قول الحق

بقلم
نجم الدّين غربال
آليات تمويل مُبتكرة لمواجهة الفقر والبطالة
 لا يختلف عاقلان في أن الصعوبات الاقتصادية والمالية التي تمر بها بلادنا تحول دون توفير فُرص عمل إضافية من شأنها أن تمتصّ أعدادا من العاطلين عن العمل والذين كانوا وراء ما تشهده البلاد من احتجاجات.
 كما أنّ هذه الحالة تتطلّب تعبئة جميع الموارد المالية وعدم الاكتفاء بما يقدّمه الجهاز المالي التّقليدي في بلدنا المثقّل بإشكاليات الهشاشة وضعف الحوكمة وندرة السّيولة.
ولا يخفى على احد أنّ حاجة اقتصادنا مستمرّة ومتزايدة إلى تدفّقات مالية إضافيّة في ظلّ انخفاض معدل الادّخار المحلّي وكذلك حاجته وحاجة مجتمعنا لأدوات ماليّة مبتكرة لمتطلّبات تخفيف وطأة الفقر ومحاصرة ظاهرة البطالة وما تسبّبه من تفاوت يجعل استقرار البلد هشّا وأهداف التّنمية في مهبّ الرّيح.
 ونحسب أنّ في تجارب الشّعوب كما في مخزوننا الثّقافي والحضاري أدوات وآليات تمويليّة تفي بالغرض وتساهم في رفع مُجمل التّحديات التّنموية التي لا تزال تراوح مكانها إن لم نقل بتفاقمها.
ومن هذه الآليات نذكر ما يلي :
إقامة بنك للفقراء
انطلاقا من القناعة القائلة بأنّ الفقراء ليسوا هم الذين صنعوا الفقر وأنّهم في حاجة إلى بنك خاصّ بهم نظرا لأنّ البنوك التقليدية بالشّروط التي تضعها لا يمكن إلاّ أن تكون بنوكا للأغنياء كما ذهب إلى ذلك البنغالي «محمد يونس» أستاذ الاقتصاد والمتحصّل على جائزة نوبل للسّلام سنة 2006، فإنّه لابدّ من إقامة بنك للفقراء تكون الأولويّة لديه تمويل كلّ من كان في حاجة إلى المال عبر قروض صغيرة موجهة أساسا لمن ليس له عمل أو أرض أو دخل.
خلق مؤسسات ذات طابع اجتماعي
ضمن مقاربته لمواجهة الفقر أطلق «محمد يونس» في الندوة التي نظّمها البنك الإفريقي للتنمية (BAD) سنة 2013 بتونس شكلا جديدا للمؤسّسات تكون فيه هذه الأخيرة قادرة على حلّ جـــزء مــن مشاكل الفقــــر يُطلق عليها صفــــة «الأعمال الاجتماعيّة» (Social Business ou Entreprise Sociale ) وتكون أولى أولويات هذه المؤسّسات إيجاد حلول لضعاف الحال وليست مجرّد أداة ليحصلوا على مداخيل شخصيّة. 
ويُعتبر هذا النّوع من الأعمال استثمارا بدون كسب ناتج عن توزيع الأرباح ممّا قد يصدم المستثمرين المرتقبين، إلاّ أنّه قد يجد من يدافع عنه وينخرط فيه ممّن يريدون الإحاطة بالفئات المعدمة. فعوضا عن تقديم هبات يمكن لهم أن يستثمروها في خلق مؤسّسات اجتماعية.
وتعتبر هذه المؤسّسات بالنّسبة لمحمد يونس حلاّ لمواجهة مشاكل الفقر والبطالة التي تعاني منها البشريّة خاصّة وأنّ لها من الوسائل التكنولوجيّة والموارد البشريّة الضروريّة التي تمكّنها من تجاوزها.
لقد اعتبر «محمد يونس» أنّ دولارا واحدا له حياة واحدة حين يعطى لمتسوّل بينما مثله حين يرصد للأعمال الاجتماعية يمكن أن يستثمر مرّات ومرّات، فهو يعتبر أنّ كل ما نواجه مشكلة اجتماعية نخلق لها مؤسّسة كحلّ لهذه المشكلة.
وككلّ مؤسّسة ناجحة تفرز مؤسّسات «الأعمال الاجتماعية» أرباحا ويقع إعادة استثمارها في نفس هذا النّوع من الأعمال وبالتّالي يمكن للمستثمر أن يسترجع مساهماته الأصليّة.
أمّا مجالات هذه الأعمال فهي التّعليم والتّكوين والصّحة والتّغذية وكذلك مواجهة الإقصاء والحفاظ على حقوق الإنسان وحماية البيئة والتّنمية المستدامة والاندماج والتّنمية الاقتصادية.
فأينما تتدخّل المؤسّسات الاجتماعية تظهر إرادتها في إحداث تغيير عميق في المجال الذي تتدخّل فيه، فنشاطها وكذلك هدفها يتمحور حول الإنسان باعتباره رأس مال حقيقي ذا قدرات والمطلوب إعطاؤه الإمكانية والأدوات التي بها يعبر عن تلك القدرات ويحمي وجوده ويحسن ظروف حياته ليقي نفسه والآخرين الفقر ويطرد شبح الحرمان عنهم. 
التمويل بالقرض الحسن
القرض الحسن هو قرض لا يكون فيه أي نوع من أنواع الفوائد، فهو دين لفترة زمنيّة محدّدة على أن يردّ دون زيادة أو نقصان ويكون عادة لغايات إنسانيّة واجتماعية ويحقّ للجهة المموّلة فرض رسوم رمزيّة مقابل مصاريف إداريّة تحمّلتها في سبيل منح هذا القرض ولا تمتّ بصلة لقيمة ومدّة وهدف هذا القرض، كما ذهبت إلى ذلك الشّبكة الفلسطينية للإقراض الصغير ومتناهي الصغر سنة 2003.
