاملا مغايرا مع الآخر المختلف مؤكدا أهمية المقاربة الدلالية التركيبية للنص القرآني وأثرها في التألق الحضاري والفكري في الغرب الإسلامي(20) .
ما يمكن أن يقال في كلمة أخيرة بأنّ الغلو والتّكفير ليسا سوى ظواهر تاريخيّة قابلة للتّجدد لكنّها تظلّ محكومة بجملة التّصورات والفهوم التي نؤسس عليها الإيمان. يظهر هذا بجلاء في موضوع التعدّد والاختلاف وصلته الوثيقة بالبنى الفكريّة والعقديّة التي تشكّل ما يعتبر « ثقافة دينية» والتي تختلف عن جوهر الدّين ذاته. فإذا كان هذا الأخير مؤدٍ إلى الإيمان الذي يعني الطريق المميزة للقاء بالله فلا بدّ من الوصول إلى أنّ ذلك الإيمان لا يمكن أن يستنفد غنى كلام الله وعلمه ورحمته، كما أنّه يتمثّل الخصائص الثقافية والنفسية والحضارية للجماعة التي يزدهر فيها. لذلك فإنّ نفس ذلك الإيمان يفترض الإقرار بأنّه هبة من الله سبحانه وهو يعبر من جهة الإنسان عن اختيار وشهادة وأنّه في المسلكين مرتبط بقيمة مؤسِّسة هي الحرّية التي لا تنفك عن حقّ الاختلاف في الفهم والرّؤية والتّأويل.
الهوامش
(1) راجع روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، دار المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط1 2006.   
(2)  سورة البقرة 2/ 256.
(3)  سورة الكهف 18/ 29.
(4)  سورة الرعد 13/ 22.
(5)  سورة الفرقان 25/ 63.
(6)  سورة فاطر 35/ 24.
(7)  سورة يونس 10/99.
(8)  سورة المائدة 5/ 48.
(9)  سورة البقرة 2/ 62.
(10) سورة المائدة 5/69.
(11) سورة النساء 4/123 و124.
(12) سورة الإسراء 17/70.
(13) سورة القصص 28/56.
(14) يقول ابن العربي في خصوص آية لا إكراه في الدين: « هو عموم في نفي إكراه الباطل أما الإكراه بالحق فإنه من الدين و هل يقتل الكافر إلا على الدين «، انظر أحكام القرآن، تحقيق محمد علي البجاوي، ج1 ص 233، دار إحياء التراث العربي، بيروت د. ت .     
(15) سورة الغاشية 88/21 و22.
(16) سورة الإسراء 17/15.
(17) سورة المائدة 5/105.
(18) ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، لندن ط1،1993.
(19) راجع السيد محمد حسين فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي و آفاق المستقبل، فصل الاختلاف بين التعددية و المسؤولية الإيمانية، المركز الثقافي العربي، ط1 بيروت 2009.  
(20) راجع احميده النيفر، النص الديني والتراث الإسلامي قراءة نقدية، فصل الآخر و الهوية و التراحم، دار الهادي ط1 بيروت 2004.