في الصميم

بقلم
البشير ذياب
إصلاح التعليم بين مثالية المأمول وواقعية الممكن
 بدأ الحديث في الدوائر السّياسية والثقافة والتّربوية عن إصلاح المنظومة التّربوية، وهي خطوة نثمّنها ونتمنّى أن تتّجه في الاتّجاه الصّحيح وأن تأخذ بعدا وطنيّا بعيدا عن التّحكم الإيديولوجي الذي طبع المناهج التّعليمية القديمة، وأن يأخذ هذا الإصلاح في حدّه الأدنى بالقيم الإنسانية المشتركة التي يجب أن تتربّى عليها النّاشئة كي لا نعيد إنتاج نفس الأخطاء.
اليوم وفي ظلّ الثّورة الإعلاميّة وموجة العولمة التي حوّلت العالم لغابة صغيرة لا بقاء فيها إلاّ للأقوى، لا يمكننا الحديث عن الإصلاح «الرعواني» الذي لا تضبطه إستراتيجيات سياسيّة وطنيّة طبقا لقواعد علميّة حديثة تحيط بكلّ المؤثّرات الجانبيّة لثقافة العولمة، التي يتماهى معها الكثير من نخبنا السّياسية والثقافية والعلمية، وقد بدى ذلك جليّا أثناء صياغة الدّستور حين إعتبر أحدهم أنّ التّنصيص على تجذير النّاشئة في هويّتها العربيّة والإسلاميّة وترسيخ اللّغة العربيّة في الدّستور أمر كارثي سيجعلنا متخلّفين معتبرا اليوم الذي تمّت فيه المصادقة على الفصل 38 من الدستور يوما أسودا في تاريخ تونس.
عملية الإصلاح التّربوي هي عملية معقّدة يتداخل فيها التّربوي بالثّقافي بالسّياسي، كما تتداخل فيها المؤثّرات الداخليّة بالخارجيّة، ولا يمكن لدولة غير متماسكة إجتماعيّا تمزّقها الدّواوير النّقابية والإيديولوجيّة والمزايدات السّياسية أن تصوغ برنامجا تربويّا وطنيّا لا يؤخذ فيه بالنّظر إلاّ لمسلّمات النّقاوة الوطنيّة والإنسانيّة والتاريخيّة.
فالنّظام التّربوي هو قرار سياسي والمنظومة الثّقافية أيضا هي قرار سياسي وبالتّالي فإنّهما يخضعان لما يخضع له القرار السّياسي ويراعى في صياغتهما ما يجب أن يراعى في اتّخاذ القرار السّياسي، فوحدة الجبهة الدّاخلية، وقوّة الجهاز العسكري وقوّة الجهاز الأمني، هي من ثوابت حرّية القرار السّياسي، أمّا ونحن مازلنا مرتهنين لضواري غابة العولمة بدءا من  « البذور والمشاتل» ومازلنا نستورد جزءا من الخبز لموائد إفطارنا، ونعتمد في إقتصادنا الوطني على سياحة « الشّمس»، لا أظنّ أنّه بإمكاننا اتّخاذ قرارات سياسيّة صارمة تتجاوز الخطوط الحمراء لقوانين ثقافة العولمة، وبالتّالي على القيادات السّياسية وقبل إصلاح المنظومة التّربوية ونحن في دولة فلاحيّة أن تتبنّى برنامجا وطنيّا لبناء منظومة زراعيّة متطوّرة، حتّى نحقّق أوّل بنود سيادتنا وهو قوتنا اليومي، أمّا سياحة الفقراء الذين يبيعون أمتعتهم على قارعة الطّريق فلا أظنّ أنّنا سنحقّق بسياحتهم طفرة إقتصاديّة تذكر ولو كانوا بالملايين .
لا يمكن أن نتحدّث عن إصلاح المنظومة التّربوية إلاّ في إطار إستراتيجيّة شاملة للإصلاح تحدّد فيها بكلّ دقّة العلاقة بين جميع القطاعات والتّنظيمات بما فيها علاقة السّلطة بالمعارضة وعلاقة التّنظيمات النّقابية بالسّلطة، فلا يمكن أن نتحدّث عن إصلاح في إطار من الفوضى تتحكّم فيه المعارضة والتّنظيمات النّقابية برقاب النّاس.
في هذه الفوضى التّنظيمية لا يمكن للسّلطة الحاكمة أن تتّخذ قرارات سياسيّة يمكن أن تبنى عليها استراتيجيّات سياسيّة وإقتصاديّة وثقافيّة ذات جدوى، فالقرار السّياسي كما يتأثّر من الدّاخل  بالوضع السّياسي والإقتصادي والمجتمعي والعسكري والأمني يتأثّر كذلك بالتّفاعل بين المجتمع السّياسي ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة وكذلك بالوضع الإقليمي والدّولي خاصّة  إذا كانت هذه المنظّمات مخترقة لفائدة طرف ما سيتأثّر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بهذا القرار، خاصّة إذا كنّا نتحدّث عن منظومة تربويّة أو ثقافيّة ستؤسّس لنمط إجتماعي وسياسي وإقتصادي وطني، لذلك بعثت منظّمات عابرة للقارات تعنى بهذه القطاعات الحسّاسة كالتّربية والثّقافة والعلوم والصّحة وحقوق الإنسان وغوث اللاّجئين والأعمال الخيريّة وغيرها كثير، فهي في جلّها لم تبعث على سبيل حسن النّوايا وحبّ الخير للإنسانيّة فحسب وإن كان هذا جزء من مهامها، وما يحدث في الأمم المتّحدة خير دليل على أنّ هذه المنظّمات أحدثت لخدمة الكبار ورعاية مصالحهم وتثبيت ثقافتهم بما يمكن من إرتهان الشّعوب المتخلّفة لخياراتها السّياسية والإقتصادية، أو أن تجعل من خلالها دول العالم النّامي ساحة خلفيّة لها تمارس فيها تجاربها المخبريّة في هذه القطاعات ومنها تجربة التّعليم الأساسي الذي نعاني اليوم من أثاره المباشرة والجانبيّة والتي ستستمر أربعين سنة أخرى.