  ويعطى هذا النوع من آليات التّمويل الإسلامي للمتعامل فرصة لشراء ما يلزم لمشروعه بحرّية وهو سهل التّطبيق.
 تفعيل آليتي الزكاة والوقف
تتصدّر الصّدقة وأساسا الزّكاة والوقف الوصفة الإسلاميّة التي بها يمكن احتواء آفة الفقر والتّخفيف من وطأة البطالة.
وقد تركت الصدقة تطوّعا لتمكين الجميع من المشاركة والمنافسة في عملية التّمويل ولجعلها سلوكا اختياريّا ليساهم الإنسان في مواجهة الفقر ويلتصق إحساسه بإحساس المحرومين والمهمّشين والمقصيين وليعرف مدى كرمه ودرجة حسّه الإنساني وكذلك لإمكانيّة إعادة توزيع أكبر مبلغ ممكن من المال مهما كان المبلغ المتصدّق به وذلك اعتمادا على جذب أكبر عدد ممكن من المتصدّقين.
 بينما فرضت الزكاة (الآية 60 سورة التوبة) لتوفير نصيب ماليّ معلوم ودوريّ لإحداث التّوازن بين فئات المجتمع في المجال الاقتصادي وللحيلولة دون تعميق التفاوت الاجتماعي، كل ذلك حرصا على تجذير معاني الوحدة والتآخي بين أفراد المجتمع الواحد واجتناب عوامل الفرقة والضغينة بينهم.
ويمكن إقامة صندوق وطني للصّدقات ووضع منظومة متكاملة للزّكاة من بيئة تشريعيّة وتصوّرات قيمية ومقاصدية وهيكلة مُؤسّساتية مرنة وفاعلة ذات حرفيّة عالية ومهام دقيقة غرضها الإسهام في بناء المجتمع  والمساهمة في توفير التّمويل اللازم لحلّ المشكلات الاجتماعية من فقر وبطالة. 
كما يمكن للدّولة التونسية أن تشجّع دفع الزّكاة على غرار الدّولة الماليزيّة من خلال خصم قيمة الأموال التي تدفع للزّكاة من مجموع الضّرائب السّنوية المترتّبة على الأفراد والمؤسّسات الذين قاموا بزكاة أموالهم نظرا للنّفع الكبير الذي ستحقّقه الزّكاة على المستوى الاجتماعي وما له من انعكاسات ايجابيّة على الاستقرار.
وبعيدا عن المغالطات التي تُشاع هنا وهناك يمثّل الوقف أحد هذه الآليات لمعالجة مشاكل اجتماعية ورفع تحديات تنموية وأي تعطيل لهذه الآليّة هو حرمان للفئات الفقيرة من حقّهم في الصّحة والتّعليم ...
وقد استفادت دول مدنيّة عريقة من هذه الآلية وغيرها من آليات التّمويل الإسلامي لمواجهة أزماتها المالية ومشاكلها الاجتماعيّة تحت مُسمّيات مختلفة.
وعلى الدّولة التونسية أن تقف في صف الفقراء والمحرومين وأن تستحضر أنّه من أهداف الدّولة المدنية تحقيق سبل القوّة والمناعة للمجتمع وبالتالي لا يسعها إلاّ قبول الآليات التي تفرزها مرتكزات هويّة المجتمع لكي لا تفقد شرعيّتها باعتبار أنّ الدّولة المدنيّة تستمدّ شرعيتها من المجتمع الذي يستأمنها على تنفيذ خياراته وتصوراته.  
 و قد ساهم الوقف في معالجة الفقر بأبعاده المختلفة في فترات متعاقبة من تاريخنا التونسي ثم تراجع إلى حدّ الإلغاء( كما تمّ في في العهد البورقيبي) وما يمكن التأكيد عليه هو حضوره سابقا في مجال فعل الخير للنّاس وقدرته اليوم كذلك على المساهمة في مواجهة الفقر وذلك من خلال :
* تنمية مجال القيم (الحرّية – التّعاون – الأخوّة - التّكافل...) من خلال إنشاء المساجد  وتوسعتها ودور القرآن التي تعنى بتدبّر القرآن.
* تنمية المجال التّعليمي من خلال إنشاء الجامعات والمدارس والمراكز التعليمية  والمكتبات العلميّة وتزويدها بكلّ ما من شأنه أن يخدم العلم والمعرفة وأهلهم ومساعدة طلاّب العلم فيما يعينهم على الاستمرارية في طلبه وتحصيله وكذلك البحث المعمق لأمهات قضايا المجتمع.
* تنمية المجال الصّحي من خلال بناء المستشفيات (مستشفى عزيزة عثمانة بتونس مثلا) والمراكز الصّحية.
* تنمية اجتماعيّة عبر إنشاء الجمعيات والمؤسّسات التي تتولّى العناية بالفئات الاجتماعية التي تفتقد لمن يعتني بها ( الأيتام والمساكين والفقراء والأرامل والمطلقات  والعجزة) وإعانة الشّباب والشّابات العارضين للشّغل أو الرّاغبين في الزّواج وكذلك ذوي الاحتياجات الخاصّة.
فالوقف كما سبق لا يهدف إلى معالجة الفقر فقط بل يستهدف أسبابه أيضا من خلال إنشاء هياكل تسهر على حسن الأداء خدمة للإنسان ولسلامة المجتمع.
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com