كلّ القرارات السّياسية تتطلّب محطّات ترتيبيّة تهيّء لها، وتضمن لها حظوظ النّجاح، وقرار إصلاح المنظومة التّربوية إن صحّ منطق الإصلاح من المفترض أن تسبقه محطّات ترتيبيّة عديدة من أهمّها إصلاح قطاع الإعلام وقطاع الثّقافة، فلا يمكن أن نتحدّث عن سياسة تربوية جديدة تعنى بالجانب القيمي والأخلاقي للناشئة في هذا التسيب والإنحطاط الأخلاقي والقيمي للمنظومة الإعلاميّة فما هو جدوى أن يلقن التّلميذ الأخلاق والإحترام والقيم في المدرسة ثم يعود للبيت فيسهر على برامج المجون والإنفلات الأخلاقي وتبييض الزّطلة والمخدّرات وعرض المشاكل الجنسيّة والخيانة الزّوجية على الهواء، وأمام التّرهل في المجال الثّقافي وإنتقال السّينما من المواضيع الرّاقية التي تتحدّث عن المشاكل المجتمعيّة إلى بيوت الدّعارة وحمام النّساء، وهبوط الموسيقى إلى مستوى حوماني وقبي قبي، والإندثار الكلّي لدور الثّقافة والغياب التّام لكلّ نشاط رياضي وثقافي وأدبي وعلمي للنّوادي المدرسيّة، فإنّ المؤسّسة التّربوية لن تكون قادرة بمفردها على المحافظة على القيم الثّقافية والإنسانيّة التي تلقنها للنّاشئة، فما يكتبه المربّي بالنّهار تمحوه غربان اللّيل النّاعقة. 
أحد النّخب الإعلاميّة وهو رئيس تحرير لإحدى الصّحف اليوميّة وفي معرض تعليقه عن الإستشارة الوطنيّة تطرّق إلى أنّ المهمّة الرئيسيّة للمدرسة هي تعليم التّلميذ القراءة والكتابة والحساب، يضيف الصّحفي الشّاب في نفس البرنامج أنّ المدرسة تعلّمه أيضا كيف يفكّر، فيردّ الصّحفي المتمرّس، لا ...إذا علمته القراءة والكتابة والحساب سيتعلّم بنفسه كيف يفكّر، كلام يبدو أنّه يريد أن يفرّغ المؤسّسة التّربوية من قيمتها المضافة التي تحدّثنا عنها في مقال سابق وهي تعليم القيم والأخلاق والمواطنة وحبّ العمل والسّلوك الحضاري والتّعايش السّلمي، وأمام ترهّل قطاعي الإعلام والثّقافة وتغييب دور المسجد في التّربية والتّثقيف تحت عناوين مختلفة وغياب الدّور الأساسي للأسرة في تربية الأطفال بحكم تطوّر نمط العيش للأسرة وإستقالة الوالدين من دورهم التّربوي لفائدة دور الحضانة ورياض الأطفال التي ليست أحسن حالا من المؤسّسة التربوية، فإنّنا نتساءل من سيقوم إذن على الجانب الرّوحي للنّاشئة، للأسف فإنّ مثل هذا الرّأي يتبنّاه الكثير من المنخرطين في عملية الإصلاح، والذين قد يكونوا لهم القول الفصل في مسألة إصلاح التّعليم والذي تريد بعض الدّوائر الإعلاميّة والسّياسية والثّقافية أن يقتصر على الجانب التّقني من التّعليم أي إعادة المنظومة التّعليمية البورقيبيّة وهو السّقف الأقصى المنتظر في هذه العملية الإصلاحيّة.
يمكن أن نستنتج وبعد الإنطلاقة الفعليّة للحوار حول التّعليم أنّ البداية وحتى نكون إيجابيين منقوصة، ولا يتناسب فيها العنوان مع المحتوى الفعلي على أرض الواقع، فما هو وطني العنوان لا يمكن أن يختصر في ثلاثة أطراف، وإذا بدأنا منذ الإنطلاقة الأولى بالشّريك الحصري والمشارك الهامشي فإنّنا لن ننتظر مخرجات يمكن أن تكون وطنية فعلا، فنفس المقدّمات لا تؤدّي في أغلب الأحيان إلاّ إلى نفس النّتائج خاصّة إذا علمنا أن من أشرفوا على الإصلاح السّابق وساهموا في تنزيله هم أنفسهم من يدور حولهم فلك الإصلاح هذه المرّة.
نتمنّى في النّهاية أن يتعقّل المشرفون على هذه العمليّة الإصلاحيّة وأن يتيحوا الفرصة لجميع الكفاءات الوطنية القادرة على الإضافة في ميدان التّربية والتّعليم بعيدا عن نرجسية الشّركاء الحصرييّن وبعيدا كذلك عن شعبويّة المشاركين الهامشييّن، كي تتمّ هذه العملية المعقّدة في إطار من الهدوء والتّوافق الإيجابي كي نتمكّن في النّهاية من الخروج بالحدّ الأدنى المطلوب لحفظ المؤسّسة التعليميّة بكلّ مخرجاتها من التّردي القيمي والأخلاقي والعلمي الذي تردت فيه.
-------
- أستاذ
bechir_dhieb@yahoo.fr